ليلة العربيّة وصباح "قانون القوميّة"

يمأسس "قانون القوميّة" الدستوريّ للعنصرية والأبرتهايد تجاه المواطنين الفلسطينيين الأصلانيين، ويدخلهم في مرحلة أشدّ وأقسى على كلّ الأبعاد، اللغة أقربها وأكثرها راهنيّة وأكثفها رمزيّة وبراغماتيّة، في الوقت ذاته. هل يرتقي الردّ لحجم الحدث؟

ليلة العربيّة وصباح

يا لَلصُّدف! في العمق واللاوعي هي ليست من قَبيل الصُّدف. مساء أمس استلمت من صديقة فاضلة (لها جزيل الشكر) كتبًا باللغة العربيّة كانت هي قد ألحّت أن أوصيها باقتنائها في سفرتها إلى عاصمة عربيّة متاح لعرب الـ 48 أن يقصدوها. بعد أن استلمت رزمة الكتب سهرت عند أهلي، حيث سرقتني الصحبة الماتعة وطبيعة صيف الوطن الذي لا مساء فيه! بعد عودتي إلى البيت، تصفّحت الكنز الذي اقتنيتُ، فوجدتني أغوص في القراءة حتى ساعات الفجر، بعيون تعبة وجفون ثقيلة جرّاء السهر المتراكم والنعاس، ولشدّة التعب من يوم صيفيّ طويل حارّ مثقَلٍ بالالتزامات والأشغال الشاقّة (بين هلالين أو بدونهما!).

من هذه الكتب "اللّغز الأنثويّ "، أحد الكتب المؤسِّسة للموجة الثانية للنسويّة في أمريكا والغرب عامّة، في ستّينيّات القرن العشرين. كنت قرأته في منتصف التسعينيّات (من القرن الماضي!) بلغة الأصل: Friedan Betty, 1963. The Feminine Mystique، وقد عدت إليه في أكثر من مناسبة إبّان دراستي للدكتوراه، ثمّ أحلْتُ طلبتي إليه خلال تدريسي في مساقات الماجستير في جامعة تل أبيب، باللغة العبريّة طبعًا. لكن ليلة أمس، خلال قراءتي إيّاه بصيغته العربيّة، التي توافرت منذ عام فقط (2017)، وهي ترجمة فائقة التوفّق، بل ممتازة (التفاصيل في حاشية النصّ)، خُيّل إليّ أنّي أنكشف للكتاب للمرّة الأولى، أمعن بالذات في فصل "المشكلة التي لا اسم لها"، منشدّة غارقة في قراءة الكتاب، لا قلب لي على تركه من يديّ (كلتيهما؛ إذ إنّ الكتاب يقع في خمسمئة وست وعشرين صفحة). لا يطاوعني قلبي على تركه. بهذه الذاتيّة أكتب لأعبّر عن حالة العشق التي تجمعني بلغتي الأمّ، ولا سيّما حين تلتقي الفِكَرُ والكَلِمُ في ما أقرأ.

تكفي هذه الحالة نموذجًا من بين نماذج لا تُعَدّ ولا تُحصى تنطق بمكانة العربيّة بوصفها اللغة الأمّ لدى الأصلانيّين، وتجسّد سيادتها الكائنة والكامنة في نفوسهم وفي موطنها بالذات، وتطلق سحرها في حياتهم المعيشة في كلّ أبوابها، وفي تخصُّصاتهم الأكاديميّة – للدقّة كونها غير متاحة لهم هناك غالبًا، وفي اهتماماتهم الفكريّة والمعرفيّة، وفي قراءات الترف التي يختارون، حيث تتيح لهم لغة الأمّ السباحة والتبحّر والغوص في بطون الكتب (بالمناسبة، هل ثمّة قالب لغويّ في العبرّية والإنـﭼليزيّة رديف لـِ "بطون الكتب"؟! J)، والتماهي والتباهي، ليلامسوا ويتّحدوا مع عنصر مهمّ من هُويّتهم بكلّ الأبعاد، وليلامسوا وجدانهم الذي تمتزج اللغة الأمّ بتركيبه وكذلك تعبّر عنه، وتسهم بتشييد بنْية ذهنهم، وقوالب تفكيرهم، وفيها يصبّون تفكيرهم الإبداعيّ الذي يَكفر بقوالب التفكير هذه ويخرج عنها لينحت مفردات جديدة ومَفْهَمات مبتكرة في إنتاج شفويّ وَ/أو مكتوب.

بوصفها اللغة الأمّ، وعلى الرغم من تمكّن بعضنا من لغة ثانية وثالثة وشيكة /وشيكتين من مستوى معرفة اللغة الأمّ، لغتنا العربيّة هي وسيلتنا لنُكَوّن ذاتنا ونَكُونها ، لنخلُد إلى ذاتنا، لنلتحم مع ذاتنا، وهي وسيلة ركيزة لوصولنا وتواصلنا وتشابكنا بالمحيط الثقافيّ (الحضاريّ) العربيّ الشاسع من حولنا. فأيّ صدفة، وقد لا تكون، تلك التي تصل ليلة عربيّة بصباح "قانون القوميّة"؟! وما معنى أن تصحو /تَصحي بعد ليلة مع العربيّة على "قانون القوميّة"؟

يمأسس "قانون القوميّة" الدستوريّ العنصريّةَ والأپرتهايد تجاه المواطنين الفلسطينيّين الأصلانيّين، ويُدخلهم في مرحلة أشدّ وأقسى على كلّ الأبعاد، اللغةُ أقربُها وأكثرُها راهنيّةً وأكثفُها رمزيّةً وبراغماتيّةً، في ذات الوقت. ترى... هل يرتقي الردّ إلى حجم الحدث؟


فريدان بيتي، 2017 [1963]. اللّغز الأنثويّ. ترجمة عبد الله بديع فاضل. دار الرحبة: دمشق – سورية.

التعليقات