21/01/2017 - 18:41

استعادة مارتن لوثر كينغ

في يناير وأبريل من كلّ عام، نحيي ذكرى الحياة الاستثنائيّة التي عاشها مارتن لوثر كنيغ جونيور. ولكن، ربما لا توجد شخصيّة في تاريخ الولايات المتحدة الأميركية الحديث تعرّضت ذاكرتها للتشويه، ورسالتها للتحريف، وأُفرغت كلماتها القويّة من محتواها

استعادة مارتن لوثر كينغ

ترجمة خاصة: أسامة غاوجي - عرب ٤٨


في شهري كانون الثاني/ يناير ونيسان/ أبريل من كلّ عام، نحيي ذكرى الحياة الاستثنائيّة التي عاشها مارتن لوثر كنيغ جونيور. ولكن، ربما لا توجد شخصيّة في تاريخ الولايات المتحدة الأميركية الحديث تعرّضت ذاكرتها للتشويه، ورسالتها للتحريف، وأُفرغت كلماتها القويّة من محتواها، كما حصل مع مارتن لوثر كينغ.

قبل عدّة سنوات، عندما كنت أستعد لتقديم محاضرة عامّة عن أحداث 1968، وهو تاريخ اغتيال كينغ، أعدت قراءة أهمّ كتاب صدر في العقد الأخير عن النهج السياسي لكينغ وهو كتاب توماس جاكسون، "من الحقوق المدنيّة إلى حقوق الإنسان: مارتن لوثر كينغ جونيور والكفاح من أجل العدالة الاقتصاديّة". لقد قرأ جاكسون، والذي عمل باحثاً في "مشروع أوراق كينغ"، كلّ خطابات كينغ ومواعظه وكتبه ومقالاته ورسائله. وقد وجد جاكسون بأنّ كينغ، منذ تعيينه قسّاً، كان أكثر راديكاليّة خصوصاً في مسائل العمل والفقر والعدالة الاقتصاديّة، عما نعرفه عنه الآن.

في التقارير الإعلاميّة، يتمّ وصف كينغ دوماً بأنّه "رسول اللاعنف"، ومنذ منتصف الستينات تمّ تصوير كينغ باعتباره الوجه النقيض لمالكوم إكس. فبينما كان كينغ ملتزماً باللاعنف على طول مسيرته، فإنّ تركيز وسائل الإعلام السطحيّ على المنافسة بين مارتن لوثر ومالكوم إكس، قد قاد الصحافيين إلى تجاهل تصريحات كينغ الأكثر راديكاليّة؛ لأنّها ببساطة لا تنسجم مع القصّة الجاهزة عنه.

ساهم المدافعون عن القوّة السوداء في تشويه صورة كينغ أيضاً، بتركيزهم على أسلوبه الكنسيّ وغطرسته (كان أعضاء لجنة التنسيق الطلابيّة اللاعنفيّة 'SNCC' يُطلقون عليه 'de lawd'، وهي تعني الربّ أو السيّد، وتدرج بين الأفرو-أميركان).  لقد سوّقوا كينغ باعتباره برجوازيّاً يائساً، يضرّ بجهود المكافحين من أجل الحريّة السوداء، بدلاً من أن يُفيدها. أمّا الليبراليون البيض، الذين كانوا خائفين من الاضطرابات التي سيسببها السود، فقد احتضنوا كينغ باعتباره صوتاً معتدلاً، أملاً في أنّه سيتمكّن من إيقاف أمواج استياء وغضب السود التي انفجرت في فصول الصيف الطويلة في منتصف الستينات.

مع تصوير كينغ باعتباره ممثّلاً للتيار السائد (mainstream)، لم يتمكّن المراقبون من فهم معارضة كينغ لحرب فييتنام، أو دعوته إلى حركة فقراء عابرة للأعراق، وإدانته المستمرّة للتفاوت الطبقي في أميركا.

كما اعتبر المراقبون أنّ كينغ قد تحوّل لاحقاً إلى الراديكاليّة، أو قام بحساب خطواته إلى اليسار، وغيّر خطاباته ليحافظ على موقعه كقائد شرعيّ في عيون الشباب السود الغاضبين. ولكن، كما يُظهر جاكسون، فإنّ كينغ كان أبعد ما يكون عن أن يكون عنصريّاً ليبراليّاً أو راديكاليّاً متأخّراً.

فعبر القراءة المعمّقة لأعمال كينغ، يلاحظ جاكسون وجود أفكار مناهضة للإمبرياليّة تسري في تفكير كينغ، منذ أن كان طالباً. كما إنّ خطابات كينغ كانت تحمل دوماً بُعداً مناهضاً للرأسماليّة. كما إنّه وجد بأنّ كيغ كان يبني تحالفات مع الجناح اليساري في الحركة العمّاليّة ومع ناشطين يُطالبون بإحداث تغيير بنيوي في الاقتصاد. بعبارة أخرى، فإنّ كينغ كان راديكاليّاً، منذ فترة طويلة، قبل أن يقدّم خطابه المستنكر لحرب فييتنام في 1967 وقبل أن يُشارك في إضراب عمّال الصرف الصحّي في ممفيس 1968.

لقد تمّ التخلّي عن راديكاليّة كينغ لحساب ذاكرة مشوّشة وضبابيّة عنه. في الثقافة الأميركية اليوم، هناك عدّة صور ونسخ من كينغ: كينغ التذكاري، كينغ العلاجي، كينغ المحافظ، كينغ المسلّع. كلّ هذه النسخ تتنافس على الاستحواذ على انتباهنا، ولكنّها جميعها تصوّر كينغ بصورة ما كان ليعرفها هو لو رآها.

الصورة الأولى هي كينغ التذكاري. بعد خمسة عشرة عاماً على وفاته، حظي كينغ باعتراف عام غير مسبوق – فقد أصبح كينغ الشخص الوحيد (باستثناء الرؤساء جورج واشنطن وأبراهام لينكولن، والذين تمّ ضمّ الاحتفال بأيام ميلادهما إلى يوم الرؤساء) المخصوص بعيد وطنيّ. هذا الرجل الذي اتهم بأنّه معادي للولايات المتحدة، والذي طارده مكتب التحقيقات الفيدرالي، والذي اعتقل وسُجن عدّة مرّات، أصبح معترفاً به بعيد وطني، هل ثمّة ما هو أغرب من ذلك؟!

للدقّة والمعلومة، فإنّ إقرار عيد وطني لكينغ قد واجه معارضة واسعة، بخاصّة من ممثلي الولايات الجنوبيّة كجيسي هيلمز، الذي اعتبر بأنّ كينغ كان دمية في يد الحزب الشيوعي، وجون ماكين، وإيفان ميشام، وعدد آخر من المحافظين في أريزونا. ولكن إقرار عيد وطني لكينغ قد تمّ، وبعد الموافقة الساحقة في الكونغرس، بتوقيع من الرئيس رونالد ريغان، والذي كان قد بدأ حياته السياسيّة معارضاً لحركة الحقوق المدنيّة (1964)، والذي كرر أفعاله عندما أطلق حملته الانتخابيّة (1980) في فلادلفيا، في مكان صغير اشتهر على أنّه المكان الذي تمّ فيه قتل ثلاثة شبّان من حركة الحقوق المدنيّة قبل عشرين عاماً.

إن كان قد بقي شيء من مشروع كينغ الراديكالي، فإنّه قد ضاع في مشاعر الاحتفال بيوم كينغ، والذي أصبح يوماً ينشغل الناس فيه بإزالة القمامة وطلاء جدران الصفوف الدراسيّة. لا أعني بأنّ خدمة المجتمع أمرٌ سيّء، ولكنّه أمر بعيد جداً عن رؤية كينغ عن التغيير الاجتماعي.

كينغ العلاجي

بين الأيقونات الأميركية، يُعدّ كينغ معالجاً كبيراً، الرجل الذي نادى بأن تطبّق أميركا "عقيدتها" في المساواة وعدالة الفرص. إنّ رسالة كينغ، بعد أن يتمّ تفريغها من مضمونها السياسيّ القاسي، تصبح مسكّناً اجتماعيّاً، يُمكن للديمقراطيين والجمهوريين على السواء دعمه والاستفادة منه. فقد أصبحت رسالة حياة لوثر الملهمة "لديّ حلم" في مركز صورتنا التذكاريّة عن كينغ. فقد أصبحت مناهج المدارس، على سبيل المثال، تشجّع الطلاب على التعبير عن أحلامهم، كما فعل كينغ، لتدعيم ثقتهم بأنفسهم. أصبحت رسالة لوثر هي أن نضمّ أيدينا وأصواتنا سويّة، بيضاً وسوداً، في تناغم كامل.

كينغ المحافظ

بتجريد رسالته من مضمونها السياسي، أصبح كينغ أيقونةً للمحافظة العنصريّة. فمعظم مؤيّدي كينغ اليوم ينتقدون سياسات الحقوق المدنيّة كمبدأ "التمييز الإيجابي affirmative action" [وهو مبدأ يقضي بالتمييز لصالح الفئات التي عانت من الاضطهاد سابقاً في العمل أو التعليم أو غير ذلك]. لقد أصبح كينغ نبيّ فردانيّة الجدارة والاستحقاق.

يُعدّ وارد كونرلي، أحد أبرز المؤيّدين لهذه النسخة من كينغ - ومؤيّدوها كُثُر، فكونرلي هو زعيم الحملة الوطنيّة المناهضة للتمييز الإيجابي والذي يستند إلى كلمات كينغ نفسه في الدعوة إلى تفكيك القبول والاعتراف على أساس الحساسيّة العرقيّة. لا يهتمّ أمثال كونرلي من المحافظين سوى بخطاب واحد لكينغ – الذي ألقاه في واشنطون في آذار/ مارس 1963- بل ولا يهتمون سوى لسطر واحد من هذا الخطاب : "لديّ حلم، أن يكبر أطفالي الأربعة يوماً في بلد لا يُحكم عليهم فيها بناءً على لون بشرتهم، وإنّما على أساس محتوى شخصيّاتهم".

لا بدّ أن نحكم على خطابات كينغ بناء على محتواها. في خطابه الشهير "لديّ حلم"، هناك العديد من الأفكار التي ستجعل أمثال جون ماكين وكونرلي يرتبكان بل ويرتعدان. ففيه يحتفي كينغ بـ'الروح الحربيّة الجديدة الرائعة التي اجتاحت مجتمع الزنوج'.

وبحديثه عن "الإلحاح الشرس الآن"، فإنّ كينع كان يشجّع الـ250 ألف شخص المجتمعين في المركز التجاري على اتخاذ خطوات تصعيديّة: "هذا ليس وقت الانخراط في ترف الهدوء أو القبول بمسكنات حلول التدرّج في التغيير".

في الوقت الذي كان فيه المحافظون (والعديد من الليبراليين) يستنكرون ذهاب الحركة "بعيداً جداً، وبسرعة كبيرة"، أرسل كينغ رسالته بوضوح؛ بالذهاب أبعد وأسرع. فقد واصل كينغ دعمه لفرض قوانين الحقوق المدنيّة، بما في ذلك "التمييز الإيجابي"، بطرق هجومية وعدوانية. وفوق ذلك، طالب بإعادة تنظيم شاملة للاقتصاد الأميركي.

وأخيراً، نكون أمام أكبر أشكال التحريف في تاريخ أميركا، حين نرى النسخة السلَعيّة من كينغ – والتي ظهرت في العقد الأخير، وقدمتها في الغالب عائلة كينغ نفسها – حيث أصبحت كلمات كينغ المبجّل وصوره على رفوف المحلّات. في ثقافة الأزياء الأميركية، بات مارتن لوثر كينغ سلعة استهلاكيّة.

لقد انخرطت عائلة كينغ في جهود كبيرة لتسويق صورة كينغ المبجّل، تضمّن ذلك تلقّيهم لعدّة مليونات من الدولارات من شركة 'Time Warner' في مقابل منحها حقوق استخدتم ونشر خطابات كينغ وكتاباته وتسجيلاته. كانت عائلة كينغ قد رفعت عدّة قضايا لمنع الشركات من استخدام صورة كينغ على مغانط الثلاجات، والسكاكين المطويّة، ومن طباعة عبارة "لديّ حلم" على أكواز الآيسكريم.

ولكنّهم سرعان ما تحوّلوا إلى تسويق سلع الفنّ الرديء 'كيتش' لكينغ. في منتصف التسعينيات، قام ديكستر مارتن كينغ، الذي يتولّى إدارة ممتلكات كينغ، بالحجّ لزيارة ضريح كينغ آخر – ' الملك The King'، إلفيس بريسلي، في ممفيس، لتلقّي بعض دروس التسويق. منذ منتصف التسعينات، بدأ بالسماح باستخدام كينغ تجاريّاً، فأصبح كينغ مرسوماً على الدبابيس التذكاريّة لدورة الألعاب الألومبيّة في أتلانتا، ومصوّراً في تماثيل صغيرة من الخزف الصيني، بل، وهذا الجزء المشوّق، أصبحت صورة كينغ على غلاف دفتر شيكات!

سواء تحدثنا عن أيقونة كينغ المحافظة أو السلعيّة، فيكفي أن نقول إن هذه النسخ من كينغ معيبة. تحتفي أيقونة كينغ التذكاريّة ببطولة كينغ وشجاعته، ولكنّ الخطر الكامن في خلق شخصيّة مسطّحة من كينغ، هي أنّها تحجب مشروعه المتحدّي والنقدي الحاد، وتتجاهل رسالته المقلقة للسلطة. تقف صورة كينغ العلاجي على النقيض من إستراتيجيّته السياسيّة التي تُطالب بالإطاحة الكاملة بالتمييز العنصري الأميركي وتطلب من السود والبيض على السواء تضحيات كبيرة.

تتأسس صورة كينغ المحافظة على انتقائيّة اختزاليّة لكلمات كينغ – وغالباً من خطاب واحد - لخدمة قضيّة كان كينغ ليعتبرها قضيّة بغيضة وممقوتة. في حين تُقدّم النسخ السلعيّة من كينغ صوراً مريحة مفرغة من قدرتها على التحدّي السياسي؛ وفوق ذلك، صوراً تقف على النقيض من نقد كينغ الحادّ للرأسمالية الأميركية وموقفه الجذري المناهض للماديّة.

قبل كلّ شيء، كان مشروع كينغ هو زعزعة السلطة وتحدّي الوضع القائم؛ وهو أمر لن تتمكّن التماثيل الخزفيّة الصغيرة والدبابيس التذكاريّة ولا السعي لإلغاء 'التمييز الإيجابي' من تحقيقه.

* توماس سوجرو: أستاذ التاريخ في جامعة بنسلفانيا ومؤلّف كتاب ' ليس ماضياً بعد: باراك أوباما وعبء العرق'، و'أرض الحريّة العزيزة'.

التعليقات