حفتر ولعبة التوازنات: بين العقوبات الأميركيّة والدعم الروسيّ

رغم الضغوط الأميركيّة حتّى على حلفائها في مصر والإمارات والسودان للتخلّي عن التعاون مع فاغنر في ليبيا، إلّا أنّ حفتر لم يتخلّ عن الدعم الروسيّ، ويطلب مقابل ذلك ثمنًا، ليس أقلّه الاعتراف بشرعيّته وتزويده بأسلحة ثقيلة ومتطوّرة مثل الطائرات القتاليّة

حفتر ولعبة التوازنات: بين العقوبات الأميركيّة والدعم الروسيّ

خليفة حفتر (Getty)

زيارة قائد قوّات الشرق الليبيّ خليفة حفتر، لروسيا بعد أقلّ من أسبوع من استقباله قائد القيادة العسكريّة الأميركيّة في إفريقيا "أفريكوم" مايكل لانجلي، في مدينة بنغازي، يعكس حجم الضغوط الممارسة على الرجل من أكبر قوّتين عسكريّتين في العالم لاستقطابه في صراعهما على النفوذ والهيمنة في القارّة السمراء.

ففي 26 سبتمبر/أيلول وصل حفتر إلى موسكو، وكان في استقباله نائب وزير الدفاع الروسيّ يونس بيك يوفكيورف، وأجريت له مراسم استقبال "رسميّة" عزف خلالها النشيد الوطنيّ للدولتين ترحيبًا بالزيارة.

وتمكّن حفتر من لقاء كبار الشخصيّات السياسة والعسكريّة، وعلى رأسهم الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين، ووزير دفاعه سيرغي شويغو، ما يعكس الأهمّيّة الّتي توليها موسكو لتعزيز نفوذها في ليبيا.

وقبلها، في 21 سبتمبر، استقبل حفتر بمكتبه في منطقة الرجمة ببنغازي (شرق) قائد أفريكوم، الّذي التقى أيضًا عددًا من قادة قوّات الشرق الليبيّ.

والملفت أنّ هذه الزيارة سبقتها زيارة نائب وزير الدفاع الروسيّ ذاته إلى بنغازي في 22 أغسطس/آب، قبل يوم من مقتل زعيم مجموعة فاغنر العسكريّة يفغيني بريغوجين.

ولا يمكن أن ننسى الزيارة النادرة لمدير وكالة المخابرات المركزيّة الأميركيّة وليامز بيرنز، إلى ليبيا منتصف يناير/كانون الثاني الماضي، ولقائه السريع بحفتر.

وهذه اللقاءات المكثّفة للمسؤولين الروس والأميركيّين مع حفتر، الّتي لم يرشّح منها الكثير، تعكس رغبة كلّ طرف كسب قائد قوّات الشرق الليبيّ إلى صفّه، في ظلّ حرب بالوكالة مشتعلة بينهما في أوكرانيا، وتمدّد الروس في الساحل الإفريقيّ مقابل تراجع النفوذ الغربيّ بالمنطقة.

وتسعى واشنطن بأكثر إصرار من ذي قبل على تجفيف التواجد العسكريّ لفاغنر في إفريقيا، وبالأخصّ في ليبيا، الّتي تعدّ مربط الفرس بين قواعد موسكو في سوريّة ومناطق انتشار فاغنر وحلفائها في كلّ من السودان وجمهوريّة أفريقيا الوسطى وماليّ، مع رغبتها في التمدّد في بوركينا فاسو والنيجر، لمحاصرة قلعة النفوذ الفرنسيّ في تشاد.

بين العقوبات الأميركيّة والدعم الروسيّ

ليس سرًّا أنّ واشنطن مارست ضغوطًا على حفتر، الّذي يحمل جنسيّتها، لطرد عناصر فاغنر من مناطق سيطرته في شرق وجنوب ليبيا، ولكن أخطر من ذلك ما نقله موقع "orientxxi" عن وكالة "أسوشييتد برس" الأميركيّة عن مصادر مقرّبة من حفتر، أنّ "بيرنز، طلب منه وضع حدّ لنشاط فاغنر على الأراضي الليبيّة، وحذّره من العقوبات. ممّا قد يؤثّر عليه وعلى ضبّاطه".

ونقل نفس المصدر عن مسؤول ليبيّ، لم يسمّه، أنّ "مسؤولين أميركيّين طالبوا بانسحاب المرتزقة من منشآت النفط الليبيّة".

ويتابع حفتر، بالمحاكم الأميركيّة في قضايا جنائيّة تتعلّق بـ"جرائم حرب" رفعتها ضدّه عائلات ليبيّة مقيمة في الولايات المتّحدة، لكنّ الإدارة الأميركيّة لم تمنحه حصانة "رئيس جمهوريّة" الّتي طلبها، وبالمقابل لم تتابعه في أيّ قضايا متعلّقة بجرائم حرب أو جرائم ضدّ الإنسانيّة، كما تطالب بذلك هيئات وعائلات ليبيّة.

ورغم الضغوط الأميركيّة حتّى على حلفائها في مصر والإمارات والسودان للتخلّي عن التعاون مع فاغنر في ليبيا، إلّا أنّ حفتر لم يتخلّ عن الدعم الروسيّ، ويطلب مقابل ذلك ثمنًا، ليس أقلّه الاعتراف بشرعيّته وتزويده بأسلحة ثقيلة ومتطوّرة مثل الطائرات القتاليّة والمسيرات وأنظمة الدفاع الجوّيّ.

واشنطن ترفض دفع هذا الثمن، لكنّ روسيا سبق لها وأن زوّدت حفتر بأسلحة ثقيلة، وما زالت مستعدّة لتقديم مزيد من الأسلحة والتدريب لجنوده، وصيانة المعدّات العسكريّة مقابل تثبيت تواجدها العسكريّ من الجبهة الجنوبيّة لحلف شمال الأطلسيّ (ناتو).

وهذا ما يصعب على حفتر الاختيار بين العقوبات الأميركيّة، وبين الدعم العسكريّ والدبلوماسيّ الروسيّ.

ناهيك أنّ حفتر، قد لا يستطيع طرد عناصر فاغنر من ليبيا، لأنّه قد يضطرّ لخوض معركة ضدّهم، رغم أنّ أعدادهم تقلّصت لأقلّ من ألف عنصر، بسبب الحرب في أوكرانيا، بعدما وصل عددهم لأكثر من ألفي عنصر، بحسب بعض التقديرات.

لكنّ قوّة فاغنر في ليبيا ليست بعدد أفرادها، وإنّما بوقوف روسيا خلفها، وقدرتها على تجنيد أعداد من المرتزقة الأفارقة الّذين يجوبون الصحراء الكبرى بحثًا عن المال، بالإضافة إلى مرتزقة جندتهم في سوريّة، بل وحتّى تنظيم انقلابات وتمرّدات على حفتر ذاته أو دعم خصومه في المنطقة الغربيّة.

قواعد عسكريّة

بعد تمرّد فاغنر ثمّ مقتل زعيمها، تسعى موسكو لوضع يدها على المجموعة العسكريّة ونشاطاتها في الخارج، وإعادة هيكلتها، وتنظيم انتشارها في أفريقيا، وعلى رأسها ليبيا.

وتحاول روسيا الخروج من التطويق الاستراتيجيّ الّذي تسعى واشنطن وحلفاؤها فرضها عليها، من خلال تعزيز تمركزها في ليبيا.

وتتيح ليبيا ميزتين على الأقلّ لروسيا، فموانئها لا تبعد سوى نحو ساعة طيران عن السواحل الأوروبّيّة، وقواعدها الجوّيّة في الجنوب قريبة جدًّا من السودان ودول الساحل الأفريقيّ.

ورغم انتشار عناصر فاغنر في عدّة قواعد جوّيّة ليبيّة في الشرق والجنوب مثل الجفرة (وسط) والخروبة (شرق) وبراك الشاطئ وتمنهنت (جنوب)، إلّا أنّها لم تتمكّن بعد أن يكون لها قاعدة بحرّيّة مستقلّة في سرت ولا قاعدة جوّيّة في الجفرة (شرق طرابلس)، مثلما هو الحال بالنسبة لقاعدتي حميميم الجوّيّة وطرطوس البحريّة في سوريّة، بسبب الضغوط الأميركيّة على حفتر.

لذلك يتوقّع مراقبون، أن تسعى موسكو لافتكاك أكثر من قاعدة عسكريّة في ليبيا، وربطها بخطّ إمدادها الجوّيّ من روسيا إلى سوريّة، مرورًا بليبيا ومنها إلى حلفائها في السودان ودول الساحل الأفريقيّ وصولًا إلى جمهوريّة أفريقيا الوسطى.

وأشارت صحيفة "وول ستريت جورنال الأميركيّة"، في مقال لها نشر في 15 سبتمبر، إلى أنّ الروس يريدون حقوق رسوّ لسفنهم في موانئ شرق ليبيا طويلة الأمد، وبالأخصّ ميناءي طبرق وبنغازي.

بينما تسعى واشنطن عبر "أفريكوم" إلى منع ربط روسيا نقاط نفوذها في إفريقيا بعضها ببعض، وهذا ما يفسّر موقفها الحذر من الانقلابين في النيجر والغابون، حتّى لا يضطرّ الحكّام الجدد إلى الارتماء في أحضان موسكو مثلما حدث في مالي وبوركينا فاسو.

لكنّ ما يريده حفتر هو السلاح والاعتراف بشرعيّته وشرعيّة الحكومة الموالية له في الشرق والمكلّفة من مجلس النوّاب، وواشنطن ما زالت ترفض تزويده بالسلاح وموقفها منه متذبذب.

يقابل ذلك دعم روسيّ صريح لحفتر، حيث زوّدته سابقًا بأسلحة نوعيّة مثل طائرات سوخوي24 الهجوميّة، ومقاتلات ميغ29 متعدّدة المهامّ، بالإضافة إلى مضادّات أرضيّة من نوع بانتسير، ناهيك عن توفير التدريب والصيانة.

والضغط على حفتر لا يأتي فقط من واشنطن، بل إنّ مصر، الداعمة لرئيس مجلس السيادة السودانيّ عبد الفتّاح البرهان، لا تنظر بعين الرضا لاستخدام فاغنر الأراضي الليبيّة لتزويد قوّات الدعم السريع السودانيّة بقيادة محمّد حمدان دقلو (حميدتي) بالأسلحة.

والصراع الخفيّ بين مصر وروسيا في السودان سيدفع ثمنه حفتر، فكلا البلدين حليفان مهمّان له، وتضارب مصالحهما سيدفعهما للضغط عليه في اتّجاهين متضادّين.

لكنّ حفتر يجيد لعبة التوازنات، فهو لا يريد إغضاب واشنطن ولا إزعاج موسكو ولا استفزاز القاهرة.

فمنذ 2014 حافظ حفتر على دعم الروس والمصريّين وحتّى الفرنسيّين، دون أن يتعرّض لعقوبات أميركيّة، إلّا أنّ الوضع تغيّر بعد الحرب الأوكرانيّة، واشتداد الصراع بين أكبر قوّتين عسكريّتين، ما سيضطرّه للاختيار بينهما.

التعليقات