"من جيش الشعب إلى جيش الأطراف"../ عرض: محمود محارب

-

يستحوذ الأمن على عقلية المجتمعات الاستيطانية التي تؤسس وجودها على حساب الغير، وينطبق ذلك جلياً على الحالة الإسرائيلية التي اعتبر مؤسسوها أن مشكلة الأمن الجماعي والفردي أكثر أهمية وخطورة من أي مشكلة أخرى.

لذلك عمل قادة إسرائيل منذ البداية على بناء "أمة تحمل السلاح" وفرضوا الخدمة العسكرية في الجيش الإسرائيلي على جميع المواطنين اليهود ذكوراً وإناثا، ليشكلوا "جيش الشعب".

وفي الآونة الأخيرة تطرح في إسرائيل أسئلة حول ما إذا كان الجيش الإسرائيلي بقي فعلاً "جيش الشعب" أم أن هناك تغييرات حقيقية حدثت وتحدث فيه تؤثر على تركيبته الاجتماعية ومكانته ودوره في المجتمع والدولة.

ويعالج هذا الموضوع بتعمق كتاب "من جيش الشعب إلى جيش الأطراف" الذي صدر باللغة العبرية، وجاء في مقدمة وثمانية فصول وخلاصة.

مؤلف الكتاب هو الدكتور يغيل ليفي ضابط الاحتياط والباحث المختص في دراسة الجيش الإسرائيلي وعلاقاته بالمجتمع والسياسة.

الأطروحة الأساسية في الكتاب هي أن المبدأ الذي ينظم علاقات الجيش مع محيطه الاجتماعي هو المكافآت الرمزية والمادية التي يحصل عليها الذين يستمرون في الخدمة في الجيش بعد انقضاء خدمتهم الإلزامية، والتي تمر من خلالهم إلى المجموعات الاجتماعية التي جاء منها هؤلاء الذين يستمرون في الخدمة في الجيش.

ويقول المؤلف إن التوازن الداخلي بين المكافآت المختلفة التي يحصل عليها الذين يخدمون في الجيش وبين الأعباء العسكرية التي يتحملونها هم ومجموعاتهم الاجتماعية التي جاؤوا منها، هو الذي يحدد ويصوغ عمل ودور الجيش الإسرائيلي.

وعندما يختل هذا التوازن، أي عندما يعتبر الذين يخدمون في الجيش أن أعباء الخدمة في الجيش أعلى من المكافآت الرمزية والمادية، فإن الدولة تضطر إما إلى خفض أعباء القتال وزيادة المكافآت وخاصة المادية أو إعادة توزيع أعباء الخدمة في الجيش بين المجموعات المختلفة التي يتشكل منها الجيش الإسرائيلي.

يؤكد المؤلف أنه منذ إقامة إسرائيل وحتى سنوات ثمانينيات القرن الماضي، ظل هذا التوازن بين المكافآت والأعباء قائماً، حيث شكل الإسرائيليون الأشكناز العلمانيون العمود الفقري الاجتماعي للجيش الإسرائيلي وحصلوا على الاحترام الاجتماعي وعلى الشرعية في القيادة والسيطرة وعلى الوظائف والمناصب الهامة في الحياة المدنية، بعد انتهاء خدمتهم في الجيش.

وقد منح التوازن بين المكافآت والأعباء الدولة الحرية في اتباع سياسة عسكرية حربية، ولكن مجموعة من العوامل قادت إلى الإخلال بهذا التوازن في سنوات الثمانينيات من القرن الماضي أبرزها تحول المجتمع الإسرائيلي إلى مجتمع اقتصاد السوق، وتقاطع ذلك مع تآكل مكانة الجيش الإسرائيلي بعد الفشل في حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973 وفي حرب لبنان الأولى سنة 1982 وفي الانتفاضة الفلسطينية الأولى التي تفجرت عام 1982.

فقد مكن اقتصاد السوق الطبقتين المتوسطة والعليا الأشكنازيتين العلمانيتين من تعزيز قيادتهما وسيطرتهما في المجتمع والدولة، بدون الحاجة إلى التضحية والخدمة في الجيش لنيل الشرعية منه للقيادة وبسط النفوذ.

وحمل التآكل في مكانة الجيش بين ثناياه الانتقاص من قيمة المكافآت الرمزية للخدمة في الجيش، في الوقت الذي ازدادت فيه أعباء الخدمة وتناقصت فيه ثمار الحرب.

وقاد ذلك إلى إضعاف استعداد الطبقتين الأشكنازيتين العلمانيتين الاستمرار في إمداد الجيش بالقوى البشرية والمالية، وإلى ازدياد الشروط التي وضعتها هاتان الطبقتان مقابل استعدادهما للتضحية وتحمل الأعباء العسكرية.

ويؤكد المؤلف أن الإخلال بالتوازن بين المكافآت والأعباء قاد إلى التخفيف من السياسة الحربية للجيش وإلى اضطرار الدولة إلى تخفيف الأعباء والتضحيات. ووصلت هذه العملية إلى ذروتها إبان اتفاقيات أوسلو التي يعالجها المؤلف بالتفصيل في الفصل الثاني من الكتاب.

في سنوات التسعينيات أعادت الدولة بناء التوازن مجدداً بين المكافآت والأعباء العسكرية بواسطة تغيير التركيبة الاجتماعية للجيش، وتأسيسه تدريجياً على مجموعات الأطراف التي تشمل اليهود المتدينين والمستوطنين والشرقيين والروس والشرائح الدنيا في المجتمع الإسرائيلي.

وتغذت حوافز مجموعات الأطراف للخدمة في الجيش من المكافآت الرمزية والمادية التي تحصل عليها من خدمتها هذه.

وقد احتل المتدينون والمستوطنون في هذه المرحلة الدور الذي كان يلعبه أبناء الكيبوتسات في الماضي حين كانت نسبتهم في الجيش تزيد على ثلاثة أضعاف مثيلتها في المجتمع، وكانوا يشغلون المراتب الهامة والعليا في الجيش.

قاد "التوازن الجديد" بين المكافآت والأعباء العسكرية والتركيبية الاجتماعية الجديدة للجيش -كما يؤكد المؤلف- إلى منح قيادة الجيش الحرية في اتباع سياسة عسكرية حربية ضد انتفاضة الأقصى التي اندلعت في أكتوبر/تشرين الأول 2000.

وبسبب هذا "التوازن الجديد" والتركيبة الاجتماعية الجديدة للجيش، لم تخرج من صفوف الجيش احتجاجات تذكر، بخلاف ما كان يحدث في الحروب السابقة، بل ازدادت كثيرا التصرفات العدوانية من قبل جنود الأطراف تجاه الفلسطينيين في المناطق المحتلة.

ويرى المؤلف أن الجيش الإسرائيلي تعرض في ضوء استمرار الانتفاضة الثانية إلى ضغوط متناقضة، إذ منح تغيير تركيبة الجيش الاجتماعية قيادة الجيش والدولة حرية واسعة في تصعيد القتال ضد الفلسطينيين من ناحية، الأمر الذي حظي بتأييد واسع في المجتمع الإسرائيلي، ولكنه من ناحية أخرى قاد استمرار القتال ضد الفلسطينيين وارتفاع ثمن ذلك اقتصادياً إلى وضع الجيش في حالة من التوتر والتعارض مع الشرائح العليا للطبقة الوسطى التي تتبنى اقتصاد السوق الحر وتسعى إلى تقليص موارد الجيش المادية والبشرية.

ويقول المؤلف إن هذا التوتر والتعارض الذي يشرحه في الفصل الخامس من الكتاب، قاد إلى تقليص حرية الجيش في العمل العسكري.

وعلى هذه الخلفية بلور الجيش نموذجاً جديداً للسيطرة على المناطق الفلسطينية المحتلة، على صيغة فك الارتباط التي يحافظ الجيش الإسرائيلي من خلالها على التوازن بين خفض ثمن الحرب من ناحية، وعلى مركزية الجيش ودوره وقدرته على منح المكافآت لجنوده من ناحية أخرى.

مثلت حرب لبنان الثانية -وفق المؤلف- أكثر من أي حرب مضت، الفجوة العميقة والآخذة في الاتساع بين الشرعية السياسية المرتفعة لاستعمال القوة وشن الحرب من ناحية، وبين الشرعية المنخفضة للتضحية في الأرواح من ناحية أخرى.

ففي حين كان هناك توافق حتى الثمانينيات من القرن الماضي بين الشرعيتين، تلاشى هذا التوافق تدريجياً في العقد الأخير وحلت محله فجوة عميقة تزداد اتساعاً بين الشرعيتين.

ويذكر المؤلف مجموعة من العوامل التي ساهمت في إحداث هذه الفجوة، وأهمها تحول المجتمع الإسرائيلي إلى اقتصاد السوق، وانخفاض قيمة المكافآت الرمزية للخدمة في الجيش في نظر الشرائح القوية وانخفاض الخطر الخارجي.

وقد تمثل انخفاض الاستعداد للتضحية في الحساسية المفرطة تجاه سقوط القتلى، وفي ازدياد التهرب من الخدمة العسكرية الإلزامية، وفي أزمة التطوع للخدمة في الجيش، وفي الضغوط المتواصلة لتقليص ميزانية الجيش، وازدياد إدراك التناقض بين النمو الاقتصادي ونيل ثقة أسواق العالم من ناحية، والتوتر الأمني المستمر من ناحية أخرى.

ومن المفارقات أن الفجوة بين "الشرعيتين" عزز -وفق المؤلف- الميل نحو التسرع في اتخاذ قرار استعمال القوة وشن الحرب في حالات الأزمات، اعتقاداً من متخذي القرار أن بمقدور الحرب التكنولوجية وسلاح الجو جسر الفجوة بين "الشرعيتين".

فالتسرع في اتخاذ القرار يأتي من أجل تجنب الدخول في عملية اتخاذ القرار الطويلة التي قد تقود، بعد دراسة جميع الاحتمالات والبدائل وبعد انخفاض هيجان الشارع، إلى تأجيل أو عدم شن الحرب إطلاقا.

كذلك يشير المؤلف إلى أن الفجوة بين "الشرعيتين" تضع قيوداً وشروطاً على استعمال القوة مما قد يؤدي إلى الفشل. وهذا ما حدث فعلاً في حرب لبنان الثانية حين وضعت الفجوة بين "الشرعيتين" قيوداً على استعمال القوات البرية تفادياً للخسائر في الأرواح.

ويذكر المؤلف أن عوامل هامة أثرت في عدم جاهزية الجيش الإسرائيلي للحرب، إذ أنه علاوة على تقليص موارد الجيش المالية بضغط من جماعات اقتصاد السوق، انشغل الجيش وخاصة قواته البرية في "مهام حفظ الأمن" في المناطق الفلسطينية المحتلة منذ انتفاضة الأقصى عام 2000.

وقد أدى ذلك إلى إضعاف قدرات الجيش الإسرائيلي القتالية أمام قوات حزب الله المدربة والمعدة جيداً للقتال والتي تمتلك أسلحة حديثة ولديها روح قتالية مرتفعة.

ويضيف المؤلف أنه بدل أن يهتم قادة الوحدات في "جيش السوق" بتدريب وإعداد وحداتهم للحرب، انشغل هؤلاء القادة في إدارة وحداتهم اقتصادياً وفي المساومات مع أهالي الجنود والحاخامات وفي التسويق الإعلامي لوحداتهم.

ويستخلص المؤلف أنه كان على قادة الدولة إدراك قيود استعمال القوة الناجمة عن الفجوة بين "الشرعيتين". فلو أنهم أدركوا ذلك لامتنعوا عن شن الحرب أو على الأقل لأنهوها خلال زمن قصير دون استعمال القوات البرية، ولوضعوا أهدافا للحرب تتلاءم مع هذه القيود.

فمشاركة قوات برية كثيرة في القتال ودمج قطاع واسع من السكان المدنيين الإسرائيليين في الحرب واستدعاء قوات الاحتياط والثمن الاقتصادي للحرب، يتناقض مع منطق دولة اقتصاد السوق.

ويعتقد المؤلف أن الفشل في حرب لبنان الثانية ساهم في ازدياد الانقسام السياسي في إسرائيل، إذ استخلص قسم من الإسرائيليين أنه يجب تقوية الجيش الإسرائيلي من أجل حل المشاكل السياسية التي تواجه إسرائيل بالوسائل العسكرية وباستعمال المزيد من القوة وعدم التقيد بقوانين الحرب.

بينما استخلص القسم الآخر أن هناك قيودا تحد من استعمال القوة، وأنه يجب إيجاد حل سياسي والتحلي بالمرونة السياسية.

ويؤكد المؤلف في الفصل الأخير من الكتاب الذي جاء تحت عنوان "الطريق إلى جيش محترف" أن الجيش الإسرائيلي يعاني من مشاكل كثيرة أدت إلى تآكل مكانته في المجتمع الإسرائيلي.

ويعتقد أن مجموعة كبيرة من العوامل تضغط باتجاه تحويل الجيش الإسرائيلي القائم على الخدمة الإلزامية لجميع المواطنين اليهود لفترة محددة وعلى جيش الاحتياط، إلى جيش مهني محترف قائم على المتطوعين.

فالتغييرات التكنولوجية والجيوسياسية والثقافية السياسية واختلال التوازن بين المكافآت والأعباء، تفعل فعلها للسير باتجاه الجيش المحترف.

وإذا ما تحقق ذلك فإنه سيحدث تغييرا في مكانة الجيش وتوجهاته السياسية وفي علاقاته مع غلافه الاجتماعي، وقد يتمخض عن هذا التغيير -كما يشير المؤلف- جيش لا تتناسب مركباته مع التركيبة الاجتماعية والإثنية الإسرائيلية, تتقلص فيه الطبقة الوسطى وتحل مكانها مجموعات الأطراف التي تتسم بالمحافظة والتطرف وتستسهل استعمال القوة العسكرية لحل مشاكل إسرائيل السياسية مع محيطها العربي.

mahmoud_muhareb@hotmail.com

التعليقات