27/11/2020 - 22:39

ساق مكسيكيّة مقطوعة في أرض كنعان

ساق مكسيكيّة مقطوعة في أرض كنعان

ساق سانتا آنا الأصليّة | Lane Christiansen, Chicago Tribune

 

بین شعبین یفصل بینهما بحار ومحيطات، تكوّنت روابط تضامن تاریخیّة مثيرة للتفكير، تدفعني دائمًا إلى الإجابة عن السؤال: «ما المشترك؟».

سرقة الأراضي والثروات، إبادات جماعيّة، تهجير قسريّ، محو ثقافيّ، بناء الأسوار، جزء بسيط من المآسي الّتي تعرّض لها الشعب المكسیكيّ والفلسطینيّ، على الرغم من البُعْد الجغرافيّ بین الدولتین، وعند أيّ التقاء بین المكسیكیّین والفلسطینیّین یُدْرِك الطرفان أنّ ما یجمعهما هو «الجرح الكولونیاليّ».

الألم الناتج عن هذا الجرح دفع الفنّان خالد جرّار إلى إقامة سلّم حديديّ أمام الجدار على الحدود المكسیكیّة الأمريكيّة، للاعتراض على إقامة الحواجز بين الشعوب. وهذا الألم أيضًا ألهم الفنّان المكسیكيّ جوستافو بافون لكتابة «To Exist Is To Resist»، على جداريّته عند سور الضمّ والفصل العنصريّ في بيت لحم، وليس انتهاءً بلوحة الفنّان برهان كركوتلي، عندما رسم أيقونة المقاومة المكسیكیّة زاباستا بجانب عبد القادر الحسينيّ[1].

 

مئة عام من استبدال الشعوب

قبل نكبة الفلسطينيّين بقرن، عام 1848، خسرت المكسیك نصف أراضيها تقريبًا؛ إذ غزت الولایات المتّحدة الأمریکیّة الأراضي المكسیكیّة، واستولت على أقاليم كالیفورنیا ونیفادا ویوتا وأريزونا ونیومكسیكو.

Nice Legs from Jose Luis Benavides on Vimeo.

بعد هزيمته أُرْغِم الرئيس المكسيكيّ سانتا آنا على توقيع «معاهدة غوادألوبي»، مقابل 15 ملیون دولار تُدْفَع للمكسیك. إنّ التوسّع اللانهائيّ، والتهام الأراضي من قِبَل الولايات المتّحدة، جاء مدفوعًا بفكرة «الجغرافیا الحیویّة» الّتي تجعلها بصفتها دولة متفوّقة تبقى كيانًا ينمو باستمرار، وتتعامل مع باقي العالم بصفته «مجاهل»، تستبدل شعبًا بآخر بعد إبادته.

یشیر الباحث منير العكش في كتاباته إلى عقيدة «القدر المتجلّي - Manifest Destiny»، الّتي كانت ترسم سياسة التوسّع الأمريكيّ، ومن خلفها الفكرة الدینیّة لإسرائيل التاریخیّة، الّتي صاحبت المؤسّسين الأوائل الّذين ما انفكّوا يبحثون عن أرض الميعاد، حتّى بعد أن عثروا على أرض واعدة أكثر، وجدوا فیها اللؤلؤ بدل اللبن، والعسل بدل الذهب، وبدل الكنعانيّين وجدوا السكّان الأصلانیّین لیتقمّصوا التاریخ، معتبرین أنفسهم العبرانیّین الجدد الّذين فضّلهم الله على العالمین، وأعطاهم الحقّ في قتل الأصلانيّين على أرض كنعان الجدیدة، ومحو ثقافاتهم، وإعادة بناء قلعة الربّ بحجارة التاریخ الأبیض[2].

 

ساق سانتا آنا

ومن كنعان المجاز إلى كنعان الحقیقیّة، شارك الفنّان ذو الأصول المكسیكیّة خوزيه لويس بینافیداس، مع الفنّان الفلسطينيّ قیس عسالي، في عمل فنّيّ مُعَنون بـ «سيقان حسناوات»، ضمن فعاليّات «محفل قلنديا الدوليّ» (2018)، الّذي جاء تحت ثيمة «التضامن»، وقد اشتمل على عشرات الأعمال الفنّیّة، الّتي ترصد وتعالج التغیّرات والتحوّلات الّتي طرأت على مفهوم التضامن، تحت ضوء الشبكات والتحالفات العالميّة الجدیدة[3]، وقد تُنووِلَ العمل خلال تموّز (يوليو) الماضي في ندوة عقدتها «دار جسار للثقافة والفنون».

يستند المعرض في الأساس على محاولة للبحث عن إجابة لسؤال: أيّ مجتمع نريد أن نكون؟ في زمن أصبح فیه عدم الیقین المعیش، لتبدأ رحلة بحث عسّالي وبینافیداس في القيم والأشياء الّتي تربطنا جميعًا؛ حيث قاما بالحفر التاريخيّ والتنقّل الجغرافيّ، لأجل إقامة نصب تذكاريّ لـ «ساق سانتا آنا المفقودة» (عمل تركيبيّ + فیدیو).

 

يستند المعرض في الأساس على محاولة للبحث عن إجابة لسؤال: أيّ مجتمع نريد أن نكون؟ في زمن أصبح فیه عدم الیقین المعیش، لتبدأ رحلة بحث عسّالي وبینافیداس في القيم والأشياء الّتي تربطنا جميعًا...

تُسْتَعْرَض في الفیدیو (10:43 دقیقة) الزيارة الّتي قاما بها إلى «متحف ولاية إلينوى الحربيّ»، الّذي یحتوي على الساق الخشبيّة للجنرال. يسرد الفیدیو قصّة خسارة سانتا آنا ساقه للمرّة الأولى في أثناء تصدّيه للحملة الفرنسیّة، والمرّة الثانية في الحرب الأمريكیّة المكسیكیّة، وكیفیّة الاستحواذ على ساقه الخشبيّة ووضعها في «المتحف الحربيّ»؛ وبذلك یكون خسر ساقه للمرّة الثالثة. عند وصولهم إلى المتحف، تخبرهم الموظّفة بأنّ الساق الخشبيّة موجودة في المخازن، وغير مُتاحة للعرض، ليقرّر الفنّانان توثيق كلّ السيقان العسكريّة بصريًّا؛ محاولة بحث عن الساق التاريخيّة بين أرشيفات المتحف، ومن ثَمّ في مرحلة أخرى إقامة نصب تذكاريّ للساق الخشبيّة، ولكن في فلسطين، حيث عُرِض العمل التركيبيّ في «حوش قندح» في البلدة القديمة لمدينة رام الله.

 

مَنْ نحن؟

حتّى لا يُساء فهم العمل، یبدأ الفیدیو بتوضيح أنّه لیس المقصود تبجیل دیكتاتور خسر نصف الأرض، فأصبح نصف الشعب خارج الحدود، ویطرح تساؤله الأهمّ: مَنْ نحن كشعوب؟

من خلال استعراض بعض الإجابات، تستنج التماثل الشدید بین هزیمة المكسیك في الحرب الأمريكيّة، ونكبة الفلسطینیّین بعد مئة عام. ومن هنا يمكننا نحن الفلسطینیّین تصوّر مستقبلنا، من خلال النظر إلى حاضر الشعوب الّتي عبرتها الحدود والثقافة الأمريكیّة، ويجري باستمرار محو عاداتهم، ومنع التحدّث بلغاتهم الأصليّة، وتغييب تاریخهم من خلال سياسات المحو والإقصاء.

عند التأمّل بإمعان في العمل، نلاحظ قدرة الفنّانَیْن على دمج التجارب المتفاوتة معًا، وتجاوُز الانغلاق والمحلّيّة الضيّقة، لصالح ابتكار مفاهيم أكثر عصریّة، وغیر مشبعة بالرموز التقلیدیّة المستهلكة، مثل الذرة والزيتون ومفتاح العودة... إلخ، ونجاحهم في توظیف بیوغرافیا ساق سانتا آنا للتنقّل من الجغرافیا السیاسیّة إلى السیاسة الحیویّة، في الحدیث عن القمع الواقع على الأجساد في الدرجة الأولى، ليتوّج العمل بالإهداء إلى «مركز الأطراف الصناعيّة» في قطاع غزّة.

 

ملصق لبرهان كركوتلي، 1984

 

واستمرارًا في بلورة مفاهيم جديدة عن التضامن، جرى لقاء من خلال تقنيّة الفيديو المَبْثوث، بالتعاون مع «دار جاسر للفنون والبحث»، كما أشرت، استضاف الفنّانان القیّمة الفنّیّة ريم فضّة والقاضي والناشط ضدّ الأبارتهاید الجنوب إفريقيّ ألبي ساكس، إذ تُنووِلَت أهمّيّة إجراء قراءة ثقافیّة للعمل الفنّيّ، وطرح آليّات التعاطف، ومدّ جسور الترابط بین الشعوب والفئات الّتي لا تزال تعاني من الانغلاق الهويّاتيّ، والحدیث عن أهمّيّة الخوض عميقًا في معرفة الآخر بدلًا من الهرب بعیدًا.

هذا التجسير، كما تقول الكاتبة المكسیكیّة غلوريا آنزلدوا في مقدّمة كتابها «الجسر الّذي نسمّيه الوطن»، يأتي من خلال معرفتنا متى نغلق الصفوف لمَنْ هم خارج وطننا، جماعتنا، أمّتنا، ومتى نُبقي الأبواب مفتوحة[4].

..........

إحالات:

[1] أمل اقعيق، «عن الحدود والقيود»، جدليّة، 27/08/2018/ شوهد في 21/9/2020، في: https://bit.ly/33jAixW

[2] منير العكش، أميركا والإبادات الثقافيّة (بيروت: رياض الريّس للكتب والنشر، 2009)، ص 30.

[3] أسرة التحرير، «ثيمة التضامن»، قلنديا الدوليّ 2018، شوهد في 21/9/2020، في: https://bit.ly/33lcXfa

[4] غلوريا آنزلدوا، الجسر الّذي نُسمّيه الوطن (نيويورك:Routledge ، 2002)، ص 27.

 

 

إبراهيم مصري

 

 

ناشط في العديد من المبادرات الشبابيّة والثقافيّة، في مدينة نابلس تحديدًا، ويهتمّ بالشأن الثقافيّ والسياسيّ. خرّيج قسم الهندسة الكهربائيّة في جامعة النجاح الوطنيّة – نابلس.

 

 

 

التعليقات