إعادة الألوان للبيت الفلسطينيّ

عمل الفنّان بينجي بويادجيان، "الطريق المسدود" | عدسة عيسى غريّب

خطواتي الأولى في الطريق لزيارة مؤسّسة المعمل للفنّ المعاصر في القدس كانت بدخولي من 'الباب الجديد'، مرورًا بحارة من حارات القدس العريقة، حيث الأرض المرصوفة بحجارة قديمة والدكاكين المتنوّعة على الطرفين. أمام كلّ دكان يجلس صاحبه على كرسيّ صغير من الخشب والقشّ، يرحّبون بالعابرين تارة، ويتبادلون الحديث تارة أخرى. وصلت إلى 'المعمل'، وهي زيارتي الأولى للمكان. بعد جولة بين الأعمال المعروضة في الطابق الأوّل والاستماع لبعض الشرح، نزلت للطابق الأرضيّ، وهناك في آخر رواق صغير وضيّق جذبتني الألوان. لوحة زيتيّة أخذتي لرحلة مع الألوان والأشكال الهندسيّة ودعتني للتوقّف والتفكير، ولم تحرّرني حتّى كتابة هذه الأسطر.   

بلاطة من كلّ بيت

العمل لوحة زيتيّة مكوّنة من مربّعات ملوّنة، وكلّ مربّع يحوي داخله ثلاثة مثمّنات بأحجام وألوان ودرجات لون مختلفة، ما يُنتج حالة من التنوّع والتعدّديّة رغم حالة التكرار في الشكل العام.

تذكّر اللوحة بجدران وبأرضيّة البيت الفلسطينيّ، الذي كان يتميّز بأرضيّات مكوّنة من ألوان وأشكال هندسيّة تمنح الحياة للمكان. بهذه اللوحة التي تحمل عنوان 'الطريق المسدود'، يعيد الفنّان الفلسطينيّ بينجي بويادجيان، الحياة إلى البيت الفلسطينيّ، ويعيد البيت إلى حيّز الذاكرة والوجدان؛ إذ خلق الفنّان، من خلال الحفاظ على نفس الشكل مع تغيير الألوان، حالةَ تجميعٍ لبلاطة من كلّ بيت فلسطينيّ ماتت فيه الحياة نتيجة النكبة والترحيل، وكأنّ كلّ بلاطة تروي حكاية بيت آخر وتجربة خاصّة، ومعًا يروين قصّة الشعب الفلسطينيّ بأكلمه.

في خزانة من غير باب

بعد التوقّف عند الألوان والأشكال والمعاني التي يمكن أن تحملها اللوحة، لا يمكن للمشاهد تجاهل إطار اللوحة؛ إذ يساهم هذا الإطار بنقل المشاهد إلى طبقة إضافيّة من المعاني، لا سيّما أنّ بينجي اختار وضع العمل في إطار خشبيّ عريض، ومَوْضَعَة اللوحة بطريقة غير مألوفة تدعو إلى الاستفسار والتساؤل ومحاولة فهم ما يحمله هذا الإطار من معانٍ.

يُشعر الإطار الخشبيّ العريض المشاهدَ بأنّ اللوحة موجودة داخل خزانة من غير باب، أي أنّ هناك فراغًا بين اللوحة والجانب الخارجيّ للإطار، ما يعطي الإمكانيّة لوضع طبقات إضافيّة من الموادّ لتعبئة الفراغ حتّى الوصول إلى حافّة الإطار الخارجيّة. هذا الاختيار الذي لا يمكن أن يكون عفويًّا، لما تشكّله هذه الألوان والأشكال من مكانة في السياق الفلسطينيّ، وتحديدًا سياق البيت الفلسطينيّ، يدعو إلى التساؤل: لماذا هذا الاختيار تحديدًا؟

بحثًا عن الأصل

عند زيارة العديد من البيوت الفلسطينيّة التي هُجّر أهلها خلال النكبة، يمكننا مشاهدة جدران وأرضيّة البيوت مغطاة، غالبًا، بطبقات تخفي الطبقات الأصليّة، وللوصول إلى الأخيرة، علينا التخلّص من الطبقات العليا. ثمّة ظاهرة إضافيّة يمكن ملاحظتها (في يافا على سبيل المثال)، ألا وهي بناء جدران خارجيّة تغطّي جدار البيت الخارجيّ، حيث تقمع ملامح البيت الأصليّة وتخلق صورة جديدة تتماشى مع الحيّز الجديد الذي خُلِقَ بعد النكبة.

ما قام به الفنّان في هذا العمل، أنّه حاول إعادة الطبقة الأولى الأصليّة للحيّز والتشديد على حضورها، حتّى لو كانت هناك إمكانيّة، من ناحية الحيّز في الإطار، لوضع طبقات إضافيّة فوقها، وذلك للتشديد على البداية وعلى أصل الحكاية وأصل المكان.

على أمل أن...

نقطة إضافيّة يمكننا الالتفات إليها، وهي أنّ الإطار الخشبيّ يحاصر اللوحة، تمامًا كما تعيش البيوت الفلسطينيّة والمكان الفلسطينيّ حالة حصار وتضييق دائم، إذ يُعبّر الإطار عن الحواجز والجدران التي تضيّق الحيّز الفلسطينيّ وتحاصره، كما يعبّر عن حالة أخرى من الحصار، وهو حصار المضمون وليس فقط الشكل، والذي يُعَبَّرُ عنه فعليًّا بتهويد الحيّز لخلق حالة من الغربة التي يعيشها الفلسطينيّ في وطنه.

يجسّد عمل 'الطريق المسدود' فكرة معرض 'على أبواب الجنّة الثامن'، والذي يحمل عنوان 'ما قبل وبعد الأصول'، ضمن محفل 'قلنديا الدوليّ' (2016) بنسخته الثالثة، حيث يعيد الفنّان الألوان إلى البيت الفلسطينيّ الذي نُهِبَ وسُلِبَ وحُوِّلَتْ ملامحه وقُمِعَ، من خلال طبقات بُنِيَتْ فوق الألوان لتشوّه معالم البيت، كما تعيد اللوحة البيت الفلسطينيّ إلى حيّز الذاكرة والمكان، على أمل أن تكون إعادة الألوان للبيت محطّة في إعادة البيت الفرديّ والجماعيّ إلى الذاكرة، كخطوة نحو تحقيق مشروع العودة.

 

أميمة ذياب

 

 

طالبة دكتوراه في مجال علم الاجتماع والإنسان، وباحثة في موضوع البيت والبيتيّة في عالم الجماليّات والأدب الفلسطينّيّ في ظلّ النكبة. تدرس وتمارس مهنة التصوير الفوتوغرافيّ، وحاصلة على شهادة 'أمانة معارض فنّيّة' من جمعيّة الثقافة العربيّة  في حيفا ومؤسّسة المَعمل للفنّ المعاصر في القدس.