12/05/2024 - 17:46

التجمع: ما بين مؤتمره الثامن وعقده الرابع

لا يمكن مواجهة تيار صهيوني إلا بتيار وطني، ولا يمكن أن يكون التيار الوطني متصالحًا مع معسكرات الصهيونية ويفاضل بينها، أو نسخة مزيفة عن الموحدة تريد الإمساك بالعصا من الوسط، وترى وظيفتها جزءًا من مشهد الصراع الحزبي الإسرائيلي...

التجمع: ما بين مؤتمره الثامن وعقده الرابع

(Getty)

يعقد التجمع الوطني الديمقراطي مؤتمره الثامن في مطلع شهر حزيران/ يونيو المقبل، قبيل أقل من عام على ذكرى تأسيسه الثلاثين. ويأتي هذا المؤتمر في مرحلة حرجة جدًا للعمل السياسي العربي، بعد حل الائتلافات/ التحالفات بشكل نهائي بين الأحزاب العربية وإعادة الفرز والاصطفاف الحزبي من جديد، وبعد مد وجزر دام سبع سنوات منذ تأسيس القائمة المشتركة في العام 2015 مرورًا بتفككها وتشكيلها من جديد مرتين، في مقابل حظر الحركة الإسلامية الشمالية وانتخاب سياسي (غير توافقي) لرئاسة لجنة المتابعة، وصولًا إلى خوض الانتخابات البرلمانية بثلاث قوائم مرة أخرى وخروج التجمع من التمثيل البرلماني.

إلا أن إعادة الاصطفاف الحزبي لم يعن مجرد تفكك التحالفات أو تراجع الأحزاب لمواقعها السابقة، بل فرز تيارات وبرامج سياسية جديدة لعمل الأحزاب الممثلة بالبرلمان نتجت عن الرغبة الجامحة بجر المجتمع العربي إلى لعبة السياسة الإسرائيلية من منطلقات مختلفة، مثل الرغبة الصادقة والحقيقية بالتأثير وتحقيق إنجازات للمجتمع العربي، مرورًا بتوجهات مارستها السلطة الفلسطينية على الأحزاب لتشكيل كتلة مؤثرة لتغيير الحكم في إسرائيل، إضافة إلى رغبة الجبهة بالهيمنة على المشهد السياسي حد مصادرة القرار السياسي للأحزاب الأخرى التي اتخذت موقف الحياد، أو وقفت عاجزة، وصارعت البقاء واستثمرت وحدة الأحزاب للحفاظ على تمثيلها دون جهد جدي يذكر، ومنها - التجمع الوطني الديمقراطي.

هذه العملية عمدت إلى مناورات سياسية وإعلامية مختلفة لسنوات إلى أن شكلت رأيًا عامًا في المجتمع العربي يدعم نهج المشاركة في لعبة المعسكرات الإسرائيلية والصراع على الحكم في إسرائيل، وذلك رغبةً في إسقاط حكم اليمين برئاسة نتنياهو، إضافة إلى شعور عام بقوة التمثيل العربي بعد ازدياده عدديًا. إلا أن هذا الخط أحدث إزاحة غير مسبوقة في الفعل السياسي العربي بدأت بمحاولة لعبه المعسكرات، وتوّجت بقرار الخوض في حسابات التوصية لتشكيل حكومة، وطرح مشروع الكتلة المانعة شكلًا ومضمونًا، الأمر الذي فتح الباب في ما بعد لقرار الحركة الإسلامية الجنوبية بالتقدم خطوة أخرى وتهيئة الظروف للدخول في الائتلاف الحكومي برئاسة نفتالي بينيت، والمشاركة فعليًا في السلطة واتخاذ القرار الإسرائيلي بشروط الاستسلام للمشروع الصهيوني، وحدوث تغيير جوهري في الإجماع الصهيوني الذي قبل بهذه المشاركة، ما حول معادلة التمثيل إلى الرغبة بالتأثير. وأصبح هذا التأثير وخوض لعبة المعسكرات موضوع تنافس بين الأحزاب تحت مسميات مختلفة؛ ما بين المشاركة الكاملة في السلطة وفق قواعد اللعبة الصهيونية (الإسلامية الجنوبية)، وبين الاندماج الناعم بقواعد اللعبة الإسرائيلية (تحالف الجبهة)، أي أن المفاضلة أصبحت بين التصهين وبين والتأسرل.

فشل التجمع في صد هذا النهج، رغم إعلانه جهارًا بمعارضته له، وذلك رغبة منه في "الحفاظ على القائمة المشتركة" ومطلب وحدة الأحزاب؛ إلا أن مهمة الحفاظ على فكرة المشتركة من وجهة نظر تجمعية كإطار سياسي قومي جامع للعمل الجماعي وداعم لدور المتابعة كمؤسسة عليا تمثل العرب كأصحاب الأرض، تحولت إلى مجرد الحفاظ على قائمة وإطار لوجود ممثّلين في الكنيست عن الأحزاب التي تشارك في البرلمان، بدلا من الإصرار على تطوير القائمة المشتركة وتصويب خطابها وفعلها السياسي، كترشيد خطابها والمبادرة إلى فتح نقاشات تقويها لتوسيع وتطوير برنامجها المكتوب، وعدم القبول بها كإطار أهم من لجنة المتابعة، وذلك رغم محاولات ضغط متواضعة من قبل التجمع، مثل إصدار بيانات ومعارضة علنية وصياغة قانون أساس دولة جميع مواطنيها، من أجل فرض خطاب سياسي يمثل رؤية التجمع.

ولكن في المحصلة، أخفق التجمع في جميع محاولاته تارة، ومن خلال خضوعه لتيار الجبهة تارة أخرى، وهذا الإخفاق كلف التجمع غاليًا، وكاد أن يصفي مشروعه وتنظيمه.

"نهاية التاريخ الحزبي" واحتراف اللعبة الإسرائيلية

في نظرة إلى الوراء، شكلت وحدة الأحزاب العربية برلمانيًا في قائمة مشتركة بداية جديدة مختلفة عن العمل الحزبي والسياسي ما قبل عام 2015، وبدأت بزخم كبير نبع من نشوة الوحدة وقوة التمثيل العربي، والثقة الكبيرة التي وضعها المجتمع العربي بهذا التحالف، وسرعان ما كان رد فعل الأحزاب مجتمعة على هذا التطور والثقة التي حازت عليها إلى فعل سياسي مناقض لسبب تلك الوحدة ومرجعتيها، التي استندت إلى العرب كمجموعة قومية وسياسية. وتعاملت الأحزاب مع هذا التطور "كنهاية التاريخ" ونهاية العمل السياسي والحزبي السابق؛ فتحوّل مشروع الجبهة الرئيسي بقيادة أيمن عودة إلى تشكيل كتلة حرجة لا يمكن تجاهلها من أجل تشكيل أي حكومة مناقضة لمعسكر نتنياهو، بدلا من مشروع "قائمة العرب" وتقوية عودها، وسرعان ما دعم هذا النهج كل من الحركة الإسلامية الجنوبية والعربية للتغيير، مع تحفظات بسيطة تقنية أو بصراعات شخصية ومنافسة بين أيمن عودة وأحمد الطيبي حول الظهور الإعلامي، إضافة لنهج اتخاذ قرارات محافظ ومتردد من قبل الحركة الإسلامية بقيادة النائب مسعود غنايم.

في مقابل ذلك، لم تجد معارضة التجمع نفعًا رغم زيادة حدتها أحيانًا، قبل أن تتحول إلى القبول والخضوع لنهج الأغلبية في المشتركة. أدت التطورات والحصار الحزبي والجماهيري للتجمع في نهاية الأمر إلى إضعاف خطاب التجمع وفقدان وزنه الجماهيري، بعد أن ساد خطابه لأكثر من عقدين من الزمن.

فمثلًا في العام، 2015 لم توقع القائمة المشتركة فائض أصوات مع حزب ميرتس بسبب رفض التجمع، وفي حينه تمت مهاجمة التجمع بشدة. بعدها اتضحت صحة هذا الموقف بعد تحالف ميرتس مع إيهود باراك؛ وفيما بعد ستتضح صحة موقف التجمع من رفضه التوصية على غانتس، وعدم تأثير ذلك على إسقاط نتنياهو أو تحصيل إنجازات، مع العلم أن غانتس نفسه لم يكن معنيًا بتوصية العرب، وذهب لإقامة حكومة وحدة وطنية.

الخروج من الحصار إلى الحصار...

لم يقتصر إخفاق التجمع على الفشل السياسي وفقدان خطابه وقاعدته الجماهيرية الوطنية حينها، بل بضعف قوته البرلمانية والتنظيمية؛ وقد نتساءل كيف ينجح التجمع بالعودة من جديد بعد كل معركة للحضور الجماهيري؛ إلا أن التجمع تعلم من تجربته الصعبة، ومفادها أن ابتعاده عن خطابه ومشروعه يضعفه من جهة، ولا يكسبه أي تأييد من قطاعات أخرى من جهة ثانية. بكلمات أخرى، عندما حاصر التجمع نفسه بنفسه لم يعد قادرًا على الانعتاق من توليفة تحالف الجبهة التي حاصرته وفرضت شروطها سياسيًا وانتخابيًا؛ ولم يعد قادرًا على أن يستعيد جمهوره بعد أن حاد عن خطابه، وأصبح فائضًا عن الحاجة في الخارطة السياسية، حينها، إلى حد ما بفقدان تميزه وانخراطه شكلًا ومضمونًا في تحالف بسيطرة الجبهة. لكن المرجعية الفكرية والمشروع الذي أسس عليه التجمع، وتحرر تنظيمه من الاستئثار بالقيادة، شكلت أرضية لاستعادة مكانته وموقعه السياسي، حيث انتخب قيادة جديدة شابة في مؤتمره السابع 2016، إضافة إلى تغيير قيادته البرلمانية مرة تلو الأخرى، وخوض رفاق التجمع نقاشًا علنيًّا مع قيادة الحزب وتنظيمه، لأسباب موضوعية تعود للأسباب التي قام التجمع من أجلها، والتي ما زالت قائمة حتى يومنا هذا؛ وهو الحزب الذي أخذ على عاتقه اجتراح المعادلة الأصح والأسلم، والأكثر واقعية، والأكثر كبرياء للفعل السياسي الجماعي المطلوب من الفلسطينيين في الداخل: الهوية العربية الفلسطينية هي صمام الأمان، والمواطنة هي واقع فرض علينا، نتعامل معه بموضوعية وجدية وحذر، ولكنه ليس مطية للهث وراء الحقوق كأنها منة، وهي ليست مواطنة حقيقية وكأننا نعيش في دولة عادية، لأننا في صراع مع محتلين. نحن أهل فلسطين وأصحابها، وإسرائيل هي استعمار تمثله الحركة الصهيونية، ولن تكون غير ذلك. لا يمكن المطالبة بالمساواة المدنية بدون بوصلة وطنية تحول دون التأسرل، ولا يمكن أن نرى بإسرائيل دولة ديمقراطية إن لم تكن دولة مواطنة حقة، ولا يمكن أن يكون العمل السياسي من دون ثمن.

مرت سنوات عجاف كاد أن يُسدل فيها الستار على هذا الخطاب، وعلى وعينا الجمعي وذاكرتنا الجماعية ومصيرنا المشترك، وأهمية تحصيل الحقوق بكبرياء لا بخنوع ووساطة وعمالة. هذه فطرتنا وهذه هويتنا، وعندما يمر شعبنا بأزمة وحالة حرجة كحملات هدم البيوت، أو الاعتداء على شبابنا وقتلهم من قبل الشرطة، نعود إلى المربع الأول في مصارعة دولة اليهود التي نهبتنا وصادرت أراضينا، وشردت أجدادنا وبنت مجدها على أنقاضنا.

التجمع لم يفهم العمل الحزبي والسياسي كمجرد عمل برلماني مقابل الوزارات والمؤسسات الحكومية، إلا أنه كان يتصدر هذا العمل بمشاريع مهنية وإبداعية، حيث الفعل الحزبي السياسي هو الإخلاص لهويتنا الفلسطينية وعدم نسيان نكبة شعبنا وصراعنا مع الصهيونية. ولذلك، يعود التجمع مرة تلو الأخرى ليكون حديث السياسة، وفي مركز أحداثها، داخل الكنيست وخارجها. هذا الإرث الفكري والسياسي للتجمع شكل أرضية صلبة صمدت إلى حد كبير مقارنة بالفشل في الأداء والتنظيم المذكور.

بعد السجال الطويل على مدار العام 2022 بين التجمع والجبهة حول أهمية تصويب المسار السياسي، ومطالبة التجمع بتغيير نهج الخوض في لعبة المعسكرات ومقايضة الحقوق، وعودة جزئية للنقاش السياسي والمطالبة بالمراجعة وتثبيت عقد التحالف، وطرح أسئلة جوهرية حول الفعل السياسي المنشود، شاءت الظروف أن يخوض التجمع انتخابات فرضت عليه أن يخوضها بمفرده، بقيادة النائب سامي أبو شحادة، الذي نجح خلال فترة قصيرة بأن يعيد للتجمع ثقته بنفسه، وأن يستعيد خطابه المعروف بدولة المواطنين والهوية الوطنية والقومية وتنظيم المجتمع إلى مقدمة النقاش. وقد خاض التجمع التجربة بعنفوان وقدرة عالية من التنظيم وفاجأ الجميع، وقد أصبح واضحًا أن ثمة تياراً وطني يرفض النهج السائد، ولا زال يؤمن بأهمية البحث المستمر عن المعادلة التي توازن بين إدارة واقع المواطنة، وبين الحفاظ على الهوية والانتماء. وهو تيار وطني وأخلاقي.

هل ما زالت معادلة التجمع صالحة للاستعمال؟

لم تكتمل المهمة، وإلى حد ما أثبت التجمع لنفسه أولا، أن ثمة حياة حزبية وفعلاً سياسياً خارج الكنيست، بعد أن كانت خسارته الأخيرة بطعم الانتصار؛ الانتصار للمشروع والخطاب والتنظيم. بعد سنوات من تراجع رصيده السياسي والجماهيري، إلا أنه منذ عام ونصف عاد التجمع لترتيب البيت الداخلي، وانضم إليه آلاف الأعضاء الجدد، وبعد أن نشط حراكه السياسي في الجامعات والسلطات المحلية ولجنة المتابعة العليا، وتنظيم ندوات أكاديمية وحوارية مع أطراف وطنية وديمقراطية، إضافة إلى العودة لمقارعة المجتمع الإسرائيلي من خلال خطاب ديمقراطي حديث يحرج دعاة الديمقراطية والتنور في المجتمع الإسرائيلي. فكان التجمع الحزب الوحيد الذي تعامل مع أزمة محاولة الانقلاب على القضاء بخطاب جذري نابع من رؤية التجمع وفكره، وذلك من خلال ظهور إعلامي مميز في الإعلام العبري والأجنبي، ومن خلال طرح موقف سياسي مستقل قدم قراءة لواقع الأزمة، صيغ بموقف مفصل باللغة العربية والعبرية ونشر بالصحف، عربية وعبرية، حيث اعتبر التجمع أن "حركة الاحتجاج على تعديلات القضاء لم تخرج إلى الشوارع بهدف إنتاج ديمقراطية حقيقية ومواطنة جوهرية متساوية، بل من أجل الحفاظ على معادلة ’يهودية وديمقراطية’، والتي تؤكّد على الديمقراطية الإجرائية القائمة والمستندة إلى مفهوم الفوقية اليهودية". ورأى أن هذه الاحتجاجات "ليست سوى نزاعات بين المواطنين اليهود ونخبهم على السلطة والهيمنة، ولا علاقة لها بالنضال الحقيقي من أجل نظام ديمقراطي. إن توقّع مشاركة المواطنين العرب الفلسطينيين في هذا الصراع هو توقع غير واقعي، ووقح إلى حد بعيد".

في مقابل هذا، استمرت الأحزاب الأخرى بقراءة مشهد الاحتجاجات على التعديلات القضائية بعيون الاصطفاف في المعسكر الإسرائيلي المناهض لنتنياهو ودعوة المواطنين العرب للمشاركة في الاحتجاجات دون أي ترشيد، بل ومشاركة قيادات الأحزاب بها فعليًا (إلى أن طلب منهم التنحي جانبا!)، في محاولة بائسة للاستمرار بالنهج ذاته الذي يريد أن يحوّل المواطنين العرب لجزء من معسكر إسرائيلي، بدلًا من تنظيمهم وتقوية مكانتهم كمجموعة قومية أصلانية. وهذا السلوك للأحزاب، يعني بالضرورة رفض أي مراجعة والرغبة بالمضي قدمًا بمشروع الاندماج الكامل في كل ما هو إسرائيلي، وتبني معادلة المواطنة الإسرائيلية كأي إسرائيلي، وليس كعربي سلبت أرضه، وهُجر أهله وتحول إلى غريب في وطنه. وحوّلت الحركة الإسلامية الجنوبية بقيادة منصور عباس هذا النهج إلى نهج "متطور" يحظى بدعم وتمثيل، ولا يريد أن يوازي بين الوطني والمدني، حيث يرى المشروع الصهيوني طبيعيًا وأمرًا واقعًا وشأنًا داخليًا لليهود، ويجب قبوله كما هو حد الاعتراف بيهودية الدولة، ودعم ميزانية الجيش وقوانين الاستيطان، ودعم حكومات يمينية، وذلك في سبيل التفاوض على خطط اقتصادية للعرب، منها خطط بنيوية في ميزانية الدولة، وأخرى يتم تفصيلها لمركبات الائتلاف، على أن تكون الموحدة ومنصور عباس الوسيط للحصول عليها، بمعنى تحويل القيادة العربية لقيادة تقليدية تلعب دور الوسيط والمختار من دون رؤية إستراتيجية لبناء وتنظيم المجتمع وحمايته من مخاطر التصهين والعبث بهوية الناس وانتمائهم - وتقديم نماذج قيادية تدعو للانخراط في الصهيونية من دون تردد، تقبل بواقع العنصرية والفصل العنصري البنيوي، في سبيل الحصول على شرعية من المؤسسة الإسرائيلية وأحزابها وإعلامها.

تيار وطني في مقابل تيار صهيوني

وقد يقول قائل إن هذا كله لا يعني أن يتنازل التجمع عن تحالفاته في مقابل مشروع الموحدة والنائب منصور عباس، والأجدر أن يقوم بالإصلاح من خلال حل الخلافات وضمان إجماع كبير يضمن منافسة هذا النهج؛ إلا أن المشتركة والموحدة حولوا التمثيل العربي في البرلمان إلى لعبة سخيفة ومناورات شكلية تلهو وتسخر بعقول الناس، إذ إن الموحدة تريد ترويض الفلسطينيين بالداخل وإقناعهم أن الحقوق يتم تحصيلها فقط عبر التنازل عن حقوقهم الجماعية والخطاب الوطني والقبول بواقع دولة اليهود، والخضوع لواقع سيطرة الصهيونية لكي تكون مؤثراً بالفعل.

أما المشتركة (التي ضمت التجمع) التي فتحت الباب لهذا النهج الموحدة عبر "معركة التوصية" وخوض غمار ما سمي "تغيير الحكم" في إسرائيل، استمرت بفعل برلماني بالعبث بعقول الناس عبر تقديم قوانين "محرجة" للموحدة بدعم من الليكود وسموتريتش وبن غفير، وكأن مناهضة مشروع منصور عباس يأتي عبر تحويل كل تصويت في الكنيست إلى محطة وطنية، وموضوع يفرز الوطني من المتآمر. وهذا العبث يأتي بدلا من مراجعة عميقة ومصارحة حول الأسباب والإخفاقات التي أدت بالتمثيل السياسي الوصول إلى هذا الدرك، لأن منصور عباس لا يتحمل المسؤولية وحده عن هذا، بل مركبات المشتركة التي تأسرلت وقبلت بخفض السقف، وذهبت لتوصي على مجرم حرب، وتوهم أن التوصية أمر إيجابي سينقلنا إلى مرحلة سياسية مختلفة ومكانة أفضل. ولذلك، كان لا بد من المراجعة العميقة، وفتح باب المفاوضات من جديد مع الجبهة من أجل الاتفاق على خطوط عريضة وطنية واضحة، في مقابل مشروع ونهج التصهين.

وهنا لا بد من القول بأسف أن مشروع الموحدة بات يشكل تيارا عربيا صهيونيا، من حيث يدري، ومن حيث لا يدري. ووفق التحليل الذي يقدمه التجمع بشأن المواطنة التي تتحول بالضرورة لجزء من عملية أسرلة وصهينة في حال تجاهل مركب الهوية الوطنية والقومية، والتنازل عنه في معادلة المواطنة والهوية القومية - نحو الانتقال إلى معادلة الحقوق والواجبات وربطها خارج سياق المواطنة في دولة يهودية لا تعترف بالمساواة، إذ إن الانزلاق إلى مناطق الخطر من خلال مشروع منصور عباس يمكن أن يكون سريعا أكثر مما نتخيل، نحو القبول بالخدمة المدنية الإجبارية والتطبيع مع الخدمة العسكرية والتفاوض عليها بأشكال مختلفة، بشرط تحسين شروط الميزانيات أو محاربة الجريمة المنظمة، أو السيطرة على المؤسسات التعليمية والمناهج المدرسية وإفسادها من خلال علاقة المخترة والسيطرة عليها سياسيًا، كجزء من المساومات التي تندرج في نطاق "البراغماتية والواقعية".

فنظريًا سيؤدي نهج الموحدة (في حال لن يكون له رادع أو تصدي) إلى الوصول للتجنيد الطوعي أو الإجباري كجزء من المواطنة المجردة الخالية من اعتبار الهوية، أو على الأقل التأسيس لثقافة من هذا النوع، تشرعن موضوع التجنيد بأشكاله مع مطالبة بضمان مراعاة خصوصية العرب في شكل التجنيد والخدمة. ومن يتابع نهج الموحدة ومنصور عباس وتصرفهم السياسي والخطابي وحتى البنيوي العضوي يستطع أن يلاحظ بذور أولية نثرت في مواقع عدة، ومجالات مختلفة، في سبيل المزيد من التنازلات وتحضير الأرض لذبح البقرات المقدسة طمعًا في السيطرة على المشهد السياسي العربي. وبالتالي، تجري عملية بناء تيار عربي صهيوني يحظى بشرعية من أبناء جلدتنا، وليس من حزب صهيوني إسرائيلي فحسب. وهذا أمر طارئ خطير يجب أن تكون مواجهته وأفعاله على رأس سلم أولويات التجمع، في سبيل إعادة الثقل لتنظيم المجتمع العربي وتقويته في مواجهة العنصرية والقمع ومخاطر المستقبل، وليس العكس.

الهوية أولًا

التجمع بخاطبه الوطني المتين وبرنامجه الديمقراطي للمواطنة الكاملة من دون تشويه، هو البديل لهذا المشهد الخطير، وهو البيت الجامع لكل عربي فلسطيني في هذه البلاد يتطلع لمستقبل يحمي وجوده، ويرفض العبث بهويته. لن تقوم لنا قائمة ما لن نتصرف كمجموعة قومية لها تاريخ وذاكرة جماعية وحقوق جماعية، ومن حقها أن تتنظم، وأن تكون لها مؤسسات مستقلة واقتصاد متطور واعتراف بفلسطينيتها. وقد يبدو هذا الكلام في الظرف الراهن من إبادة شعبنا في غزة، وكم أفواه المواطنين العرب، ووقوف المجتمع العربي عاجزًا ضربًا من ضروب الخيال، إذ إن خدش التوازن بين الهوية وبين واقع المواطنة وامتيازاتها في دولة إسرائيل هذه المرة لا يقتصر على تقويض حدود الجانب الوطني والصراع الأخلاقي، وأهمية الالتحام مع قضية فلسطين العادلة، بل أصبح واضحا للعيان هشاشة العقار المركزي في امتياز المواطنة الإسرائيلية، والذي تمثل خلال الحرب بضرب حرية التعبير، وربما تتضح صورة مشابهة لاحقًا حول امتياز التنظيم السياسي، فلم يعد يقتصر الأمر على تهمة دعم الإرهاب، بل على مجرد التعبير عن التضامن مع مقتل طفل، أو محاولة دحض الرواية والدعاية الحربية الإسرائيلية.

وقد شكلت هبة الكرامة مقدمة لضبط العلاقة وحدود التعبير وإحكام القبضة القانونية والأمنية، إلا أن هبة الكرامة كانت عاملًا في إعادة هيبة ورسوخ الانتماء والهوية الفلسطينية وثقة الفلسطيني في الداخل بنفسه، في مقابل الخوف والذعر الجماعي الذي خيم على الداخل الفلسطيني في الحرب الأخيرة في ظل تشرذم سياسي، وتشظ اجتماعي نتيجة العنف والجريمة. ولعل هول الاضطراب والتحريض على الفلسطينيين الذين يعيشون في إسرائيل ويحملون جنسيتها، هو الأكبر منذ انتهاء الحكم العسكري، حيث طال الهوامش الليبرالية في الجامعات وأماكن العمل والمستشفيات في إجماع مؤسساتي وشعبي لا مثيل له، الأمر الذي يعكس هشاشة المواطنة الإسرائيلية التي تقمع مجرد حرية التعبير عن رفض مقتل طفل. فكيف سيكون شكل هذه المواطنة من دون هوية وانتماء وأخلاق؟

لا يمكن مواجهة تيار صهيوني إلا بتيار وطني، ولا يمكن أن يكون التيار الوطني متصالحًا مع معسكرات الصهيونية ويفاضل بينها، أو نسخة مزيفة عن الموحدة تريد الإمساك بالعصا من الوسط، وترى وظيفتها جزءًا من مشهد الصراع الحزبي الإسرائيلي.

التجمع الوطني الديمقراطي إذًا يعود إلى نفسه وجذوره ومشروعه، وينفض عنه غبار سنوات عجاف من الترنح، وهو على أعتاب مؤتمره الثامن يجب أن يقود هذا التيار، ويطرح البديل المؤسساتي والخطابي، للخطر القادم من اتساع المشروع الصهيوني العربي.

هذا المقال ليس دعوة للاعتقاد بأن التجمع هو مركز الحياة السياسية الفلسطينية، ولا أن مواجهة التيار الصهيوني العربي تغني عن الحاجة لإعادة بناء الإجماع لمواجهة ما يحاك لمجتمعنا من قبل إسرائيل الدولة والمؤسسة، فلا تناقض بين هذا وذاك، ولكن على أعتاب المؤتمر الثامن يجب أن يدرك التجمع الوطني الديمقراطي أنه يجب أن يوضح ويبلور خطابه وتنظيمه أولاً قبل أن يحمله للناس والمجتمع مجددًا.

وللحديث تتمة.

التعليقات