أوقاف القدس قبل الاحتلال وبعده

إن مراجعة الوثائق التركية في عصر محمد علي وقد كانت لغة المراسلات والمكاتبات تركية ترينا هذه المحاولات المشينة لليهود في المشرق العربي وخاصة في منطقة القدس.

أوقاف القدس قبل الاحتلال وبعده

يعود اهتمام الباحث د. مصطفى عبد الغني، في أول دراسة عربية تولي قضية “أوقاف القدس” مثل هذه العناية، إلى سنوات بعيدة، غير أن اهتمامه وصل إلى أقصاه حين حاول أن يرصد مصير هذه الأوقاف في مدينة القدس على وجه الخصوص، وحين حاول أن يقارن بين الأوقاف على القدس قبل الاحتلال الإسرائيلي وبعده، بين مدينة القدس القديمة والأخرى التي تجتهد إسرائيل الآن إلى إعادة بنائها.

وفي بداية كتابه، يقدم الباحث عدة تعريفات للوقف، ويستلهم أفكارها الرئيسية من بعض آيات القرآن الكريم وبعض السوابق التي وضعها الرسول – صلى الله عليه وسلم- ولكنها لا تختلف في معناها العام أو الإجمالي “الذي يؤكد على أن قوام الوقف هو منع التصرف في رقبة العين التي يدوم الانتفاع بها، فلا يجوز بعد وقفها وجعلها على حكم الله تعالى أن تباع أو ترهن أو توهب أو تورث، أما منفعتها فتصرف على وجه أو أكثر من وجوه الخيرات والمنافع العامة طبقاً للشروط التي يحددها الواقف نفسه”.

ويرصد صورة القدس في العصر العثماني، قائلاً: لقد امتدت التغييرات منذ ارتباط المؤسسات الدينية والمدنية منذ فترة مبكرة بمدينة القدس، على اعتبار أنها مدينة (الإسراء والمعراج) التي ورد ذكرها في القرآن الكريم والسنة النبوية.

ومن هنا كان للقدس – بشكل خاص- أهمية قصوى وظلت المؤثرات تتطور وتتباين على مر العصور، حتى جاء العثمانيون ليحاولوا أن يهيمنوا على هذه المنطقة لأهميتها بشكل يضمن ما سعوا للهيمنة عليه. وقد أضاف العثمانيون إلى الأوقاف الكثيرة التي وجدوها بفلسطين قبل استيلائهم عليها أوقافاً جديدة، وأنشأوا منشآت خيرية تستدعي ربطها بأوقاف تكفل استمرارها، غير أن أوسع الأوقاف هي التي كانت خاصة بالحرمين الشريفين، وكانت منتشرة في مناطق كثيرة في فلسطين وبشكل خاص في القدس.

ومع بدايات عصر محمد علي يبدأ العصر الحديث في التعامل مع الأوقاف على القدس، وهي الفترة التي شهدت العديد من التحولات الغربية تجاه الأماكن المقدسة في فلسطين خصوصا.

إن مراجعة الوثائق التركية في عصر محمد علي وقد كانت لغة المراسلات والمكاتبات تركية ترينا هذه المحاولات المشينة لليهود في المشرق العربي وخاصة في منطقة القدس.

أما عن الأوقاف من النكبة 1948 إلى الانتفاضة 1987، فيذكر: أثبتت الوثائق قبل سنة 1948 أن للقدس أوقافاً أملاكاً في حي الطالبية، وهي من الأوقاف المندرسة وفي أماكن شهيرة كفندق بالاس في جرشون أجرون الذي كان المجلس الأعلى يديره فيما مضى، وأصبح الآن موقع مكاتب وزارة التجارة والصناعة الإسرائيلية ومنطقة مقبرة وبركة ماميلا التي تحولت إلى متنزه عام.

ويذكر الباحث: لقد كانت القدس مطمعاً للغزاة من كل حدب وصوب، فتناوب على غزوها ملل ونحل كثيرة بداية بالعبرانيين ثم الفارسيين وجاءها السلوقيون والرومان والصليبيون قديماً.

وفي التاريخ أتى الاستعماريون الأوروبيون والأمريكيون في رداء صهيوني وثوب توراتي لاحتلال وجهها العربي، ورحل الجميع وبقيت القدس صامدة في وجه الغزاة.

وتعتبر القدس – بتعبير عكرمة صبري المفتي الفلسطيني- كلها أرضاً وفقاً للعرب والمسلمين، فهي تضم العديد من المواقع الأثرية الدينية ففيها: ”الحرم الشريف ومسجد قبة الصخرة والمسجد الأقصى وحائط البراق والجامع العمري وكنيسة القيامة، ويقع شرقها جبل الزيتون الذي يعود تاريخه إلى تاريخ القدس، ويضم مدافن ومقامات شهداء المسلمين…”.

ويضيف الباحث: تعد القدس هي أصعب قضايا مفاوضات الحل النهائي بين الفلسطينيين وإسرائيل، ومما ضاعف هذه القضية تعقيداً الإجراءات التي اتخذتها الولايات المتحدة لنقل سفارتها من تل أبيب إلى القدس، والادعاءات أن الموقع المرتقب لهذه السفارة هي ملك ووقف للاجئين فلسطينيين صادرته إسرائيل منذ سنة 1948.

ويذكر الباحث: أن الخارجية الأمريكية قد أدعت عقب إبرامها اتفاقية الإيجار مع إسرائيل أن هذه الأرض كانت محل ثكنة اللنبي البريطاني وهي مقامة على أرض الوقف الإسلامي، والواقع أن نتائج البحث الذي قام به فريق د. وليد الخالدي أثبت بالأدلة والوثائق أن جزءاً من الأراضي المستأجرة يخص الوقف الإسلامي فقط، وأن القسيمة رقم 17 كانت موقوفة قبل أن تصادرها الحكومة البريطانية سنة 1930.

أما القسيمة 22 فلا تزال وقفاً، وهاتان القسيمتان 17 و22 هما قسم من وقف أوقفه محمد بن الشيخ محمد الخليلي في الأول من شعبان 1139هـ، الموافق الرابع من مارس 1727م، وهو أشهر أهل زمانه في فلسطين، وكان شيخاً للطريقة الصوفية القادرية، ومات في القدس ودُفن في جوار الحرم الشريف، ويشمل سجل الأوقاف الإسلامي في القدس (السجل العقاري الإسلامي) على حجة وقف الخليلي، التي يشترط فيها أن أملاكه المقدسية تتوارثها ذريته جيلاً بعد جيل، وإن انقطع هذا النسل تعود الأملاك إلى وصاية (الزاوية المحمدية) في المسجد الأقصى في الحرم الشريف، وتجرى عائداتها على الفقراء وطلبة العلم الديني المقيمين بجوار المسجد، واستجار الشيخ الخليلي بالعلي القدير أن ينزل غضبه وقصاصه على من يخالف هذه الحجة.

ويشير الباحث إلى ما أعلن في الأرض العربية في القدس أخيراً حين كشف نيكو باباريوس، المسئول المالي في بطريركة الروم الأرثوذكس في القدس المحتلة النقاب عن أنه نفذ أوامر البطريرك أرينيوس الذي وقع على اتفاقية بيع ميدان عمر بن الخطاب في باب الخليل.

وذكر شهود عيان، أن حالة الغضب والاحتقار والاستنكار الشديد تسود أوساط الطائفة الأرثوذكسية في القدس، وداخل البطريركية نفسها، وتزداد المطالبات بتنحية البطريرك أرينيوس وتقديمه للمحاكمة، مع نشر تصريحات المسئول المالي السابق.

وفي الختام يقول الباحث: وذكرت عديد من المصادر أن الصفقة تشمل بيع ميدان عمر بن الخطاب في منطقة باب الخليل، الذي يضم ثلاثة فنادق تاريخية وعشرات المحال التجارية. وتنذر الصفقة بتهويد المزيد من المناطق في القدس الشريف، في هذه المرحلة الحساسة من قبل الجماعات اليهودية المتطرفة، فضلاً عن تأجير 32 دونما من أراضي البطريركية في محيط مسجد بلال بن رباح، عند مدخل مدينة بيت لحم لألف عام.

اقرأ/ي أيضًا| إدوار الخراط .. بلاغة السرد وشعرية الاختلاف

الجدير بالإشارة إلى أن كتاب “الأوقاف على القدس” للدكتور مصطفى عبد الغني صدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب ويقع في نحو 357 صفحة  من القطع الكبير.

 

التعليقات