غزّة تبحث أسئلة إعمارها وبحرها بالفنّ

"رسائل الجداران" | عمل ميّ مراد

أسعد الصفطاوي

تصرّ مدينة غزّة رغم الحصار ومحدوديّة الأدوات والمساحات، على المساهمة في المشهد الثقافيّ الفلسطينيّ بمختلف أشكال الفنون والإبداع. وهي تشارك خلال هذا الشهر، تشرين الأوّل 2016، بمعرضين فنّيّين ضمن في فعاليّات محفل 'قلنديا الدوليّ' بنسخته الثالثة، تحت شعار 'هذا البحرُ لي'، والذي يتّخذ من اللجوء والعودة ثيمةً مركزيّةً له.

'معرض المدن 5'

في مركز القطّان للطفل في غزّة، افتتح كلّ من الفنّان التشكيليّ محمّد الحواجري، ومديرة البرامج الثقافيّة والأنشطة في المركز، ومجموعة من الفنّانين والمختصّين 'معرض المدن' بنسخته الخامسة، والذي يتقصّى فكرة التدمير المتكرّرة وإعادة الإعمار.

تبحث النسخة الخامسة من المعرض الشرخ القائم بين التطلّعات السياسيّة الفلسطينيّة حول غزّة، ومفهوم إعادة الإعمار وعلاقته بالديناميكيّات المتعدّدة، على المستوى السياسيّ العالميّ والإقليميّ، وإنشاء مساحات جديدة من أجل التأسيس لاقتصاد حرّ ليبراليّ جديد عابر للحدود، وبناء هيكليّات ماليّة عالميّة قياسًا على التحوّلات في مشروع التحرّر الفلسطينيّ.

افتُتِحَ المعرض في غزّة بالتزامن مع افتتاحه الرسميّ في متحف جامعة بيرزيت. يقول قيّم المعرض في غزّة، محمّد الحواجري، حول ذلك: 'كان هناك تواصل وحوار وتبادل للأفكار بين المشاركين من غزّة والضفّة الغربيّة، أفضت إلى رؤية خاصّة نقدّم من خلالها غزّة عبر سبع شابّات وثلاثة شبّان لهم اهتمامات بالفنون، يعيشون في مناطق مختلفة من قطاع غزّة.'

أبواب غزّيّة وأبراج شاهقة

شارك الفنّان معين السوسي بمشروعه الفنّيّ الذي حمل عنوان 'المكتوب يُقْرَأُ من بابه'، موثّقًا وراصدًا مجموعة كبيرة من الأبواب القديمة، والتي تدلّ، على حدّ قوله، على مدى ثراء أهل البيت أو فقرهم، 'فالناس في غزّة تقول إنّ المكتوب يُقْرَأُ من بابه، وقد أشرت إلى الزمن الذي صُوِّرَت فيه الأبواب، إذ لا تعرف إن كانت هذه الأبواب ستبقى أم ستتعرّض للتدمير، كما كثير من البيوت وأبوابها، وتغدو تراثًا منسيًّا. للأبواب في حياتنا دلالات كثيرة، فقد يرتبط باب منزل معيّن بأمر أو حدث ما في ذاكرتك، ويصبح حيًّا ودالًّا.'

'المكتوب يُقرأ من عنوانه' | عمل معين السوسي

'سنغافورة غزّةعمل تركيبيّ لما بدا أنّها أبراج شاهقة مصنوعة من الزجاج العاكس، مقامة على حجارة مكسّرة. اتّخذت صاحبته، الفنّانة منال الديب، من هذه الفكرة منصّة لتطلق خيالاتها حول مستقبل غزّة المحاطة بالدمار، في تجاوز واضح لما هو مستحيل. تؤمن الديب أنّ هذا الحلم سيتحقّق يومًا، تقول: 'كثير من الناس في غزّة يؤمنون بما قاله الرئيس الراحل ياسر عرفات، إنّ غزّة سوف تتحوّل لسنغافورة يومًا ما.'

معنى الإعمار

عمل آخر بعنوان 'حفنة من تراب' كان للفنّانة والكاتبة أميرة حمدان، عبارة عن مجموعة كاملة من مرطبانات وُضِعَتْ فيها أنواع مختلفة من التربة الموجودة في غزّة، الرمليّة أو الجيريّة، الكركار، التربة الطميّة، التربة الرسوبيّة. وهو عمل يبحث الأساس الذي تنطلق منه أيّ حياة، يبحث في تربة المكان، القاعدة التي تحتضن الزراعة ويقوم عليها الإعمار والإنشاء، وقد جاء في ملاحظة أرفقتها حمدان بالعمل، أنّ التربة جُمِعَتْ من مناطق مختلفة في غزّة.

تناولت الأعمال الفنّيّة التي قدّمها عشرة فنّانين غزّيّين (سبع فنّانات وثلاثة فنّانين)، عناصر مهمّة من تاريخ غزّة القديم والمعاصر، موثّقة بذلك حقبة كاملة من التجاهل المقصود لغزّة، وإهمالها، بل والإمعان في تدميرها، دون التطرّق لآليّات وطرق إعادة إعمارها. يقول الفنّان محمّد الحواجري في هذا الصدد: 'لا تقتصر إعادة الإعمار على إعمار البيوت والمنشآت التي دُمِّرَتْ جرّاء الاعتداءات الإسرائيليّة المتكرّرة، بل تحتاج غزّة إلى إعادة إحياء من جديد، للنفوس والأعمال والفنون والثقافة أيضًا، وهو أفضل شكل يمكن البدء من خلاله كمدخل لإعادة بناء غزّة من جديد.'

تشتمل النسخة الخامسة من 'معرض المدن' على أربعة فصول متعاقبة، بدأت في أيلول (سبتمبر) ،2015 وتمتدّ حتّى ربيع عام 2017، ويشارك فيها الفنّانون: خضر الكردي، وأميرة حمدان، ودعاء قشطة، وسميّة الأقرع، وشريفة الغصين، وصفاء أبو دلو، ومحمّد العمراني، ومعين السّوسي، ومنال الدّيب، وهالة هشام أبو نحلة. أمّا قيّمه، فهو الفنّان محمّد الحواجري.

'سنغافورة غزّة' | عمل منال الدّيب

 

بحرٌ لنا

في كلّ من مقرّ 'مجموعة التقاء' الفنّيّة ومقرّ 'محترف شبابيك' بغزّة، يُنَظَّمُ معرض 'هذا البحر لي'، والذي افتُتِحَ بعمل تركيبيّ للفنّان محمّد الحواجري، مكوّن من شاشة عرض ظهر من خلالها الرئيس الفلسطينيّ الراحل، ياسر عرفات، يردّد جملة 'واللّي مشّ عاجبه يشرب من بحر غزّة'، وأمامها مجموعة كبيرة من الكاسات البلاستيكيّة المملوءة بماء البحر. يقول الحواجري: 'بعيدًا عن كلّ الخلافات السياسيّة المغرقة للفلسطينيّين، يبقى بحر غزّة القيمة الرمزيّة لفترة من الزمن قاوم خلالها الفلسطينيّون سطوة المحتلّ بعناد، ويتمثّل ذلك في أحد رموز القضيّة الذي دلّل على ذلك بجملته الشهيرة تلك، وهو أحد أهمّ المتمسّكين بقضيّة عودة اللاجئين. ثمّة دلالات كثيرة لمشاركة هذا العمل في محفل ’قلنديا الدوليّ‘، فهو يحمل فكرة تجدّد الدم في العروق، ومقاومة اليأس وتخطّيه، والتمسّك بحقّ العودة كحقّ من حقوق الشعب الفلسطينيّ.'

رسائل الجدران

في مقرّ 'مجموعة التقاء' العديد من اللوحات والصور والتركيبات الأخرى المشاركة، والتي تمحورت في تعبيراتها ومدلولاتها حول البحر وما له من اتّصال بقضيّة اللاجئين. إحدى تلك اللوحات كان لقوارب نجاة فيها عشرات بدلات العوم البرتقاليّة الفاقعة، والتي تثير قضيّة قوارب اللاجئين، وما لغزّة ولاجئيها من صلة بما يحدث في العالم.

إحدى تلك اللوحات كانت للفنّانة ميّ مراد، حملت اسم 'رسائل الجدران'. جسّدت اللوحة جدارًا من جدران القضيّة، متّصلًا بفضاء شاسع من القدم على شكل خربشات وتعبيرات مبعثرة باللغتين العربيّة والإنجليزيّة، بألوان داكنة مائلة تحمل دلالات العبور الإنسانيّ على الجدار، وثمّة سؤال واضح في زاوية من اللوحة 'وينك؟!' وجملة من أغنية لفيروز، 'يا حبيبي تعا قبل الضوّ،' هي أوّل ما يلفت عين المشاهد. 

أحقاد مسلّحة بالخوف

تقول مراد التي تقف إلى جانب لوحتها في المعرض: 'أعتمد الجدار وسيلة لإيصال الرسائل وطرح الأفكار، الجدار الذي يفصل دائمًا، هو حلم العودة وحلم الحرّيّة. قد يبدو ذلك من خلال كسر قتامته الموحشة برسوم الشارع أو الكتابات التي جسّدت المتنفّس لشعب كامل يريد أن يخرج المارد من داخله، لكنّه يصطدم بذلك الجدار. قد نكتب حبًّا، قد نكتب شعرًا، قد نعترض، قد نعلن وننتفض ونتواعد عبر حائط لا زال في مكانه يشهد الكثير من الأحداث بينما الحلم واحد، هو تجاوز ذلك الجدار والعودة.'

'واللّي مش عاجبه يشرب من بحر غزّة' | عمل محمّد الحواجري

تضيف مُراد: 'أذكر كلمات محمود درويش: (وعلى الحائط تبكي هيروشيما/ ليلة تمضي، ولا نأخذ من عالمنا/ غير شكل الموت في عزّ الظهيرة.) كما لو أنّ اللوحة هي ذلك الحائط؛ الوحش الرماديّ الكاسر، قَلعة يحتمي خلفها الطغاة. ظهرت الجدران مجدّدًا في العصر الحديث كوسيلة فصل بين المرء وإرادته بأن يكون حرًّا كريمًا في هذه البقعة الوحيدة الصالحة للحياة. نهض الجدار مجدّدًا فكان كقلاعِ العصورِ الوسطى التي تحمي البغاة، لكنّ الإنسان نهض أيضًا في مواجهة هذه الرماديّة القاتمة.'

وتقول أيضًا: 'الجدار ليس خرسانة مسلَّحة كما يعتقد كثيرون، بل هو أحقاد مسلَّحة بالخوف. الجدار هو التمثيل الرسميّ لآلاف الجنود المصطفّين المتراصّين بحرابهم وبنادقهم لمنعِ الإنسان من بلوغِ غايته، وهو الخوف المتجذّر في الإنسان من الآخر.  يقول الكاتب الأوروغوياني إدوارد غاليانو: (وعلى أحد جدران مونتيفيديو في حارة أورينتال، يجد على أحد جدرانها قَد كُتِبَ: هنا نجلس، نراقبهم يقتلون أحلامنا.) فالجدار صار صوت من لا صوت له، وآخرُ وسائل التعبير عن الظلم والجمال والحياة.'

حقيبة الأونروا

من الأعمال التركيبيّة المعروضة أيضًا، عمل للفنّان باسل المقوسي، بعنوان 'حقيبة أبي'، وهو عبارة عن حقائب قماشيّة بالية وخرقاء، مطبوع عليها شعار وكالة غوث وتشغيل اللاجئين (أونروا)،  معلّقة على حائط بالتوازي.

أربع حقائب يظهر أنّ فيها ورقًا وكتبًا، وأخرى فيها ملابس. يتحدّث المقوسي، وهو أحد القائمين على 'محترف شبابيك' عن العمل قائلًا: 'بداية التشرّد، أي بعد النزوح، كانوا يوزّعون علينا هذه الحقائب، والتي مثّلت للفلسطينيّ كلّ معاني الفقد والضياع والحرمان. كنّا نضع في هذه الحقائب ملابس إلى جانب الكتب ونحن متّجهون إلى المدرسة، لنتسكّع بعد خروجنا باتّجاه البحر، نسبح ثمّ نعود إلى بيوتنا.' يكمل المقوسي كلامه: 'العودة ستكون بلا هذه الحقائب، سنعود تاركين خلفنا كلّ تلك السنين، سنبحث عن حياة أخرى جديدة، حياة مواطنين حقيقيّين وليس حياة حقائب أونروا بالية وخرقاء.

العودة الغريبة

جاء معرض 'هذا البحر لي' ليصف الرابط الفلسطينيّ المتمثّل بالبحر، واحدًا من الرموز التي تجمع الجميع؛ كلّ فلسطينيّ يقف على البحر الأبيض المتوسّط، يتذكّر فلسطين، يتذكّر أنّ هناك أرضًا مسروقة، ولاجئين مشتّتين في كلّ بقاع الأرض، لأنّ لا وطن لهم.

"حفنة من تراب" | عمل أميرة حمدان

أمّا فكرة العودة، فقد جاءت غريبة في فنون غزّة، ما عاد هناك من يتحدّث عن العودة مع التطوّرات السياسيّة خلال العشرة أعوام الأخيرة، وبات يصعب علينا أن نلمس المنحنى الثقافيّ المتواتر لدى الغزيّين، إذ يميل كثيرون إمّا إلى الهجرة أو المحافظة على ما تبقّى.

الحاجة إلى التجديد

يكاد 'بيت التقاء الفنّانين' و'محترف شبابيك' أن يكونا المكانين الوحيدين الذين يقدّمان الدعم والرعاية للفنّانين التشكيليّين في غزّة، مع التركيز على الفنّانين الشباب، وهما يحاولان مرارًا وتكرارًا إيجاد محفل فنّيّ أو احتفاليّة لتسويق أعمالهم وترويج مضامينهم.

رغم الجهود التي تُبْذَل، إلّا أنّ محمّد، أحد المدعوّين المشاركين في المعرض يرى أنّه 'لم تعد هناك مشاركة واسعة أو التفاف من الناس حول الفنّان كما في السابق، وفي ذلك يلام الجميع، على المستويين الرسميّ وغير الرسميّ، لكنّ أيّ محاولة لانتشال الفنّ من مضامينه السحيقة، يجدر الإشادة بها، والاهتمام بما تقدّمه.'

أمّا جنين فترى أنّه 'لا يوجد أيّ عملية تطوير للمحتوى الفنّيّ في المعارض التي تُنَظّم في غزّة مؤخّرًا، وفي ذلك يلام القائمون على الاختيار، إذ يجب عليهم البحث أن أشكال وأنماط أخرى من الفنون المعاصرة، وضمّها وتفعيلها ضمن سياسة واضحة ومتبنّاة، من قبل المؤسّسات، محلّيّة كانت أم دوليّة.'

التفاصيل الصغيرة

إذا كان من فاعل ثقافيّ يرغب أن يؤثّر في الصراع القائم، عليه أن يفتح المجال أمام أكبر فئة من الفنّانين المعاصرين، وبمختلف أنواع الفنون، والتواصل معهم ودعوتهم وإشراكهم، بل ودعمهم أيضًا، لكنّ ما يحدث خلاف ذلك. لا يحفل معظم القائمين على السياسات الثقافيّة بالتفاصيل الصغيرة، متجاوزين عمليّة التفعيل الثقافيّ، ويحصرون أنفسهم في قوالب نخبويّة، دون احتكاك مع باقي الفئات المجتمعيّة ومحاولة توسيع لرقعة التأثير.

'حقيبة أبي' | من عمل باسل المقوسي

وإن كان من خطّة إنقاذ لبعض المفاهيم كمفهوم العودة، والذي بات شبه ضائع بين جملة المفاهيم الحديثة والمستجدّة تبعًا للمتغيّرات المحيطة، فيجدر بنا العودة أولًا للشارع والناس، وخلق منصّات حرّة تمنحهم القدرة على التفكير بالطرق البديلة للعودة، وتثبيت الحقّ والمحافظة على الانتقال الآمن للمفاهيم الوطنيّة بين الأجيال، كي تصبح الثقافة الشعبيّة هي الحاضنة لهذه المفاهيم، وهي المحرّك الأساسيّ لمقاومة المحتلّ وفقًا لما تقتضيه متطلّبات العصر، وبالأساليب الحداثيّة القابلة للتدويل، على مبدأ أنّ القضيّة الفلسطينيّة قضيّة كلّ إنسان على الأرض، وليست قضيّة الفلسطينيّ فقط.

يجدر بالذكر أنّ الفنّانين المشاركين من غزّة في معرض 'هذا البحر لي'؛ باسل المقوسي، ديانا الحصري، دينا مطر، رائد عيسي، رفيدة سحويل، رقيّة اللولو، سهيل سالم، شريف سرحان، عبد الرؤوف العجّوري، ماجد شلا، محمد الحواجري، محمّد أبو سلّ، ميّ مراد. أمّا القائمون عليه، فهما الفنّانان: شريف سرحان، وباسل المقوسي.