23/02/2012 - 22:14

في الثورة المقبلة وأخلاقياتها../ عوض عبد الفتاح

هذا ليس قفزًا عن المهمات الآنية للحركة الوطنية داخل الخط الأخضر، ولا هروبًا من مواجهة المخططات العنصرية الجهنمية التي أكدنا أكثر على ضرورة تطوير الأطر التمثيلية كشرط لمقاومة شعبية ناجعة بل القصد هو وضعها في إطار الوطني والديمقراطي العام

في الثورة المقبلة وأخلاقياتها../ عوض عبد الفتاح
تتجمع كل يوم عناصر إضافية في سيرورة التراكم الكمي نحو الذروة المتوقع الوصول إليها قريبًا أو بعيدًا، لحظة كسر الـ"ستاتوس كوو"، أي الأمر الواقع داخل الخط الأخضر، وربما خارج الخط الأخضر. قد ينطلق التحول من هناك أو من هنا، والأمر شبه المؤكد أن أي حراك فلسطيني كبير ونوعي من الجانب الشرقي أو من الجانب الغربي لهذا الخط الوهمي سيكون في النهاية واحدًا، وقد يكون مشابهًا وللمرة الأولى في الأهداف السياسية - إسقاط نظام الأبارتهايد- أما في الوسائل فقد تكون أيضًا مشابهة للانتفاضة الأولى التي أخذت وجهًا ثوريًا وإنسانيًا خالصًا في مواجهة عدوّ أسقط بالرصاص الحي أكثر من 1400 مناضل، وأودع في السجون الآلاف.
 
وقد لا تأتي الشرارة الأولى قريبًا وقد تنتظر سنوات، ولكن لم يعد أحد يجرؤ على السخرية من هذا الكلام بعد أن تهاوت كل التحليلات حول استحالة حدوث ثورة شعبية عربية ضد أنظمة الاستبداد. ناهيك عن حقيقة أن شعب فلسطين ينتفض كل عشر سنوات كما تدل التجربة التاريخية. كما أن الأسباب لذلك ليست فقط أنها لم تختفِ، بل أضيفت إليها كومة من العوامل المفجرة.
 
وقد يكون من سوء حظ القضية الفلسطينية ليس استطالة عمر السلطة الفلسطينية التي حولها الاحتلال إلى وكيل للدفاع عن أمنه وعن تجميد بذور الثورة فحسب، بل أيضًا كون الثورات العربية المجيدة تتعرض لمحاولات سرقة في وضح النهار، وإلى هجوم إمبريالي ورجعي عربي كاسح لتكييفها مع منعها من المساس بالنظام الكولونيالي الإسرائيلي، وبديانة السوق الحرة التي تشكل شريان النظام الإمبريالي والدافع للتوسع وإخضاع الشعوب وسلب حريتها وتقرير مصيرها.
 
وفي حالة انفجار الوضع الفلسطيني، حين تتضافر المقدمات لذلك، فإن الدولة العبرية وباعتبارها تحتكر القوة وتملك أيديولوجيات الكيانات الاستيطانية وبالتالي مبررات حق الدفاع عن مصالح النخبة ومصالح المستوطنين فإن الثوار الفلسطينيين سيكونون عرضة لأشكال مختلفة من القمع قد تبدأ بأشكال ناعمة نسبيًا تفاديًا لمعارضة الرأي العام العالمي، لتتدرج مع تصاعد الغضب ونطاق الحراك إلى أشكال من القمع الدموي، كما حصل في انتفاضات سلمية سابقة. ويجدر التذكر أن هذا القمع الوحشي لم يردع الفلسطينيين عن المضيّ في انتفاضتهم، بل إن الذي أوقفها هو القرار السياسي – القيادي (القيادة المتنفذة في منظمة التحرير الفلسطينية) هذا في الانتفاضة الأولى.
 
قد يتأخر الربيع الفلسطيني ليس فقط بسبب غياب الإرادة الفلسطينية لخوض صراع مع الاحتلال واعتماد سياسة الانتظار الكارثية، بل أيضًا لأسباب تتعلق بتعثر الثورات العربية (مؤقتًا) النابعة أساسًا من غباء أنظمة الاستبداد التي أغرقت هذه الثورات بالدماء، ففتحت الباب أمام اللصوص الدوليين الذين جل همهم إعادة إنتاج وتثبيت نتائج مخططات تجزئة الوطن العربي، وحلفائهم من أنظمة العرب مستعينين أيضًا بمعارضات مُفرّطة ركبت على موجة الثورات ورمت بنفسها في أحضان هؤلاء اللصوص.
 
وقد يجد المثقف الفلسطيني في الداخل، أو السياسي، الذي لم يقف موقفًا واضحًا وحازمًا ومبدئيًا ضد قتل المتظاهرين من جانب آلة الاستبداد العربي بحجة الممانعة في موقف حرج، حين يجد نفسه مع شعبه واقعًا تحت بطش نظام الاستبداد الصهيوني ومطالبًا العالم بإدانة ذلك. لقد أقمنا الدنيا حين قتلت إسرائيل 13 متظاهرًا عربيًا، وكان ذلك واجبًا وضرورة، بل القيام بأكثر من ذلك، وسعينا للتوجه للعالم. فكيف نسكت عندما يُقتل هذا العدد من أبناء أمتنا العربية على يد أنظمة الاستبداد في ساعة واحدة أو أقل.
 
وتغيب عن البعض حقيقة أن ثقافة المقاومة لا تستهدف تحرير الأرض فحسب، ولا تحرير الشعب والذي تعاملت معه الثورات في السابق ككتلة صماء، بل أيضًا تحرير الفرد الإنسان، الذي ظل غائبًا ومغيبًا عن السياسة والمشاركة في تقرير مصيره لعقود طويلة مكبلاً بأغلال الاستبداد.
 
إن جوهر ثقافة المقاومة هو الحرية وليس إسقاط أنظمة فقط. فالثورة الناجحة هي التي تعيد الاعتبار للشعب والفرد على السواء. إنها الثورة التي تحرر الوطن من الاستبداد الداخلي والخارجي. إنها ثورة في القيم والأخلاق.
 
الحاجة لهذه الملاحظة تنبع من ضرورة التهيؤ الأخلاقي لمرحلة تغيّر ساحة الصراع الفلسطيني مع النظام الإسرائيلي. إن من ميزات الثورات العربية أنها اتسمت ببعد أخلاقي عالٍ سواء على المستوى القيمي أو الأساليب: قيم التضحية غير المحدودة والتحرير والمساواة وحقوق الفرد والعدالة، وأسلوب النضال السلمي واعتماد الحشد الجماهيري الهائل.
 
لقد أثبتت الثورات العربية أن للبعد الأخلاقي للثورات وزنا هائلا. وكانت قد أثبتت الانتفاضة الفلسطينية الأولى تأثيرها الهائل على الرأي العام العالمي، فالصدور العارية واجهت رصاص نظام الأبارتهايد الوحشي، فأسقطته أخلاقيًا وسجلت نقاط الانتصار عليه في هذا المجال، ولم يحل دون المضي في تحقيق الانتصارات سوى ظروف دولية وإقليمية (انهيار الاتحاد السوفييتي والغزو الأمريكي للعراق بعد إقدام صدام على احتلال الكويت)، مضافًا إليها الإدارة الكارثية لقيادة الخارج (منظمة التحرير الفلسطينية) والتسرع في استثمارها، فخبت الانتفاضة قبل أن تحقق هدفها.
 
التركيز على الانتفاضة الأولى ليس تقليلاً من بطولة الشعب الفلسطيني في الانتفاضة الثانية، ولا إنكار حق هذا الشعب بمقاومة المحتل بالعنف الثوري، فقوانين الأمم المتحدة تقرّ لذلك. ولكن أيضًا هذا الخيار العنفي خاضع لحسابات الربح والخسارة، ناهيك عن معايير أخلاقية تتعلق باستهداف المدنيين. ولكن المقصود هو أن ما يجري من نقاش وجدل وحراك فكري (وميداني محدود في القرى المحاذية للجدار العنصري) بين النخب الفلسطينية حول أنجع السبل لمحاصرة نظام الأبارتهايد الاسرائيلي في مكانه بل مُلحّ. والأكثر إلحاحًا هو أن يتحول إلى برنامج عمل وإستراتيجية كفاحية تطيح بهذا النظام.
 
وفي ضوء المتغيرات العربية المتسارعة، وما تحتضنه من نكسات وآلام، وما تحتضنه من آلام عريضة في بزوغ حقبة عربية جديدة، وفي ظل المتغيرات في المشهد الميداني والذهني الفلسطيني على جانبي الخط الأخضر وفي الشتات، من حيث ما يجري من إعادة وصل ما انقطع في الوعي الفلسطيني الجمعي نحو العودة إلى جذر القضية، وإلى ما تتطلبه من حل شامل يُعاد فيه بناء الجانب الإنساني الديمقراطي. في ضوء ذلك كله، فقد حان الوقت للبدء بالتفكير في اجتراح الصيغ العملية لدمج النضال الفلسطيني ببعديه الوطني والديمقراطي – ذلك المتعلق بتحقيق العدالة للشعب الفلسطيني، وذلك المتعلق بالعلاقة مع المجتمع اليهودي الإسرائيلي.
 
هذا ليس قفزًا عن المهمات الآنية للحركة الوطنية داخل الخط الأخضر، ولا هروبًا من مواجهة المخططات العنصرية الجهنمية التي أكدنا أكثر على ضرورة تطوير الأطر التمثيلية كشرط لمقاومة شعبية ناجعة بل القصد هو وضعها في إطار الوطني والديمقراطي العام. وهذه مهمة، أي بناء المؤسسات القومية واللجان الشعبية الكفاحية، واجب كل القوى السياسية الوطنية والإسلامية في الداخل، التي لا تزال تتباطأ في الخوض فيها. وقد علمتنا الثورات العربية الراهنة أن التباطؤ يرقى للكارثة الوطنية..
 
للحديث تتمة...

التعليقات