مفرق 48؛ وثيقة سينمائيّة لم تكتمل

يقول مارك فيرو[1]: 'الفيلم - سواء كان تشبيهًا للواقع أم لا، توثيقًا أم خيالًا – هو تاريخ. الكاميرا تكشف سرًّا وتصوّر الوجه الآخر للمجتمع بكلّ شذوذه، وتمكّننا من الوصول إلى مجال تاريخيّ كان مغيّبًا ومخفيًّا، عن طريق الواقع المعروض. الفيلم يساعدنا على تفكيك المبنى الّذي بناه السّياسيّون والفلاسفة بانسجام قادر على تفسير كلّ شيء.'

من الماكرو إلى الميكرو

ما من شكّ أنّ فيلم 'مفرق 48' (97 دق) وثيقة مهمّة، فهو ينقلنا من وضعيّة 'ماكرو' النّشرات الإخباريّة إلى 'ميكرو' التّفاصيل المختبئة بين البيوت القديمة المتراصّة، وبواطن أسقف الصّفيح وشقق 'الشّيكونات'. فيلم يبدأ بتشريح أوّليّ لمدينة اللّدّ الفلسطينيّة مع كلّ أعبائها ومشاكلها، وكونه فيلمًا إسرائيليًّا، فهذا لا يعني تهشيم وتهميش طرحه، وإن كان لا بدّ من طرح التّساؤلات، دائمًا، حول اهتمام أيّ جهة إسرائيليّة بالفلسطينيّين ثقافيًّا.

تبدأ مشكلة هذا الفيلم من سيناريو لم ينضج بعد، سيناريو عمل جاهدًا على طرح كلّ القضايا مجتمعة في مساحة سينمائيّة محدودة، لم تفسح المجال للتّمعّن والتّعمّق وإعطاء كلّ هذه القضايا ما تستحقّ، وقد اعتمد على تفسير الظّواهر من خلال الحوارات، فيما كان من الأدقّ أن تطرح في مَشاهِدَ توصل للمُشاهِدِ رسالة الفيلم.

الشّرف!

عماد الفيلم قصّة حبّ لم تختمر، لم ينصفها الفيلم كما لا ينصفها الواقع اللّدّيّ بخاصّة، والفلسطينيّ بعامّة، والّذي لا يترك للعاشقين متنفّسًا لممارسة تفاصيل هذا الحبّ، فهو محاط بجدران من الإملاءات الاجتماعيّة والحصارات السّياسيّة. يشتّت الفيلم قصّة الحبّ حين تتداخل خيوطها مع خيوط أخرى، كالفقدان والعجز والإحباط والقمع.

كريم ومنار عاشقان، تضربهما، مثل رمل الشّاطئ، الضّائقة الاقتصاديّة من جهة، والتّضييقات الاجتماعيّة من جهة أخرى. هما شريكان في ألمهما الشّخصيّ، كما في ألم النّاس الّذين يحيطون بهما. لكن في طرح هذا الحبّ ثمّة تناقضات – كما في الكثير من طروحات الفيلم – فالأصدقاء وعائلة كريم يعترفون، ضمنيًّا، بهذا الحبّ الّذي يبدو وكأنّ عائلة منار هي الوحيدة الّتي تجهله، وهي عائلة ذكوريّة لا تتوانى عن المقامرة بحياة ابنتها حفاظًا على 'الكرامة والشّرف'. تظهر منار في العلن في كلّ محفل اجتماعيّ، لكنّها تخشى الظّهور على المسرح لتغنّي، سوى مسرح نادي الحزب الشّيوعيّ قليل الرّفاق.

إنصافًا، يصوّر الفيلم حياة الأنثى في واحدة من أكثر زواياها واقعيّة وظلمة، فهي عاشقة متحرّرة متمرّدة في فضاء حدوده 'الشّرف'، وربّما من أجمل المشاهد في الفيلم هو ذلك الّذي يصارح فيه المُحبّ حبيبته حين ينتقد تمنّعها من مشاطرته الحبّ، فيما يكون جيفارا أيقونتها.

ما لم يكن...

السّيناريو المُثقل بالحكايات المتداخلة يفقد الفكرة الأصليّة روعتها، وهي بتصوّري حكاية الفنّان المولود من رحم الاضطّهاد اليوميّ، يقاوم بسلاح الكلمة واللّحن.

كم كنت أودّ، مع تخصيص دور البطولة لتامر نفّار وكمّ الأغاني الّذي يوفّره الفيلم، أن يكون فيلمًا غنائيًّا، أو أن يكون سيرة ذاتيّة مباشرة لتامر دون تحايل، بصفته نجمًا تخطّى فنّه حدود الجغرافيا والهويّة والجنسيّة، أو أن يضع تحت المجهر تجارة المخدّرات والدّيناميكيّة الّتي تفرضها على حياة اللّدّيّين اليوميّة، أو أن يطرح بكلّ جرأة تفاصيل عنق الرّحم ودوره في صياغة حياة النّساء، أو أن يجمع كلّ ركام البيوت المهدّمة المبعثر، ويضرب به بكلّ قوّة شبابيك المجتمع الإسرائيليّ العازلة للصّوت الفلسطينيّ.

الفيلم كان كلّ ذلك، ولم يكن أيًّا من ذلك!

البحث؟!

من أهمّ مقوّمات الفيلم 'البحث'، الّذي يعيش وينمو مع كتابة السّيناريو. لا يمكن أن تقدّم لجمهور يعيش الواقع نفسه فيلمًا غير مُكتمل، فيعرّيك خطأ صغير في الفيلم ويكشف أنّ البحث لم يكن جدّيًّا وعميقًا؛ وأعتقد، مثلًا لا حصرًا، أنّ مرافقة رجل دين والاستماع إليه يقرأ أدعية 'الماء والثّلج والبَرَد،' واعتماد أسلوبه الخطابيّ، ليس بالأمر الصّعب لما فيه من تفاصيل كانت لها أن تضفي على مشاهد الجنازات بعدًا يشعر المشاهد بصدق أكبر.

الفيلم النّاجح هو الّذي لا يترك مجالًا لإيجاد ثغرات في تفاصيل الحكاية. هو الّذي لا يحمل مشاهدَ أو تصريحات تناقض بعضها بعضًا! هو الّذي ينتزع منّي التّضامن مع الفحوى والتّعاطف مع الشّخصيّات في قالب لا يزال يحترم ذكائي ولا يلقّنني المعاني.

لم أتمالك نفسي وتنهّدت تنهيدة غضب حينما رأيت الوالد يقود سيّارة 'سوبارو' تعود إلى سنوات الثّمانين، فحتّى لو وجدت سيّارة كهذه في سنوات الألفين – بناءً على تصريح بطل الفيلم خلال مناقشة عائلة حبيبته – فإنّ وجودها في الفيلم يُعدّ في نظري تأكيدًا على فكرة مسبقة تجمع العربيّ دائمًا بسيّارة السّوبارو القديمة، حتّى وإن كانت تهدف، برؤية أعمق للنّصّ المرئيّ، إلى الإشارة لتقشّف العائلة الشّيوعيّة وسوء حالتها المادّيّة.

هل يمكن أن يتحوّل الشّيوعيّ إلى مؤمن متشدّد؟ نعم، ممكن. لكن اختبار الموت الّذي يحوّل إنسانًا نابضًا بالفرح والتّحرّر والموسيقى، إلى إنسان مُقعد، لا يحوّله بالضّرورة إلى مشعوذ؛ فالتّطرّف وتحوّل شخصيّة الأمّ في الفيلم يفتقد إلى المنطق.

رغم الهدم

مشهد هدم منزل العائلة الفلسطينيّة يرفع منسوب ضخّ الغضب في نفس المشاهد، لا سيّما وأنّ الهدم يكون لصالح بناء متحف التّعايش المُتخيّل. ما من شكّ أنّ هذا الاختيار هادف، وتنعكس منه صورة ضحيّة داوى المعتدي جراحها ببعض الخلّ!
لكن، اجتماع المقاومين على أنقاض المنزل في حلقة بوهيميّة تعزف وتغنّي، أمر يفرغ الرّئتين من كلّ الهواء الغاضب الّذي امتلأت به سابقًا!

ما من شكّ أنّ نجوميّة تامر نفّار ولدّيّته، تعطيان مصداقيّة للقصّة، وليس جديدًا على المخرج أودي ألوني التّعبير بصراحة عن تضامنه مع الشّعب الفلسطينيّ ومعارضته للسّياسات الاحتلاليّة الإسرائيليّة؛  لكن حذار من تحويل التّجارب الشّخصيّة إلى وثائق تاريخيّة هشّة، وهي في الحقيقة قويّة وعميقة. قضيّة اللّدّ وليدة قضيّتنا الأمّ، ولها في القلب ما للقدس والخليل ويافا، وكانت تستحقّ أن تخرج إلى فضاء السّينما بكلّ عنفوان وقوّة، وأن تكون أكثر حدّة ووضوحًا وثباتًا.

يُذكر أنّ 'مفرق 48' حصل على جائزة أفضل فيلم عالميّ في مهرجان 'ترابيكيا' في نيو يورك، وكذلك جائزة الجمهور في مهرجان برلين السّينمائيّ لدورته الـ 66.

بطاقة الفيلم

مفرق 48 (97 دق).

إخراج: أودي ألوني.

سيناريو: أورين موفيرمان وتامر نفّار.

تمثيل: سلوى نقارة، تامر نفّار، سعيد دسوقي، سمر قبطي، أديب صفدي.


[1] مؤرّخ فرنسيّ. من مقاله 'الفيلم: تحليل مضادّ للمجتمع.' (1991).