نراها، فتنبت الحدائق داخلنا

'للمرّة الأولى تبدو غزّة جميلة ومختلفة، وبعيدة عن وجه المعاناة المعتاد.' كان ذلك الانطباع الأوّل للمتضامنة الإيطاليّة، فيديريكا ريكو، لدى زيارتها معرض 'في حضرة الطّبيعة'، للفنّان التّشكيليّ ماجد شلّا. فيديريكا، تسمرّت مبتسمة أمام لوحاته الّتي احتضنها محترف شبابيك للفنون بغزّة، تُحاول استنشاق البهجة الّتي تنبض بها، لا سيّما أنّها 'تُشعرها كما لو أنّها تتنقّل بين الحدائق، بينما هي تقف ثابتة وسط رقعة مكانيّة محدودة.' كما تروي! 

 كأنّ ماجد شلّا يحاول في تحربته الجديدة هذه إحياء الطّبيعة، عودةً للأمّ، للذّات، لأشياء وملامح كثيرة، لمنبع الجمال الأوّل، للدّاخل. للوهلة الأولى، يشعر المرء، كما لو أنّه يشاهد حدائق مزهرة توزّعت في الأركان؛ لكنّ المفاجأة تتبدّى شيئًا فشيئًا للمتذوّق، لنكتشف أنّ صاحب اللّوحات سحب وجوهنا وملامحنا، وكلّ أشيائنا، شيئًا فشيئًا، إلى دواخله الخاصّة، وكأنّه بلوحاته تلك رغب أن يشاركنا جولاته وصولاته في جوّانيّاته، بحثًا عن البهجة المنشودة. كما لو أنّه بفعلته تلك، يُهدي قلب كلّ واحد منّا حديقة مزهرة، مع سقوط نظرنا عليها!

محاولة استشفاء

التّجربة 'محاولة استشفاء من أوجاع كثيرة ألمّت به،' وفق شلّا، جرّاء اعتياده على ترجمة الواقع من خلال وجوه مكسورة وحزينة، ومرادفات أخرى تشير للاضطّهاد والظّلم، وذلك محاكاة لمجريات الحياة تحت واقع الحصار الإسرائيليّ الّذي يعيشه قطاع غزّة.

تجربته هنا لحظة نزوح إلى الذّات عبر استرجاع مخزونه الخاصّ من ملامح ومشاهد طبيعيّة، رآها وأحبّها والتصق بها، ومشاهد لمّا يزل يراها في المناطق القريبة منه، وأخرى لم تزل عالقة في البال، لا سيّما أنّه تمكّن من زيارة معظم مناطق فلسطين ومدنها في سنيّ حياته الماضية، وحظي برؤية جمال بقاعها المختلفة.

من قلب الذّات

تتجلّى جماليّة العمل في مقدرة مبدعها على نسج مشاهد مختلفة وعديدة من مساحة جماليّة محدودة، دون تكرار في المشاهد قد يؤدّي إلى الرّتابة. كما يتجسّد التّحدّي الآخر في ضبط إيقاع اللّون.

الكاتب توفيق أبو شومر، لفتت انتباهه عبقريّة مزج الألوان، إذ بدت له 'وكأنّها تلتصق بالدّاخل، لما لها من تأثير على الرّوح، وللدّهشة الّتي تصيب بها النّفس.' تركيبة الألوان ذاتها أثارت استغراب العديدين من روّاد المعرض، بسبب اختلاف مزيج الألوان وتنويعاتها عن المشهد العام والحقيقيّ للطّبيعة، 'لكن في النّهاية، هو المزيج الّذي يعيش داخل مخيّلة الفنّان، وله الحرّيّة في انتقائها وتفضيلها عن غيرها، بل هنا تتجلّى روح الفنّان،' كما ترى مديرة مركز التّبادل الثّقافيّ، ميري كيفيلي.

بحثٌ عن الجمال بلا هوادة

'التّجربة الّتي يقدّمها مجاد شلّا في معرضه هذا، رسالة نقديّة للفنّانين الشّباب، للدّفع بهم نحو البحث عن مكامن الجمال، والنّأي عن تحويل أعمالهم إلى مجلّات إخباريّة، كما كان غالبًا على معارض شبابيّة عديدة في غزّة، حيث السّعي إلى اكتساب شهرة سريعة من خلال مجاراة الأجواء السّائدة في غزّة،' كما يرى الفنّان التّشكيليّ باسل المقوسي. من هنا، يُوّجه شلّا نصيحته للشّباب، بــ 'البحث بلا هوداة عن الجمال أينما كان، والتّعبير عنه من خلال منظورهم الخاصّ، الخاصّ فقط.'

الجميل أنّ أجواء حفل افتتاح المعرض، وسط المساحات اللّونيّة الزّاهية ووجوه الزّوّار المبتهجين بلقائهم، لم تكن لتفوت دون التقاط صور السّيلفي، لا سيّما أنّ الغزيّينن على اختلاف فئاتهم، يشتهون مساحات يلتقون فيها، يرتشفون القهوة ويبتسمون، وهذا أهمّ من أيّ أمر آخر.

خمسون لوحة (أكريليك على كانفاس)، نُفّذت بجهد شخصيّ بحت، ودون رعاية أو دعم من أيّ جهة. وقفة امتدحها فنّانون تشكيليّون كثر حضروا الحفل، الّذين أدهشتهم مبادرة شلّا الّتي جاءت على هذا النّحو. وجد شلّا المعرض فرصة لدعوة الشّباب والمهتمّين إلى عدم جعل التّمويل عائقًا أمام عرض منتجاتهم الفنّيّة، مستشهدًا بتجربته، تلك الّتي استغرقت نحو ثلاثة أشهر من العمل المتواصل والدّؤوب، وصولًا لحضور مولوده الجديد.

عن ماجد شلّا

الفنّان التّشكيليّ ماجد شلّا، مواليد غزّة (1965)، عضو مؤسّس لمحترف شبابيك الشّبابيّ، أحد أبرز جاليريهات غزّة المعروف باحتضانه للإبداعات الشّبابيّة وتطويرها. معارضه الفرديّة تحمل على الدّوام عناوين أدبيّة إنسانيّة الطّابع، فيها يظهر شغفه بمدينة غزّة، هي من تسكنه من رأسه إلى أخمص قدميه. من أوائل أعماله وأشهرها معرض 'سوار من غزّة'، و'غزّة حنين المكان'، و'تنفّس الهواء'، وقد شارك في الكثير من المعارض المحلّيّة والدّوليّة لنقل معايشاته اليوميّة في مدينته، ولم يزل حكيمًا وموجّهًا للسّائرين على درب الفنّ، وتحديدًا الجيل الشّابّ منهم، كما عُرِفَ دومًا!