04/02/2020 - 22:27

"الكَرَخانَة"... النقمة الاجتماعيّة والشبهة الأخلاقيّة

خاصّ فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة

تاريخ في الذاكرة

رحل الحادي الشعبيّ محمّد سعيد بصول (أبو عاطف) منذ سنوات، وهو أخو الشاعر المرموق الراحل أيضًا توفيق الريناوي (أبو الأمين)، غير أنّ لأبي عاطف بيتًا من العتابا قيل في أحد أعراس الجليل، جاء فيه:

يا مَحْلى الْعِـلِمْ يـا ناس مَعْ مـالْ

وْحالِفْ سِوى فِعْلِ الْخيرْ ما اعْمَلْ

الِبْـلادِ الـلّي فيهـا لِلنَّسـيجْ مَعْمَـلْ

الْفَقِرْ عَ بْوابـْها يْدُقِّ الطِّنـابْ[1]

 

ليس لهذا البيت قيمة بلاغيّة أو جماليّة تُذكَر، غير أنّه يتضمّن إشارة اجتماعيّة تُحيلنا إلى الموقف من معامل النسيج. يعود قول هذا البيت إلى ثمانينات القرن الماضي؛ فالشاعر يُبشّر فيه البلاد المُقام فيها "معمل للنسيج" بالفقر المدقع. والسؤال: لِـمَ هذا الموقف الاجتماعيّ لدى الناس في بلاد الشام من معامل النسيج؟ ولا سيّما أنّه موقف الناس عمومًا، وليس موقفًا للشاعر وحده منها؛ فالعتابا ذاكرة الفلّاحين الشعبيّة، الّتي كثيرًا ما عبّر الناس عبرها عن همومهم ومواقفهم في فلسطين وبرّ الشام عمومًا، ومن ثَمّ فإنّ سؤالنا عن موقف الناس، يقودنا إلى أسئلة غيره متعلّقة بنشأة معامل النسيج وأشكال استعدائها في بلاد الشام.

للحياكة والتطريز ونسج الأقمشة تراثًا أصيلًا في بلاد الشام، على مرّ العصور والتاريخ، لا بل تُعَدّ حرفة الحياكة والتطريز جزءًا من التكوين الثقافيّ، والذاكرة الشعبيّة الّتي بقيت موضع احترام وتقدير حتّى التاريخ الحديث...

بدايةً، لا بدّ من التذكير بأنّ للحياكة والتطريز ونسج الأقمشة تراثًا أصيلًا في بلاد الشام، على مرّ العصور والتاريخ، لا بل تُعَدّ حرفة الحياكة والتطريز جزءًا من التكوين الثقافيّ، والذاكرة الشعبيّة الّتي بقيت موضع احترام وتقدير حتّى التاريخ الحديث. وهذا غير معامل النسيج الحديثة الّتي نشأت في سياق تاريخيّ مختلف، وحلّت محلّ الصناعات التقليديّة، وخاصّة مع نفوذ التجّار الفرنسيّين، وإدخالهم الحرير الصناعيّ إلى بلاد الشام، الّذي حلّ محلّ ما يُعرف بـ "البروكار"، أي الحرير الشاميّ الطبيعيّ، وكذلك آلة النسيج الحديثة الّتي طغت على النول التقليديّ، بعد منحهم الامتيازات الأجنبيّة من قِبَل السلطان العثمانيّ، في أواسط القرن التاسع عشر.

 

الحملتان: دولة محمّد علي والفرنسيّون

تعود جذور الموقف من معمل النسيج، في بلاد الشام وفي فلسطين خاصّة، إلى مرحلة الحكم المصريّ فيها، وهو ما عُرف في حينه بحملة إبراهيم باشا (1831-1840م)؛ إذ أرغم إبراهيم باشا فلّاحي البلاد على زراعة أراضيهم بالقطن، الّذي احتاجت إليه دولة محمّد علي في مصر، وأقام المصريّون معامل النسيج في المدن، مجبِرين سكّانها على العمل فيها. في أيّار (مايو) من عام 1833، خُطف في بيت لحم ثلاثون صبيًّا من أهاليهم بأمر من الباشا، ونُقلوا إلى مصر للعمل في معامل نسيجها، وتعلُّم صناعة الطرابيش والجوخ، من أجل إدخال هذا النوع من الصناعة إلى سوريا[2]؛ أجّج ذلك نفور الناس من معامل النسيج في سياق رفض الحكم المصريّ على البلاد، وبعد إثقال كاهل الناس بالضرائب، فضلًا عن فرض الخدمة العسكريّة على الفلّاحين، وهو ما أشعل فتيل ثورة سنة 1834، الّتي كان موطن ثقل اندلاعها فلسطين.

لم ينقضِ الأمر بانقضاء الحكم المصريّ للبلاد؛ فدخول الفرنسيّين إثر الحملة الفرنسيّة أوجد لتجّارها موطئ قدم في سوريا وجبل لبنان، بعد أن شرّعها السلطان العثمانيّ عام 1839 بموجب "فَرَمان" سلطانيّ يكفل للتجّار الفرنسيّين امتيازات تجاريّة في البلاد، فضلًا عن إنشاء القناصل الأوروبّيّة، ومنحها حقّ حماية ما أسموه "الأقلّيّات المسيحيّة" وأماكنها المقدّسة.

 

عصر "الكَرَخانات"

أقام الفرنسيّون معامل النسيج على الطريقة الحديثة في جميع بلاد الشام؛ فكان عصر "الكَرَخانات" بما تعنيه "الكَرَخانَة" بالتركيّة: "معمل للنسيج". عُدَّت "الكَرَخانات" المورد الرئيسيّ للحرير والكتّان اللّذين كانا يُستوردان إلى مدينة ليون الفرنسيّة لصناعة الأقمشة فيها. في مدينتَي دمشق وحلب أقيمت "الكَرَخانات" بواسطة تجّارها المسيحيّين، وكذلك في جبل لبنان أُنشئت أوّل "كَرَخانَة" بتمويل مستثمر فرنسيّ في قضاء بعبدا[3]. أمّا في مدينة نابلس، فقد كان إنشاء أوّل "كَرَخانَة" حديثة فيها على يد الفرنسيّ الدكتور المطران سيراليون، مؤسّس الطائفة البروتستانتيّة في المدينة[4]؛ وهذا ما جعل إنشاء معامل النسيج يرتبط بفئة من طائفة بعينها من سكّان البلاد.

أوجدت "الكَرَخانات" طبقة من الصنّاع، ارتبطت اقتصاديًّا واجتماعيًّا بنظام الامتيازات الأجنبيّة، فهيمنت عائلات بعينها على صناعة النسيج، إلى أن صار ما يُعرف بالإقطاع "الكَرَخانيّ"

أوجدت "الكَرَخانات" طبقة من الصنّاع، ارتبطت اقتصاديًّا واجتماعيًّا بنظام الامتيازات الأجنبيّة، فهيمنت عائلات بعينها على صناعة النسيج، إلى أن صار ما يُعرف بالإقطاع "الكَرَخانيّ" الّذي تمثّل في عائلات مثل إخوان السبكي في سوريا، وآل فرعون وشيحا في جبل لبنان[5]؛ فأثار ذلك تحامل كثير من الناس على "الكَرَخانات" الحديثة الّتي قوّضت الصناعات المحلّيّة التقليديّة للحياكة والنسيج، فضلًا عن أنّ الحرير الصناعيّ بات محرّكًا آنذاك لزيادة الإنتاج المطلوب، ومن ثَمّ زيادة الضرائب الّتي أثقلت كاهل الناس.

 

النقمة

اندلعت أحداث عام 1860، الّتي بدأت احتجاجًا في مدينة دمشق على سياسة واليها أحمد باشا، ثمّ امتدّت إلى مدينة حلب لتتّخذ طابعًا طائفيًّا، وَعُدَّت "فتنة" بعد أن هاجم المحتجّون حيّ القيمريّة المسيحيّ، وسوق مدحت باشا في دمشق؛ فكانت "الكَرَخانات" أوّل ما جرى حرقها، بعد تفكيك نوالها وتخريبها، وكذلك في حلب. غير أنّ ثمّة مَنْ لم يرَ في تلك الأحداث فتنةً طائفيّة، بقدر ما كانت نقمة اجتماعيّة على الطبقة الإقطاعيّة ومعامل نسيجها، بدليل أنّ حيّ الميدان الدمشقيّ المجاور للقيمريّة، الّذي معظم قاطنيه كانوا مسيحيّين، لم يقترب أحد منه خلال الأحداث؛ لأنّ معظم أهله من تجّار الحبوب، وليسوا من أصحاب "الكَرَخانات"، كما هي حال تجّار القيمريّة[6].

ذهبت النقمة الاجتماعيّة على "الكَرَخانات" إلى حدّ اعتبارها سببًا في الكوارث الطبيعيّة الّتي ضربت البلاد آنئذٍ؛ فالزلازل والأوبئة المعدية والجوائح الّتي ألمّت بالبلاد، عُدَّت غضبًا إلهيًّا على فجور المجتمع وكُفره، بما يتضمّنه من إنشاء "الكَرَخانات". في لبنان، ومع مجاعة عام 1914، بعد قطع الأتراك ودول الحلفاء الحبوب عن بلاد الشام أثناء الحرب، ازدادت نقمة الجياع من أهل جبل لبنان على "الكَرَخانات"، بعد أن لم يبق لهم ما يأكلونه سوى ورق التوت الّذي كانت تتغذّى عليه دودة القزّ، المُستخرج من شرانقها الحرير؛ فصار التوت والقزّ و"الكَرَخانَة" معهما وجهًا نحسًا وسببًا للجوع في نظر الناس[7].

إنّ كلّ ذلك يفسّر دوافع النقمة والتحامل على "الكَرَخانَة" معملًا للنسيج، في سياقها الاجتماعيّ – الاقتصاديّ، غير أنّ سؤالًا يظلّ أخيرًا، مفاده: كيف تحوّلت "الكَرَخانَة" إلى شُبهة أخلاقيّة؟

 

"الكَرَخانَة" بوصفها شُبهة

لمفردة "الكَرَخانَة" شحنة سلبيّة في ذاكرة سكّان بلاد الشام إلى يومنا؛ إذ تُستخدم شتيمة وتعبيرًا ذا حمولة غير أخلاقيّة، فيُقال إلى يومنا مثلًا: "عاملها كَرَخانِة" أو "إِحْنا مُشْ فاتْحينْها كَرَخانِة هونْ" وغيرهما؛ ومردّ ذلك ارتباط "كَرَخانات" النسيج في بلادنا، منذ مطلع القرن الماضي، وتحديدًا في سياق الحرب العالميّة الأولى، واحتلال فرنسا لبلاد الشام، ارتباطها بتشغيل النساء واستغلالهنّ بصناعة النسيج، أيديَ عاملة أقلّ كُلفة من كُلفة تشغيل الرجال.

باتت "الكَرَخانَة" مقصد العُطّال والبُطّال، والمتسكّعين من الرجال الّذين داوموا على التردّد على أعتابها، لمغازلة النساء العاملات فيها ومعاكستهنّ؛ لتغدو "الكرخانة" موقعًا مشبوهًا، ومكانًا يُحيل إلى الاختلاط والسفور في نظر الناس

إنّ أوّل تجربة لعمل النساء في "الكَرَخانَة" كانت في لبنان، في ظلّ الاستعمار الفرنسيّ له، حين جرى تدريب العاملات اللبنانيّات على أيدي مدرّبات فرنسيّات، أتى بهنّ بورتاليس من جنوب فرنسا إلى قضاء عالية في لبنان[8]، لتدخل المرأة اللبنانيّة - ولأوّل مرّة - سوق العمل خارج الاقتصاد المنزليّ؛ فباتت "الكَرَخانَة" مقصد العُطّال والبُطّال، والمتسكّعين من الرجال الّذين داوموا على التردّد على أعتابها، لمغازلة النساء العاملات فيها ومعاكستهنّ؛ لتغدو "الكرخانة" موقعًا مشبوهًا، ومكانًا يُحيل إلى الاختلاط والسفور في نظر الناس وقتئذٍ.

تعمّم الموقف من "الكَرَخانَة" على سائر بلاد الشام، وبقيت شُبهةً في نظر الناس حتّى مرحلة متأخّرة من القرن الماضي، حسب ما جاء على لسان الحادي، في بيت العتابا الّذي استهللنا حديثنا به. وأكثر من ذلك، وعلى الرغم من التحوّلات الّتي طرأت على تحرّر المرأة، ودورها في مشاركة الرجل في سوق العمل والحيّز العامّ، إلّا أنّ أهلنا بقي لديهم إرباك وزجر من عمل النساء في المعامل وقطاع التصنيع، إلى يومنا هذا.    

غير أنّ كلّ ذلك، لم يمنع عاشقًا متسكّعًا على أبواب "كَرَخانَةٍ" ما في حينه، من القول:

على الماكيـنا قَعْـدَتْ تْخَـيِّطْ

وِالْقَلِبْ يِبْـكي وِالْعـينْ تْعَيِّطْ

وَالله يا حِلْـوي فيكِ ما فَرِّطْ

لَـوْ عَلى نـولِـْك بِيْـعَلِّـقونـا

..........

إحالات:

[1]  البيت مدوّن في صفحة "الشاعر أبو عاطف الريناوي"، فيسبوك، شوهد في 31/01/2019.

[2] انظر: محمّد خالد صافي، الحكم المصريّ في فلسطين (مؤسّسة الدراسات الفلسطينيّة، 2010)، ص 182-183.

[3] ريم الأطرش، "الحرير في الشام طريقه وتاريخه"، مقابلة متلفزة ضمن برنامج "أجراس المشرق"، قناة الميادين، 20/01/2018، شوهد في 31/01/2019.

[4]  انظر: ماري إليزا روجرز، الحياة في بيوت فلسطين (المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر، 2013)، ص 271.

[5] بطرس لبكي، "صناعة الحرير في لبنان وبلاد الشام"، مقابلة متلفزة ضمن برنامج "أجراس المشرق"، قناة الميادين، 22/04/2017، شوهد في 31/01/2019.

[6] ريم الأطرش، المرجع نفسه.

[7] بطرس لبكي، المرجع نفسه.

[8] المرجع نفسه.

 

 

علي حبيب الله

 

 

باحث في العلوم الاجتماعيّة. حاصل على ماجستير فلسفة التاريخ من الجامعة الأردنيّة، وماجستير في الدراسات العربيّة المعاصرة من جامعة بير زيت. يعمل في مجال الاستكمال التربويّ في القدس، ويكتب المقالة في عدد من المنابر الفلسطينيّة والعربيّة.

 

 

التعليقات