غزة: سوق الخياطة نموذجا... من يُعيد الحياة إلى الماكنة؟

في العام 1973، كان الغزّي حسين العرابيد شابًا في بداية عمره حين بدأ في تعلم مهنة الخياطة عند أحد أكبر الخياطين في قطاع غزة، ليتدرج فيها إلى أن أصبح واحدًا من الذين يُشار إليهم بالبنان في إتقانه للمهنة.

غزة: سوق الخياطة نموذجا... من يُعيد الحياة إلى الماكنة؟

معمل خياطة في غزة (أ ب أ)

في العام 1973، كان الغزّي حسين العرابيد شابًا في بداية عمره حين بدأ في تعلم مهنة الخياطة عند أحد أكبر الخياطين في قطاع غزة، ليتدرج فيها إلى أن أصبح واحدًا من الذين يُشار إليهم بالبنان في إتقانه للمهنة.

في ذلك الوقت بدأت ورشات الخياطة ومعامل النسيج تنتشر في غزة، وتشغّل آلاف العاملين الذين يصدرون إنتاجهم إلى شركات في الداخل الفلسطيني، ونجحت هذه المصانع ببناء سمعة طيبة مستفيدة من عاملين: الإنتاج المتقن والتكلفة المنخفضة.

حسين العرابيد (عرب 48)

استمر مجال الخياطة في قطاع غزة في الازدهار لسنوات طويلة، إلى أن فرض الاحتلال الإسرائيلي الحصار على غزة، وبدأت هذه المصانع بالتوقف عن الإنتاج، وأغلقت أبوابها تدريجيًا ليصبح الآلاف من العاملين عاطلين عن العمل بعد مرور اثني عشر عامًا على الحصار.

ومن محله الواقع في منطقة الفالوجا المطلة على مخيم جباليا للاجئين الفلسطينيين شمالي قطاع غزة، يقدم "أبو غسان" (55 عاما)، خدمته إلى عشرات السكان يوميًا، ويشهد له زبائنه ممن حظيت مراسلة "عرب 48" بفرصة مصادفتهم، بمهارته النادرة، والتي نجح بتعليمها لأبنائه.

وفي حديثه لـ"عرب 48"، قال العرابيد: "فضلت مهنة الخياطة على العلم، وتخصصت في خياطة الملابس الرجالية والزي العسكري، وكان العائد المالي وقتها ممتاز حيث وصلت أجور عمال مهنة الخياطة إلى أكثر من 1000 شيكل شهريًا".

وأوضح أنه "بعد عام 2007، ومع الحصار الإسرائيلي على غزة، قلّ عدد الناس الذين يهتمون بتفصيل الملابس، واتجهوا إلى شراء الملابس الجاهزة كونها أرخص ثمنًا، وأصبحنا نعمل بالقطعة، وقل العائد المادي نظرا لعدم توفر ظروف مناسبة للعمل، في ظل الانقطاع المستمر للكهرباء ومنع دخول بعض أنواع الأقمشة وركود الأسواق وشح التجار"، معبرًا عن أمله بأن يعود وضع مهنة الخياطة في غزة لأفضل مما كان عليه في سبعينيات القرن الماضي.

تجربة فريدة

ينوّع الاحتلال الإسرائيلي في الأدوات التي يضيّق من خلالها على الغزيين، ويشمل ذلك كل المجالات، ولمهنة الخياطة نصيب من هذا الحصار، غير أن الغزيين يحاولون على نحو مستمر تذليل الظروف القاسية التي يحاول الاحتلال فرضها.

وفي هذا الشأن تحدثنا الشابة نرمين الحوراني (22 عامًا)، حول موهبتها في تصميم الأزياء قائلة: "بدأت عملي من داخل البيت قبل أربعة أعوام مستغلة حبي لتصميم الأزياء ودراستي لها في الجامعة من خلال تأمين احتياجات الأصدقاء والمعارف من الأزياء والتي لاقت قبولًا جيدًا، واستخدمت تطبيق ‘إنستغرام‘ في الترويج لذلك".

نرمين الحوراني (عرب 48)

وتضيف الحوراني "بدأت بجذب الزبائن، حتى نلت شهرة في هذا المجال ونجحت في المشروع، وحظيت بتشجيع من حولي وهذا ما دفعني إلى الاستمرار، إلى أن افتتحت المشغل الخاص بي عام 2017".

وأوضحت الحوراني أن من أهم التحديات التي تواجهها هي "أن تراعي باستمرار أن تكون الأسعار في متناول الجميع للوصول إلى أكبر عدد من المواطنين".

يحقق مشروع الحوراني إقبالا واسعًا، لكنه ليس بالصورة المطلوبة، وفق ما أوضحت لـ"عرب 48"، وذلك بسبب الوضع الاقتصادي الذي يمر به سكان قطاع غزة، لكن طموحاتها المستقبلية تنصب بتوسيع المشروع وتطوير عملها، وتسعى للحصول على تدريب خارج غزة لتطوير موهبتها.

من يحمي الماكنة؟

انقطاع التيار الكهربائي كان له الدور الأكبر في التأثير على مصانع الخياطة في غزة وتقييدها، بالتالي خفض القدرة الإنتاجية، مما أدى تدريجيًا لتوقف العديد من تلك المصانع عن الإنتاج بشكل نهائي، ما انعكس بشكل مباشر على الوضع المادي لآلاف العائلات.

محمد أبو جيّاب (عرب 48)

وفي هذا السياق، أكد المحلل الاقتصادي، محمد أبو جيّاب، في حديث لـ"عرب 48"، أنه "قبل عام 2007 كان في قطاع غزة ما يزيد عن 1000 مصنع ومشغل للخياطة، كانت تُشغّل تقريبا من 15 إلى 20 ألف عامل، أما عدد المصانع حاليًا لا يتعدى الـ400 مصنع، وأُغلق ما تبقى منها وتوقفت المكن (آلات الخياطة) عن الخياطة، حيث تقلص عدد العاملين في المجال إلى 4000 عامل".

وأوضح أبو جيّاب أنه في هذه الأيام، توجد مجموعة مصانع في غزة تعمل لصالح التصدير الخارجي فقط لدول أجنبية وأوروبية، لافتًا إلى الواقع المأساوي الذي يمر به هذا القطاع. وشدد على أنه يجب على جميع الأطراف المعنية، العمل على حماية مهنة الخياطة.

واستطرد أبو جيّاب في حديثه موضحًا أن "الحكومة ووزارة الاقتصاد، تحديدا دائرة الصناعة، لا تقدم أدنى الخدمات المطلوبة لهذا القطاع، لا على مستوى الحماية من ناحية المعابر وضمان تصدير المنتجات؛ ولا على مستوى توفير الكهرباء".

وأشار أبو جيّاب أن تخصيص الكهرباء لورشات ومعامل الخياطة، من شأنه أن "يقلل من حجم التكلفة التشغيلية، ليتيح المجال للمنافسة"، موضحًا أن الجهات الرسمية "لا تساهم عمليًا في تعزيز هذا القطاع".

ورأى المحلل الاقتصادي الذي يقيم في القطاع، أن التوقف عن جباية الضرائب والرسوم الجمركية على مدخلات العملية الصناعية  لا يجعلها عبئًا يثقل كاهل العمّال، نظرًا لأهمية هذا القطاع وحيويته، إذ من شأنه المساهمة في التنمية الاقتصادية إذا ما حظي بالحماية الحقيقية.

لا تزال ماكنات الخياطة في غزة تنتظر أقدام الخيّاطين لتدوس على ترس التشغيل لتُعيد إليها الحياة من جديد، إلى أن يزدهر هذا القطاع الذي كان يُشغل الآلاف من الأيدي العاملة ويفتح بيوتها، سنوات طويلة مضت على تقويض الاحتلال لها، قضت على ما تبقى منها وأعادت عجلة الاقتصاد إلى الوراء، لتجعله تابعًا وتشل قدرته الإنتاجية، في ظل عدم وجود مبادرات لمواجهة انهيار قطاع الخياطة الذي يعتبر مكونا أساسيا للسوق الغزّي.

 

التعليقات