14/01/2020 - 22:04

علمانيّة حرّيّة الضمير عند تايلور وماكلور

علمانيّة حرّيّة الضمير عند تايلور وماكلور

فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة

نمطان

يجادل كلٌّ من شارلز تايلور وجوسلين ماكلور في مؤلّفهما "العلمانيّة وحرّيّة الضمير" (2010، بالإنجليزيّة)، على أنّ أنماط العلمنة وأشكالها منبثقة من أنظمة الحكم العلمانيّة، الّتي تنقسم إلى أنظمة علمانيّة ليبراليّة تعدّديّة جاءت علمنتها منفتحة مثل النموذج الكنديّ، وأخرى علمانيّة جمهوريّة متشدّدة تجاه الدين، ولا سيّما في الفضاء العموميّ مثل النموذج الفرنسيّ.

يعود الفرق بين هذين النمطين من العلمنة إلى طبيعة الدولة وشكل نظامها السياسيّ، فالنظام الليبراليّ التعدّديّ تُعَدّ علمانيّته حصيلة مراجعات وتقييمات مستمرّة لمفهوم العلمانيّة وأهدافها، لكنّ النموذج الجمهوريّ ظلّ نموذجًا مشدودًا إلى الماضي متمسّكًا بالأصول؛ وهذا ما جعل المؤلّفَين يؤكّدان أنّ المهمّة التاريخيّة للأنظمة العلمانيّة لم تعُد تقتصر على علمنة مجتمعاتها، وخاصّة بعد أن أضحى وجود الدين في الفضاء العموميّ بديهيًّا، إنّما المطلوب اليوم علمنة النظام السياسيّ فيها لا المجتمع.

 

 

يُعيد تايلور وماكلور النظر في سرديّة العلمانيّة، الّتي هي ذاتها سرديّة الحداثة الّتي انبثقت العلمانيّة من عباءتها؛ فالعلمانيّة على المستوى المبدئيّ ترتكز على مبدأين أساسيّين، هما: الحقّ في المساواة والاحترام الأخلاقيّ، والحقّ في حرّيّة الضمير؛ ففي ذلك غاية العلمانيّة وأهدافها، بينما الفصل بين الدولة والدين وحياد الدولة في الشأن الدينيّ، يُعتبر الجانب الإجرائيّ لممارسة العلمنة وليس الجوهريّ. هذا ما يرى المؤلّفان أنّه قد جرى الخلط فيه، لا بل إنّ بعض الأنظمة العلمانيّة - ولا سيّما الجمهوريّة منها - قد حوّل الإجراء العلمانيّ إلى غاية بذاته، مثل قضيّة تحييد الدين من الفضاء العموميّ إلى حدّ إقصائه؛ فالفصل بين السياسيّ والدينيّ إجراء غايته إتاحة حرّيّة الضمير، والحقّ الأخلاقيّ في الاعتقاد الّذي يقتضي حياد الدولة وعدم انحيازها إلى اعتقاد أو دين لجماعة ما.

 

سؤال الدين

إلّا أنّ التجربة التاريخيّة لمسار العلمنة، أثبتت حجمًا من التعقيد الملازم للعلمانيّة، وخاصّة في مجتمعات الدول الّتي يسمّيها تايلور "رَقْشاء" – أي المتنوّعة دينيًّا وثقافيًّا – حيث تضمّنت غايات العلمنة فيها تصادمًا وتضاربًا مع طرقها الإجرائيّة، وهو ما أفضى إلى توتّرات، وتحديدًا بين مبدأ الحقّ في الاحترام والمساواة الأخلاقيّة من جهة، ومبدأ حماية حرّيّة الضمير والحرّيّة الدينيّة من جهة أخرى. على سبيل المثال، يمكن النظر إلى عمليّة ارتداء مدرّسة مسلمة الحجاب في الفصل الدراسيّ، على أنّه فعل لا يتماشى وحياد المدرسة العموميّة، وأنّه انتهاك للمبدأ الّذي يقتضي أن تُعامل المؤسّسات العموميّة كلّ المواطنين على قدم المساواة. لكن الرأي المخالف يرى أنّ منع المدرّسة من ارتداء الحجاب يمثّل انتهاكًا لحقّها في الحرّيّة الدينيّة؛ فكيف نوفّق بين ضرورة أن تجسّد المؤسّسات العموميّة حياد الدولة واحترام الحرّيّة الدينيّة؟ يسأل ذلك كلٌّ من تايلور وماكلور.

إذا ما كانت الأنظمة العلمانيّة كلّها تُجمع على مبدأَي حرّيّة المساواة والضمير؛ فلماذا ينحو بعضها باتّجاه التضييق على حرّيّة أداء الشعائر الدينيّة؟ هذا ما يمكننا تسميته "تقديس الوسائل" يُجيب تايلور.

إنّ أداء الشعائر الدينيّة في الفضاء العموميّ، هو المسطرة الّتي يجري بمقتضاها تصنيف الأنظمة العلمانيّة بين علمانيّة متشدّدة وأخرى منفتحة. والسؤال هو: إذا ما كانت الأنظمة العلمانيّة كلّها تُجمع على مبدأَي حرّيّة المساواة والضمير؛ فلماذا ينحو بعضها باتّجاه التضييق على حرّيّة أداء الشعائر الدينيّة؟ هذا ما يمكننا تسميته "تقديس الوسائل" يُجيب تايلور؛ فقد غدا الفصل بين المؤسّسة الدينيّة والدولة وحياد الدولة تجاه الدين قيمتين في حدّ ذاتهما، وجب الدفاع عنهما بكلّ السبل، وليسا مجرّد وسيلتين؛ وهو ما جعل النقاشات العموميّة حول العلمانيّة تركّز في الغالب على الطرق الإجرائيّة، أكثر من تركيزها على الغايات.

لا تتحوّل وسائل العلمانيّة إلى غايات بذاتها فقط، إنّما الوسائل تستولد غاياتها أيضًا؛ فأنظمة الحكم العلمانيّة المتشدّدة تجاه حرّيّة أداء الشعائر الدينيّة في الفضاء العموميّ، ترى نفسها مكلّفة بتحقيق قيمتين أو غايتين تُضافان إلى المساواة في الاحترام وحرّيّة الضمير، وهما: تحرير الأفراد من سلطان الدين، والإدماج المدنيّ. يبرّر النموذج العلمانيّ الجمهوريّ "المتشدّد" هاتين القيمتين الإضافيّتين، بالسعي إلى تشجيع الأفراد على التحرّر من سلطة الدين، الّذي يُنظر إليه على أنّه يتنافى واستقلاليّة الأفراد العقليّة. أمّا الإدماج المدنيّ فهو قيمة تستوجبها طبيعة المجتمع وتركيبته الرقشاء؛ إذ على الدولة العمل لدمج أفراده في هويّة مدنيّة جامعة، وهو ما يلزم تحييد الدين من الفضاء العموميّ.

إذن، فمفهوم الحياد ليس هو ذاته في كلا النمطين من العلمانيّة؛ فبالنسبة إلى النمط الليبراليّ التعدّديّ للعلمانيّة فإنّ الحياد يتعلّق بالمؤسّسات لا بالأفراد؛ بمعنى أنّ الدولة هي مَنْ يجب عليها أن تكون محايدة، في حين يرى النمط الجمهوريّ "المتشدّد" أنّ على الأفراد أيضًا واجب التحفّظ والحياد تجاه الدين، بالامتناع عن الجهر بعقيدتهم بمجرّد دخولهم المجال العموميّ.

يرى المؤلّفان أنّ الدولة غير مطالبة بعلمنتها محاباة الأشخاص ذوي "الصبوات الغالية" ومكافأتهم؛ أي أولئك المغالين في مطالب تكيّف المؤسّسات العموميّة مع معتقداتهم وحرّيّة ضمائرهم

 

التكيّف

تقتضي العدالة الاجتماعيّة أن تتكيّف الدولة مع منح الأفراد ممارسة حرّيّة ضمائرهم ومعتقداتهم، غير أنّ تايلور وماكلور ينبّهان على أنّ تكيُّف الدولة غير المشروط مع حرّيّة الاعتقاد والمجاهرة به، قد يمسّ مبدأ الإنصاف أحيانًا.

للتكيّف دوافع وأشكال مختلفة، بالتالي المطالبة بالتكيّف لأسباب دينيّة غير تلك الّتي دافعها صحّيّ مثلًا؛ فالمعوّقون أو المرضى الّذين يطالبون المؤسّسات بالتكيّف مع ظرفهم، مثل السماح لهم بارتداء ملابس معيّنة، غير المتديّنين الّذين يطالبون المؤسّسة بالتكيّف معهم للمجاهرة باعتقادهم في ارتداء غطاء الرأس مثلًا، والفارق في أنّ المعوّق لم يختر وضعه، في حين اختار المتديّن ذلك، وهذا ما لا يُجَوِّز الخلط بينهما على حدّ تعبير تايلور وماكلور.

بناءً على ذلك؛ يرى المؤلّفان أنّ الدولة غير مطالبة بعلمنتها محاباة الأشخاص ذوي "الصبوات الغالية" ومكافأتهم؛ أي أولئك المغالين في مطالب تكيّف المؤسّسات العموميّة مع معتقداتهم وحرّيّة ضمائرهم. فإذا كان تصوّر شخص ما للسعادة الإنسانيّة يقتضي ألّا يشتغل سوى نصف السنة، وأن يقضي النصف الثاني في السفر؛ فعليه أن يظفر بمهنة أكثر مردوديّة يستطيع من خلالها تحقيق ما يصبو إليه، وإذا ما عجز عن إيجاد مثل هذه المهنة فعليه حينئذٍ أن يُعيد النظر في مخطّطاته على ضوء الموارد المتوفّرة لديه، وليس من حقّه أن ينتظر من شركائه في الوطن أن يزيدوا من مساهماتهم في الخزينة العامّة للدولة حتّى تخصّص له موارد إضافيّة فيحقّق صبواته.

التقليد العلمانيّ الليبراليّ التعدّديّ - يقول تايلور وماكلور - لم يتصوّر حقوقًا وحرّيّات فرديّة مطلقة؛ إذ يحقّ فيه للمحكمة فرض قيود على ممارسة حقّ من الحقوق لأجل حماية حقوق الآخرين

 

معقوليّة القيود

إنّ الاستناد إلى سلطة الموظّف أو العامل على نفسه في ما يمليه عليه ضميره، لا يلغي إمكانيّة وضع حدود لطلبات التكيّف؛ فتايلور وماكلور يجدان أحقّيّة للسلطات القضائيّة في أن تنظر بجدّيّة إلى المعتقد، وفي الأثر المحتمل للتكيّف المطلوب في حقوق الآخرين، وعلى قدرة المؤسّسة المعنيّة على إنجاز أهدافها؛ من هنا فإنّ القيود على حرّيّة الاعتقاد والضمير بالنسبة إليهما ممكنة، إذا ما كانت هذه الحرّيّة تعرقل عمل المؤسّسة العموميّة على تحقيق أهدافها، مثل مؤسّسات التعليم أو العلاج مثلًا، أو إذا كانت هذه الحرّيّة تنتهك حقوق الآخرين وحرّيّاتهم.

حتّى التقليد العلمانيّ الليبراليّ التعدّديّ - يقول تايلور وماكلور - لم يتصوّر حقوقًا وحرّيّات فرديّة مطلقة؛ إذ يحقّ فيه للمحكمة فرض قيود على ممارسة حقّ من الحقوق لأجل حماية حقوق الآخرين، أو لأجل تمكين السلطة العموميّة من سنّ تشريعات وفق المصلحة العامّة.

في ذلك يضربان مثلًا في قضيّة الوالدَين المنتميَين لطائفة شهود يهوة في كندا، اللّذَين رفضا خضوع ابنهما إلى عمليّة نقل الدم، فلمّا كانت العمليّة ضروريّة حتّى يظلّ الطفل على قيد الحياة، تجاهلت إدارة المستشفى طلب الوالدَين، وعندما عُرضت القضيّة أمام القضاء قضت المحكمة العليا في كندا أنّ قرار إدارة المستشفى قانونيّ، رغم أنّه انتهك بصفة صريحة حقّ الوالدَين في الحرّيّة الدينيّة.

القيد على حرّيّة الضمير ممكن، لطالما الغرض من ذلك حماية حرّيّة الضمير ذاتها، بينما لا يمكن الدولة أن تحدّ من حقّ بعض مواطنيها في حرّيّة التعبير، بحجّة أنّ بعض أفكارهم أو انتقاداتهم يدنّس ما يعتبره البعض الآخر مقدّسًا

 

أخيرًا، يخلص المؤلّفان إلى أنّ القيد على حرّيّة الضمير ممكن، لطالما الغرض من ذلك حماية حرّيّة الضمير ذاتها، بينما لا يمكن الدولة أن تحدّ من حقّ بعض مواطنيها في حرّيّة التعبير، بحجّة أنّ بعض أفكارهم أو انتقاداتهم يدنّس ما يعتبره البعض الآخر مقدّسًا. إنّ الدولة ذات المجتمع الأرقش لا يمكنها أن تعتنق الأنطولوجيا العامّة، الّتي تفرض فهمًا للعالم يرتكز على ثنائيّة المقدّس والمدنّس، كما أنّ ثمن العيش في مجتمع يحمي ممارسة حرّيّة الضمير والتعبير هو القبول بالتعايش مع معتقدات وشعائر، حتّى لو كنّا نعتبرها زائفة وسخيفة.

 

 

علي حبيب الله

 

 

باحث في العلوم الاجتماعيّة. حاصل على ماجستير فلسفة التاريخ من الجامعة الأردنيّة، وماجستير في الدراسات العربيّة المعاصرة من جامعة بير زيت. يعمل في مجال الاستكمال التربويّ في القدس، ويكتب المقالة في عدد من المنابر الفلسطينيّة والعربيّة.

 

 

 

التعليقات