يرى رؤوبين بدهتسور (صحيفة "هآرتس"، 28 تموز 2006) أنه إذا كان في الإمكان أن نميّز في "الديمقراطيات كافة وجود تبعية ما من جانب السياسيين للجنرالات ووجود محاولات لتقليلها، ففي إسرائيل لا يقتصر الأمر على التبعية فحسب، ذلك أن السياسيين مأسورون من قبل الجنرالات". ويتابع: عملية بلورة سياسة الأمن القومي خاضعة عمليًا للجيش وجهاز الأمن. وفي ظل انعدام منظمات التخطيط في مجال الأمن القومي خارج الجيش فإن أساس عمليات التخطيط، لا على المستوى الفاعل والتكتيكي فحسب وإنما أيضًا على المستوى الإستراتيجي- السياسي، يدور في أروقة الجيش. والنتيجة هي أن الاعتبارات العسكرية أصبحت مركزية، وأحيانًا حتى أكثر من الاعتبارات السياسية. "وهكذا أضحت منظومة علاقات إسرائيل الخارجية مستندة في الأساس إلى مفهوم القوة، الذي يمنح أولوية للاعتبارات العسكرية على الاعتبارات الدبلوماسية. وهذا الأمر، وحده، يمنح رئيس هيئة الأركان العامة نفوذًا سياسيًا كبيرًا".
الحكومة والكنيست لا يتدخلان عادة في عمل جهاز الأمن، الذي يحظى بأوتونوميا شبه مطلقة في بلورة السياسة بدءًا بمواضيع مثل حجم وتركيبة ميزانية الأمن وانتهاء حتى بتخطيط الحروب.
ويوضح بدهتسور أن هذا الأمر بدأ في أيام دافيد بن غوريون، الذي عارض بناء منظومة ممأسسة من المراقبة المدنية على الجهاز الأمني. كما عارض بن غوريون إنشاء لجنة وزارية لشؤون الأمن. ووافق على إنشائها فقط في العام 1953 ولكنه لم يشركها في عملية إقرار السياسة الأمنية. وفعليًا فإن جهاز الأمن هو الذي بلور سياسة إسرائيل ولم يعرضها دائمًا على الحكومة من أجل المصادقة عليها. وعن ذلك قال رئيس الحكومة الثاني موشيه شاريت: "تحصل أشياء (في مجال الأمن) لا تنمو إلى علمي. أسمع بيانات في صوت إسرائيل وأقرأ بعد ذلك في الصحف دون أن أعرف عن خلفيتها الحقيقية". وقد عنى شاريت تحديدًا "عمليات الانتقام" التي نفذها الجيش الإسرائيلي في الخمسينيات والتي لم يتم البتة إحاطة رئيس الحكومة علمًا ببعضها.
وإسرائيل، خلافا لكل الديمقراطيات الأخرى، تتميز بالغياب المطلق تقريبا للرقابة البرلمانية على جهاز الأمن. لا توجد دولة ديمقراطية أخرى في العالم تعمل فيها المؤسسة العسكريةـ الأمنية بصورة ذاتية كاملة من دون أن تكون هناك محاولة حقيقية، ولو شكلية، لمراقبة ما يحدث فيها.
هذا الشيء يحدث في قضايا الميزانية الأمنية والدفاعية وهيكلية الجيش وتطوير الأجهزة القتالية وشراء المعدات العسكرية والنظرية القتالية ورواتب الجنود النظاميين وتعيين الضباط الكبار وغيرها من القضايا ذات التأثير الحاسم على مستقبل الدولة وهيكلية الاقتصاد وشخصية المجتمع الإسرائيلي.
وفي غياب الرقابة الخارجية ليس من الممكن منع حدوث الأخطاء التي تؤدي إلى الإخفاقات والإنفاقات المالية على تطوير الأجهزة القتالية غير الضرورية، وليس من الممكن مراقبة الميزانية الأمنية التي تقضم جزءاً كبيرا من الميزانية القومية العامة بنسبة تفوق مثيلاتها في كل الدول الغربية بعدة أضعاف.
بيد أنّ انعدام الرقابة البرلمانية لم يغب عن أعين أعضاء الكنيست بطبيعة الحال، إلا أنهم مستعدون للتسليم به وقبوله بصورة تامة. "أنا أسأل نفسي دائما هل توجد رقابة مدنية ملائمة على الجيش وجهاز الدفاع، فأستنتج بأنها غير قائمة... وهذا الأمر يتحمل مسؤوليته أعضاء الكنيست الذين اعتادوا التغطية على كل حادثة تُلم بهذا الجهاز"، هذا ما قاله عضو الكنيست دان تيخون، في تحليل جيّد للمعضلة عندما كان عضوا في لجنة الخارجية والأمن. إلا أنه مثل رفاقه الآخرين في اللجنة لم ينو التحرك من أجل تغيير ذلك. وأعضاء الكنيست المشاركون في اللجنة يواصلون جموديتهم أمام الجيش.
"نحن مضطرون للاعتماد على هيئة الأركان العامة طبعا"، أوضح ذات مرّة عضو الكنيست يسرائيل كرغمان، الذي كان رئيسا للجنة المالية في السابق. وأردف "بالأساس عندما تقول لنا (هيئة الأركان) إن هناك حاجة لإضافة صواريخ أو دبابات... ذلك لأننا لا نفهم في هذه المسألة أصلا". صحيح أن عدة عقود قد مرّت منذ فترة عضو الكنيست كرغمان، إلا أن كل خلفائه في المنصب ما زالوا يسيرون على نفس النهج.
لدى تحليل السياسة الإسرائيلية منذ إقامة الدولة يمكن الإشارة إلى أربع حالات فقط بلور فيها رئيس الحكومة سياسة لم يقترحها الجيش، بل لم يكن هذا الأخير موافقًا عليها. هذه الحالات هي:
1. في 1977 قرّر مناحيم بيغن توقيع اتفاق سلام مع مصر، ثمنه الانسحاب من سيناء. وقد عارض ذلك قادة الجيش. لكن بيغن حظي بدعم وتأييد وزير الدفاع، عيزر فايتسمان ووزير الخارجية، موشيه ديان، وكلاهما جنرال سابق.
2. في 1993 قرر إسحق رابين، وهو رئيس هيئة أركان عامة سابق، تبني اتفاقات أوسلو خلافًا لموقف الجيش.
3. في 2000 سحب إيهود باراك، رئيس هيئة أركان عامة سابق أيضًا، الجيش الإسرائيلي من لبنان على رغم المعارضة الصارخة والعلنية من قبل قيادة الجيش وعلى رأسها رئيس هيئة الأركان العامة، شاؤول موفاز.
4. في 2005 قرر أريئيل شارون، جنرال سابق، تنفيذ خطة الانفصال والخروج من غزة رغم أن رئيس هيئة الأركان العامة، موشيه يعالون، وكبار ضباط الجيش، عارضوا الخطة.
باستثناء هذه الحالات فإن قرارات الحكومة المتعلقة بمجال الأمن كانت مستندة إلى الاقتراحات التي عرضها الجيش الإسرائيلي على طاولة رئيس الحكومة.
وهذا هو ما حصل أيضًا بالنسبة للحرب الأخيرة على لبنان.
ويقتبس بدهتسور عن يغئال ألون، الذي يصفه بأنه أحد السياسيين الإسرائيليين القلائل الذين "حاولوا أن يؤثروا على صياغة سياسة الأمن القومي وأن يواجه مشاكل الأمن ليس بوسائل عسكرية فقط"، أقوالاً نطق بها في الستينيات وجاء فيها: "َضرورة الدفاع عن البلاد أمام العدوان، المصادمات العسكرية على الحدود، المنجزات العسكرية، التدريبات الجماهيرية، الاستعراضات في ساحات المدن- كل هذه الأمور تخلق جوًا يحمل في أحشائه أخطارًا اجتماعية وأخلاقية شديدة. خطر تفشي العسكرة الشوفينية والفظّة هو خطر عيني في إسرائيل... إنه خطر تمدّن (من مدني) المغامرات حيال الخارج وسيطرة الاتجاهات المعادية للديمقراطية حيال الداخل. كينونة السلاح تحمل معها خطر فقدان قيم اجتماعية وأخلاقية وثقافية إلى درجة طمس شخصية الشعب كمجتمع متنوّر... هذه الأشياء تناسب جميع المواطنين والشبان، مثلهم مثل أفراد الجيش الذين من شأنهم أن يتعطروا من مجرّد سحر لمس السلاح".
يطول النقد الموجّه إلى رئيس الحكومة، إيهود أولمرت، حتى الآن، ليس فقط أداءه خلال الحرب بأيامها كافة، والذي لخصه المعلق السياسي عوزي بنزيمان بما يلي: "الفشل في تحديد غايات الحرب الأولى، وفي فهم معنى ودلالة العمليات العسكرية، وفي الاعتماد الذي استمر في منحه لهيئة الأركان العامة رغم أنه تأكد من تحطم توقعاته، وفي المصادقة على العملية البرية عقب اتفاق وقف إطلاق النار" (صحيفة "هآرتس"، 30 آب 2006). وإنما يطول أيضًا سلوكه بعد انتهاء الحرب.
ويتوزع هذا النقد على محورين اثنين:
الأول- تهرّب أولمرت من تشكيل لجنة تحقيق رسمية حول الحرب ونتائجها بمسوغات هشّة. ويرى أبرز الأساتذة الأكاديميين أن هذا التهرّب من شأنه أن يقوّض دعائم النظام الديمقراطي. ولا يقلّل من شأن هذا قرار أولمرت تشكيل "لجنة فحص حكومية" برئاسة قاض.
الثاني- تخليه عن "أجندته السياسية" والتي كان في مركزها ما عرف باسم "خطة التجميع" أو "خطة الانطواء" واستعاضته عن ذلك بأجندة "إعادة ترميم المنطقة الشمالية التي لحقها دمار كبير نتيجة لتعرضها لقصف صواريخ منظمة حزب الله". وفيما بعد جرى الحديث بأنه يستعيض عن ذلك بالعمل من أجل تغيير طريقة الحكم والانتخابات في إسرائيل: إما بتوطيد الطريقة البرلمانية القائمة بواسطة إتباع انتخابات مناطقية (إقليمية)، وإما بتبني الطريقة الرئاسية ("يديعوت أحرونوت"، 15 أيلول 2006).
فيما يتعلق بالمحور الأول يرى البروفيسور زئيف شطرنهل، المؤرخ والأستاذ الجامعي (صحيفة "هآرتس"، 30 آب 2006)، أن أيام الأزمة النفسانية المحتدمة، مثل الأيام الراهنة، تشكّل أرضية خصبة للأخطار. وبدل أن يساعد في تطبيب المرض عن طريق التنظيف الأساسي للجرح، فإن رئيس الحكومة، إيهود أولمرت، يزيد من خطورته. والمناورة البشعة في تعيين لجنة حكومية لا تعيبه هو فقط، وإنما تعيب أيضًا كل من دعم محاولة إنقاذ جلده حتى ولو بثمن إصابة ثقافة السلطة الإسرائيلية بعاهة مستديمة. وإذا كان أولمرت واثقًا جدًا من صدقه فلماذا يتهرّب من تحقيق حقيقي؟.
ويضيف: في بداية الأسبوع كانت لا تزال هناك إمكانية للاختيار بين احتجاج شعبي وبين عملية منظمة للجنة تحقيق رسمية. الآن لم يبق خيار لأنه خلافًا لسابقيه غولدا مئير ومناحيم بيغن، اللذين ارتكبا أخطاء قاسية لكن في لحظة الحقيقة تصرفا كسياسيين، يرفض أولمرت أن يقرّ بأن التهرّب الكلبيّ من المسؤولية يقوّض طريقة الحكم كلها.
أما البروفيسور شلومو أفنيري، أستاذ العلوم السياسية والمدير العام الأسبق لوزارة الخارجية الإسرائيلية، فيؤكد (صحيفة "يديعوت أحرونوت"، 20 آب 2006) أن من يعتقد بأن الغضب العارم لدى الجمهور ولدى جنود الاحتياط سيمرّ مرّ الكرام يرتكب خطأ كبيرًا. وما يجب ضمانه الآن هو أن لا تتحوّل أزمة الثقة بالحكومة إلى أزمة ثقة بالنظام الديمقراطي. فليس مصير أولمرت وبيرتس هو المطروح على الأجندة، وإنما المطروح هو مستقبل الشعب ومستقبل النظام. الآن أصبح واضحًا كالشمس أنه لا يجوز أن يقف على رأس حكومة إسرائيل شخصان ليست لهما تجربة ولا معرفة عميقة في مواضيع الأمن والجيش والسياسة. صحيح أن من يملك التجربة يرتكب أخطاء أيضًا، لكن الذي لا يملكها لا يعرف أية أسئلة يطرح على الجيش وأية مطالب يضعها أمامه. وقد رأينا جميعًا نتائج ذلك. وللجمهور الحق في أن يقرّر ما إذا كان يرغب بهؤلاء القادة أم يرغب باستبدالهم. ولذا توجد انتخابات.
وفي تعليق لاحق (صحيفة "يديعوت أحرونوت"، 27 آب 2006) يؤكد أفنيري أن الغضب الجماهيري على القيادة السياسية ينطوي على مستويين: الأول نقد قلة تجربة رئيس الحكومة ووزير الدفاع في شؤون الأمن والسياسة، وهو ما أدى إلى قرارات خاطئة ومتناقضة ومتسرّعة، والثاني عدم راحة عميقة من أسلوب سلوك القيادة القائمة. فإن تحقيقات البوليس والشبهات الحائمة حول عدد كبير من السياسيين تخلق شعورًا من الاشمئزاز، ويوجد في هذا خطر على مناعة الديمقراطية.
ويصف البروفيسور يحزقيل درور، أستاذ العلوم السياسية والحاصل على جائزة إسرائيل وأحد أعضاء لجنة الفحص الحكومية لنتائج الحرب التي عينها أولمرت، العملية التي ينبغي أن ينجزها رئيس الحكومة قبيل المصادقة على أي نشاط عسكري، فيكتب قائلاً (صحيفة "يديعوت أحرونوت"، 21 آب 2006): يجب على رئيس الحكومة أن يحقّق جيدًا مع رئيس هيئة الأركان العامة ومساعديه قبل التصديق على أية عملية عسكرية. وهذا التحقيق يشمل مجموعة من الأسئلة التي ينبغي بـ"المحقّق معهم" أن يقدموا عليها أجوبة واضحة، منمقة ومقنعة. البحث مع قادة الجيش ينبغي أن يتم بروح موضوعية، عبر الفهم أن أية عملية عسكرية تعجّ بأشياء ليست يقينية أو أكيدة. مع ذلك إذا كانت الإجابات غير كافية فعلى رئيس الحكومة، قبل أن يصادق على العملية، أن يجري تحقيقًا مع رئيس هيئة الأركان العامة كما لو أنه "شاهد معادٍ". الإجابات يتعيّن طرحها للنقاش مع قادة وزارة الخارجية، الموساد، مجلس الأمن القومي ومع كبار المستشارين السياسيين والأمنيين، كلا على حدة وبعد ذلك سوية مع الجميع. كل الأجوبة والأبحاث يجب أن تكون موثقة، حتى يكون بالإمكان القيام بتقدير متدرّج لتقدّم العملية واستخلاص الدروس والوصول إلى نتائج شخصية، إذا اقتضت الحاجة. وكل هذه العملية يمكن أن تتم بسرعة ولذا فليس في "ضيق الوقت" أي تسويغ للالتفاف على هذه الطريقة في اتخاذ القرار.
ومع أن درور يعرب عن أمله في أن تكون قرارات الحرب ضد حزب الله قد تمت وفق ما جرى توصيفه، إلا أنه ينوّه بأنه "من معرفتي لثقافة اتخاذ القرارات في إسرائيل، أخشى أن لا يكون قد حصل ذلك بالنسبة لقرارات تحسم مستقبل البلاد".
(يتبع)
[ينشر بالتعاون مع مجلة "قضايا إسرائيلية" الفصلية المتخصصة الصادرة عن مركز "مدار"- رام الله]
31/10/2010 - 11:02
حول التداعيات السياسية للحرب على لبنان (2- 5)/ أنطوان شلحت
التعليقات