"تقرير خاص": تعهدات بوش لم تحسم "فك الارتباط"

لعل اكثر معطى برز في استطلاعات الرأي التي نشرتها صحيفتا "يديعوت أحرونوت" و"معاريف" في نهاية الاسبوع، الذي يصعد مخاوف رئيس الحكومة الاسرائيلي اريئيل شارون، هو ان 63% من منتسبي "الليكود" لم يتأثروا بتصريحات الرئيس الامريكي جورج بوش حيال كيفية تصويتهم في الاستفتاء حول خطة "فك الارتباط" في الثاني من ايار المقبل، علما ان هذه النتيجة جاءت بعد اقل من يوم واحد على لقاء بوش وشارون في البيت الابيض، الذي وضع خلاله بوش كل ثقله لدعم "فك الارتباط".

كذلك فان نتائج التصويت الاخرى في الاستطلاعات لم تأتي، بالنسبة لشارون، مشجعة بوجه خاص، اضافة الى تباينها. ففي استطلاع "يديعوت أحرونوت" قال 54% من منتسبي "الليكود" انهم يؤيدون الخطة، فيما كانت هذه النتيجة في استطلاع "معاريف" 51.6% بين الذين أكدوا نيتهم بالمشاركة في الاستفتاء و49.4% بين المنتسبين عامة. وفي المقابل قال 38% من مستطلعي "يديعوت أحرونوت"، الذين اكدوا نيتهم المشاركة في الاستفتاء، انهم يعارضون الخطة وسيصوتون ضدها. اما الذين لم يقرروا بعد فيما اذا كانوا سيشاركوا في الاستفتاء ام لا فقال 32% منهم انهم يعارضون الخطة و14% لم يحسموا موقفهم من الخطة حتى الان. ويعارض الخطة بحسب استطلاع "معاريف" 40.3% من الذين اكدوا انهم سيشاركون في الاستفتاء و38.4% من كافة المستطلعين.

وبالرغم من ان نتائج استطلاعي الرأي اظهرت وجود اغلبية داخل "الليكود" مؤيدة لخطة شارون لـ"فك الارتباط" لكن القضية لم تحسم بعد. وهناك عدة عوامل قد تؤثر على نتيجة الاستفتاء لتكون مغايرة عما جاء في الاستطلاعين. فقد جاءا، أولا، قبل بدء الحملة التي سيشنها المستوطنون في الاراضي الفلسطينية المحتلة بين منتسبي "الليكود" ضد الخطة، خصوصا بين اولئك الذين لم يحسموا موقفهم بعد من الخطة. ويتوجب الاخذ بعين الاعتبار في هذا السياق ان المستوطنين واليمين المتطرف يملكون مساحة من النفوذ داخل "الليكود". ثانيا، وهو الامر الذي اشار اليه المعقب على نتائج استطلاع "معاريف"، الصحفي اوري روزين، ان تتغير الصورة الناتجة عن الاستطلاع اذا ما حصل اي تطور غير مرتقب، مثل اعلان وزير المالية الاسرائيلي، بنيامين نتنياهو، عن معارضته للخطة، أو وقوع عملية تفجيرية ينفذها فلسطينيون قبل يوم الاستفتاء او في يوم الاستفتاء ذاته. وثالثا، اعلان عضو الكنيست السابق، بنيامين بيغن، نجل رئيس حكومة اسرائيل الاسبق مناحيم بيغن، بانه يعارض الخطة. وجدير بالذكر هنا، ان بيغن يتمتع بسمعة حسنة بين اعضاء "الليكود" كما انه بعد اعتزاله المعترك السياسي، قبل نحو خمس سنوات، لم يظهر على الحلبة السياسية الاسرائيلية سوى في القضايا البالغة الاهمية أو "المصيرية" بالنسبة لليمين في اسرائيل.
بحسب المنطق الاسرائيلي فان فترة الانتخابات في الولايات المتحدة هي فرصة ذهبية لابتزاز دعم سياسي ومساعدات مالية لاسرائيل. ويكتسب ذلك اهمية أكبر عندما يكون الرئيس المرشح لولاية رئاسية ثانية متورطا في مصائب، كما هو حال الرئيس بوش. فالرئيس الامريكي الحالي يواجه ادنى مستوى وصل اليه خلال سنوات رئاسته الماضية. فقبل يوم واحد من استقباله لشارون، وقف بوش في مؤتمر صحفي لم يتمكن خلاله من الاجابة على اسئلة احد الصحفيين وراح يتحدث عن اصراره على انجاز اهدافه في العراق في الوقت الذي تشتعل في الارض تحت ارجل قواته. كما تسود اجواء في الولايات المتحدة تشبه وضع القوات الامريكية في العراق بوضعها في فيتنام. كذلك الاستياء في الشارع الامريكي من ان الاسباب التي ادت الى شن الحرب العدوانية على العراق تبين ان لا اساس لها. هذا، بالاضافة الى الاخفاقات الصارخة في منع وقوع هجمات 11 ايلول وملاحقة لجنة تحقيق رسمية تابعة للكونغرس لادارة بوش في هذه الهجمات.

في هذا الوضع الذي يواجهه بوش ظهر شارون. ولكن رئيس حكومة اسرائيل يواجه هو الاخر، هذه المرة، مشاكل سياسية وقضائية. والشعار الذي رفعه شارون هو الحصول على مساعدة بوش من جهة ومنح الرئيس الامريكي انجازا من خلال الاعلان عن اخلاء مستوطنات، من الجهة الاخرى. وقد أمل شارون بخطوته هذه، ايضا، ان يساعد بوش في حملته الانتخابية، ولذلك رفض لقاء مرشح الحزب الدمقراطي للرئاسة جون كيري.

الخطوة الاولى في الطريق الى واشنطن للحصول على "رسالة بوش" بدأت في تشرين الثاني الماضي عندما كان شارون في زيارة الى ايطاليا وهناك التقى بمدير قسم الشرق الاوسط في مجلس الامن القومي الامريكي، إليوت ابرامس، وقال له انه ينوي القيام بخطوة احادية الجانب ستشمل اخلاء بعض المستوطنات.

ومنذ ذلك الوقت بدأت المحادثات بين حكومة شارون وادارة بوش، زار خلالها المبعوثون الامريكيون اسرائيل ثلاث مرات وتوجه فايسغلاس الى الولايات المتحدة عدة مرات على رأس وفد اسرائيلي.

واعرب المسؤولون في الادارة الامريكية عن تأييدهم لخطة "فك الارتباط" اكثر من مرة، واعربوا عن رغبتهم بان تكون هذه الخطة جزءا من خطة "خارطة الطريق". وقد طالبت الادارة الامريكية ان يتم الانسحاب من الضفة الغربية وليس من قطاع غزة فحسب. وخلال المباحثات مع الادارة الامريكية وضع شارون مطالب تتلخص بالتزام الادارة الامريكية باحباط اي مبادرة سياسية (باستثناء "خارطة الطريق") ودعم واشنطن لشن الجيش الاسرائيلي حملات عسكرية ضد الفلسطينيين بحجة "مكافحة الارهاب" ودعم اسرائيل في بناء جدار الفصل العنصري وتعهد الولايات المتحدة بابقاء السيطر الاسرائيلية على "الكتل الاستيطانية" في الضفة واعلان الادارة الامريكية عن رفضها لحق العودة للاجئين الفلسطينيين.

وفي سياق هذه المطالب، كتب المراسل السياسي لصحيفة "هآرتس" ألوف بِن، ان شارون مهتم بقضية الارض اكثر من اهتمامه بقضية عودة اللاجئين. "شارون لا يخشى من اغراق اسرائيل باللاجئين بالقدر الذي يخشى من ممارسة ضغوط دولية تؤدي الى الانسحاب لحدود 1967". اضافة الى ذلك واجه شارون معارضة داخل حكومته لخطة "فك الارتباط". وكان المعارضون البارزون بالنسبة له هم الوزراء: بنيامين نتنياهو، سيلفان شالوم (وزير الخارجية) ليمور ليفنات وتسيبي ليفني. وقد استخدم شارون مطالبهم وتحفظاتهم في بلورة مطالبه من الادارة الامريكية. وأوضح فايسغلاس في احد لقاءاته مع رايس بان شارون يواجه مصاعب داخل حكومته للحصول على اغلبية مؤيدة لخطته وانه بحاجة الى مساعدة الادارة الامريكية. وهكذا تبلورت فكرة طلب تعهدات خطية، على شكل رسالة، من الرئيس بوش. وقبل اسبوعين خلال لقاءات بين المبعوثين الامريكيين، ستيف هيدلي وليام بيرنس وإليوت ابرامس، تم الاتفاق على "المباديء" التي ستتضمنها "رسالة بوش". بعدها تم ايضا الاتفاق على موعد زيارة شارون الى واشنطن.

جدير بالذكر هنا ان مساعد مسؤول قسم الشرق الاوسط في مجلس الامن القومي الامريكي، إليوت ابرامس، هو روب دانين، حفيد عيزرا دانين، مستشار رئيس حكومة اسرائيل الاول دافيد بن غوريون للشؤون العربية، واحد الشخصيات التي ورد ذكر اسمها في سياق عمليات ترحيل الفلسطينيين في العام 1948 واحد مؤسسي جهاز المخابرات الاسرائيلية. وكتب الصحفي أمير أورن في "هآرتس" انه في احد الاجتماعات التي سبقت زيارة شارون الى واشنطن شارك فيه امريكيان وثلاثة اسرائيليين. الاسرائيليون الثلاثة هم فايسغلاس ومستشارا رئيس الحكومة الاسرائيلي غيورا ايلاند وشالوم ترجمان. والامريكيان هما إليوت ابرامس وروب دانين. وقال احد المجتمعين الخمسة: "خمسة اشخاص يهود يديرون العلاقة بين اسرائيل والولايات المتحدة"..
المعركة على "فك الارتباط" على اشدها في صفوف اليمين الاسرائيلي. وفي هذه الساحة لم يسمع احد صوت "اليسار الاسرائيلي" او حزب "العمل"، الذي يتخبط في هذه الاثناء بخصوص الانضمام الى حكومة شارون. وكان شعار معارضي "فك الارتباط" من "الليكود"، بقيادة الوزير عوزي لانداو، والمستوطنين: "صوت مع فك الارتباط وتحصل على بيرس". وسيطلق هؤلاء شعارا جديدا في مطلع الاسبوع القادم ضمن الحملة لاقناع منتسبي "الليكود" بمعارضة خطة شارون في الاستفتاء، يقول: نحبك يا شارون، نصوت ضد الانسحاب".

وكتبت الصحفية سيما كدمون في "يديعوت أحرونوت"، ان شارون كان قلقا للغاية في الايام الاخيرة. ووصل به الامر انه تشاور مع مساعديه حول تحويل الاستفتاء الى تصويت على منحه الثقة. بمعنى انه في حال لم تحظ خطة "فك الارتباط" بأغلبية منتسبي "الليكود"، هل عليه ان يعلن استقالته. وقد اعتقد شارون انه من خلال ذلك بامكانه ان يمارس ضغطا على المنتسبين. "فقد اعتقد شارون انه اذا كان الخيار بينه وبين غزة، فان المنتسبي لليكود سيختارونه هو". ومن هنا انطلق الشعار الجديد: "صوت ضد ("فك الارتباط")، خسرت شارون". وبعد مشاورات تقرر عدم استخدام هذا الشعار ولكن في حال تبين لشارون ان الكفة ليست في صالحه وانه سيخسر في الاستفتاء فانه سيستخدم هذا الشعار، كورقة اخيرة.

الا ان المشكلة الاساسية في هذا السياق بالنسبة لشارون هي موقف نتنياهو من الخطة. فقد كان نتنياهو يفضل ان يقول رأيه في الخطة بعد ان يصدر المستشار القضائي للحكومة، ميني مزوز، موقفه بخصوص توصية النيابة العامة بتقديم شارون الى القضاء في قضية "الجزيرة اليونانية". غير ان شارون استبق الامور وتمكن من تعيين موعد الاستفتاء قبل ذلك. وعلى الرغم من انه لم يهاجم الخطة الا ان نتنياهو وضع مجموعة من المطالب/الشروط لتأييد الخطة علنا. وبعد لقاء بوش وشارون بقي لدى نتنياهو شرطا واحدا وهو ان يشمل جدار الفصل العنصري "الكتل الاستيطانية" في الضفة الغربية. ورغم ان المقربين من شارون يثيرون الانطباع بان نتنياهو سيؤيد في نهاية المطاف الخطة، الا ان معلومات تسربت الى وسائل الاعلام الاسرائيلية مفادها ان شارون قد يتعهد لنتنياهو ان خطة "فك الارتباط" لن تنفذ، لن يتم اخلاء المستوطنات في القطاع والمستوطنات الاربع في شمال الضفة وبالتالي لن ينسحب الجيش الاسرائيلي من غزة، قبل ان يتم انهاء بناء الجدار حول هذه "الكتل الاستيطانية".

مشكلة اخرى يواجهها شارون تكمن في تهديدات حزبي "المفدال" و"هئيحود هليؤومي" (اكثر الاحزاب اليمينية تطرفا في الكنيست) بالانسحاب من حكومة شارون. ولكن المحللين السياسيين الاسرائيليين يشيرون الى ان رئيس "المفدال" الوزير العنصري افي ايتام ليس الوحيد الذي يقرر في الحزب. وان الهيئة التي ستتخذ قرارا بالانسحاب من الحكومة هي مركز الحزب، وفيه اغلبية للافكار التي يمثلها الوزير زبولون أورليف ومفادها ان الانسحاب من الحكومة يجب ان يتم فقط عندما يبدأ تنفيذ "فك الارتباط"..

ووفق المعلومات المتوفرة فيما يتعلق بموقف "هئيحود هليؤومي"، الذي يتكون من ائتلاف لقوى اليمين، فان جميع ممثليه في الكنيست والحكومة يؤيدون الانسحاب من الحكومة بمجرد اتخاذ قرار بالانسحاب من القطاع واخلاء المستوطنات الاربع في الضفة. لكن ثمة دلائل تشير الى ان رئيس الحزب، الوزير الفاشي افيغدور ليبرمن، لم يتخذ موقفا حاسما من الخطة بعد.
رافقت عودة شارون من واشنطن جوقة اعلامية تنشد النصر الذي حققه من خلال ابتزاز "تعهدات" بوش: لا عودة الى حدود وقف اطلاق النار للعام 1949؛ لا لحق العودة ولا لاخلاء "الكتل الاستيطانية" في الضفة الغربية. ولكن الكثيرين من المحللين السياسيين الاسرائيليين أكدوا على ان حقيقة الامور ليست كما عرضتها جوقة شارون الاعلامية. بل ان لكل واحد من هذه التعهدات هناك نص مناقض في خطاب ورسالة بوش من شأنه ان يجعل "نصر شارون" اقل شأنا، من دون الاستخفاف بما حققه.

وعلى سبيل المثال، فانه عندما تحدث بوش عن ضم "الكتل الاستيطانية" قال ايضا انه "لامر واقعي ان نتوقع ان يستند الاتفاق الدائم (بين اسرائيل والفلسطينيين) الى تغيرات يتم الاتفاق عليها بشكل متبادل"، بمعنى ان الضم يجب ان يحظ بموافقة الطرف الاخر، الفلسطيني، وان يكون الامر متبادلا، اي على اساس "تبادل اراض". وحول تعهد بوش باحباط مبادرات سياسية جديدة، قال بوش ان "الولايات المتحدة ستعمل كل ما باستطاعتها" لاحباطها. ولكن فيما يتعلق بحق العودة للاجئين الفلسطينيين، فان اقوال بوش جاءت واضحة للغاية. رغم ذلك بالامكان القول ان بوش تحدث عن ان التفاق الدائم يجب ان يتفق عليه الطرفان. ولا شك ان حق العودة هي احد اهم قضايا الحل الدائم الذي من الصعب تحقيقه من دون الاتفاق بين الاسرائيليين والفلسطينيين عليه.

من البديهي ان "الاتفاق الدائم" بين اسرائيل والفلسطينيين لن يتم التوقيع عليه في عهد حكومة شارون. وكتب المحلل السياسي عوزي بنزيمان في "هآرتس"، انه "عندما عاد مناحيم بيغن من مؤتمر كامب ديفيد، كان واثقا من ان مقابل تنازله عن كل سيناء سينجح بالابقاء على السيطرة الاسرائيلية في الضفة الغربية وقطاع غزة. وربما بالامكان القول الان، بعد مرور السنين، ان هذا كان خطأه الاكبر: التقاعس عن ضرورة تسوية الصراع الاسرائيلي الفلسطيني من اساسه. وها هو اريئيل شارون قد عاد من واشنطن، فيما هو يعتقد ان مقابل التنازل عن غزة سينجح بالابقاء على السيطرة الاسرائيلية في غالبية الضفة الغربية. كم من الوقت سيمضي حتى يكتشفون ان هذا الامل هو مجرد هذيان"..

التعليقات