شارون؛ صورة السياسي/ د.عزمي بشارة

-

شارون؛ صورة السياسي/ د.عزمي بشارة

 

 

صفية محمد محمود شماسنة، آمنة عيسى عبد الحليم الفقيه، حليمة حسن أحمد طه. من قرية قطنّه شمال غرب القدس قتلن في طريقهن إلى بئر ماء القرية بإطلاق النار من كمين. لم تنشر أسماؤهن، وربما لا يعرف الناس أن الذي أصدر الأمر بإطلاق النار عليهن قبل خمسين عاما كان الرائد اريئيل شارون. لقد نشرت هنا أسماء أول ثلاثة مدنيين قتلهم شارون.

بين الأعوام 1952-1953 كاد شارون يصبح طالباً منشغلاً بالدراسة في الجامعة العبرية في القدس، عندما عيّن قائداً لكتيبة الإحتياط، وبمرور أيام معدودة على تعيينه جمع ضباطه وقال لهم أن مواطنات القرية العربية قطنّه اللواتي يذهبن إلى بئر الماء تقطعن عملياً الحدود (دون أن تدرين) مما يمس بالسيادة الإسرائيلية. وادعى اريك أن الحدود بين المستوطنة الإسرائيلية "معاليه هحميشاه" والقرية العربية قطنّه غير مرسومة بشكل واضح، وأن سكان القرية غالبا ما يخترقون الأراضي الإسرائيلية.

ومن أجل تصحيح هذا الخطأ أمر اريك بنصب كمين وظيفته إطلاق النار على النساء اللواتي ينشلن الماء. وضعت وحدة الرماة في الكمين في حالة تأهب لحالة رد مدفعي على إطلاق النار على النساء القرويات. وأمر "اريك" ضباطه بعدم نشر خطته كي لا تصل إلى مسامع قيادة المنطقة الوسطى أو للأركان العامة.

ونفذ السيناريو كما خطط "أريك" تماماً. نزل التلة ليلا أربعة ضباط، وقتلوا امرأتين من بين أربعة خرجن لنشل الماء من بئر القرية. وفتحت المدفعية الأردنية النار باتجاه القرى الإسرائيلية المجاورة. وردت المدفعية الإسرائيلية بالمثل، وانتهت الحادثة بتدخل مراقبي الأمم المتحدة القيمين على اتفاقيات وقف إطلاق النار.

وعندما لخص "أريك" الحادث مع ضباطه حاول أن يشرح لهم الفرق بين إطلاق النار على أهداف متحركة من حالة سكون وبين إطلاق النار في حالة حركة أثناء الحرب .

نفذت جريمة قتل النساء بهذا الغدر، خلافاُ لما يعتقد سكان قرى شمال غرب القدس، قبل إقامة الوحدة 101. فقد أقيمت هذه الوحدة في آب 1953 وقد أوصى شارون بإقامتها وقادها شارون منذ تأسيسها كوحدة خاصة في عملياتها الإنتقامية ضد القرى الفلسطينية على طول الحدود الأردنية وضد أهداف مدنية في غزة وعلى طول خطوط وقف اطلاق النار مع سوريا. وقد قاد شارون عملية توحيدها مع وحدة المظليين رقم 890 في كانون الثاني 1954 ودمجها في سلاح المظليين بأمر من ديان بعد أن عين شارون قائداً لسلاح المظليين.

ومن أشهر "كلمات السر" الأخلاقية التي خلفتها هذه الوحدة في تاريخ العسكرتارية الإسرائيلية جواب نائب قائد الوحدة شلومو باوم على ترددات بعض جنودها إزاء مدى أخلاقية ما يقومون به من أعمال قتل انتقامية ضد مدنيين لم يرتكبوا جرماً ومدى مس هذه العمليات بمبدأ "طهارة السلاح". قال شلومو باوم مقولته القصيرة " يجب أن يكون السلاح نظيفاً وليس طاهراً"، أي أن على الجندي أن يهتم بنظافة سلاحه وجاهزيته للمعركة، وليس بالمعايير الأخلاقية التي لا مكان لها في اعتبارات الجندي المقاتل في عرف هذه الوحدة!

لقد أصبح نمط الجندي في هذه الوحدة ثم في سلاح المظليين نموذج المقاتل المقدام الفظ والهجومي المباشر الذي يحتذى في الجيش الإسرائيلي بأكمله، ولا اعتقد انه احتذي في كل شيء ولكن لا شك بتكريس علاقته بالكذب وكتابة التقارير الكاذبة كما سوف نرى.

وأول عمليات هذه الوحدة العسكرية اقتحام مخيم البريج يوم 28 آب بعد منتصف الليل، صباح 29 آب، وعندما اكتشف أمر الوحدة اقتحمت المخيم للخروج من جهته الأخرى بدلاً من الانسحاب، فأدى ذلك إلى محاصرتها بالمدنيين العزل، وكانت مذبحة أدت إلى مقتل 43 لاجئاً فلسطينياً، منهم 7 نساء وخمسة أولاد وجرح 22 شخصاً، أما خسائر الوحدة 101 فقد تلخصت بجريحين. وقد قاد شارون العملية بنفسه.

ولكي يبرر شارون هذا الكم الهائل من الضحايا المدنيين وسبب اقتحامه للمخيم رغم افتضاح أمره، قال: "فتحت علي النار من اتجاه شمال- غرب .. قررت أن العبور من المخيم ذاته والتملص من جهته الأخرى أفضل من العودة من حيث أتيت، لأن الحركة في هذا الاتجاه صعبة بسبب المزروعات والبساتين والأسلاك الشائكة .. وبسبب الحراس .. قررت أيضاً أن الهجوم أفضل من خلق انطباع الهرب .. ولذلك اقتحمت المخيم مع مجموعتي."

توضح الجملة الأخيرة التي كتبها شارون بنفسه في تقريره العسكري أنه يفضل الاقتحام وقتل المدنيين على الظهور بمظهر الجبان. المعادلة واضحة والثمن واضح. وقد تنكرت إسرائيل رسمياً لمسؤوليتها من العملية وجعلت الدبلوماسيين الغربيين يفهمون أن وراء العملية مدنيين إسرائيليين من القرى الحدودية أو أعضاء أحد الكيبوتسات، كرد انتقامي على عمليات المتسللين، وهي نفس الكذبة التي سوف تتكرر بمقاييس أكبر في حالة قبية. أما المراقبون الدوليون لوقف إطلاق النار فعرّفوا عملية البريج كـ"حالة مخيفة لمذبحة مقصودة".

يوم 13 أكتوبر من عام 1953 اجتمع بن غوريون ولافون (وزير الأمن) وديان (رئيس غرفة العمليات في قيادة الأركان) للبحث في عملية الرد على قتل أم وطفليها في قرية "يهود" بفعل انفجار قنبلة يدوية ألقاها في بيتهم متسلل فلسطيني.

واقترح أحد المجتمعين قرية قبية كعنوان للرد الانتقامي، وكما يبدو كانت هنالك خطة درج معدة إذ اقترح احدهم تدمير 50 بيتاً من 280 بيتاً في القرية. واتخذ القرار، ولكن الملفت هو تسلسل الأمر الذي وجه لتنفيذ العمليات من المستويات العليا إلى المستويات الدنيا.

أمر ديان الموجه لرئيس قسم العمليات في قيادة الأركان والمسمى "أمر عملية شوشنه": "هدف قيادة الأركان، تنفيذ عمليات رد حادة ضد القرويين الذين يستخدمون كقواعد لعمليات التسلل .. المهمة: (أ ) تنفيذ عملية اختراق لقرى نعالين وشقبا بهدف تفجير وتخريب عدد من البيوت وإصابة سكانهم. (ب) تنفيذ عملية هجوم على قرية قبية واحتلالها مؤقتاً وتفجير بيوت وإصابة السكان والتسبب بهربهم من القرية."

نقل رسول الأمر باليد إلى قيادة المنطقة الوسطى، وهناك صدر أمر تنفيذ العملية هذا نصه: "هدف القيادة الأركان هو تنفيذ عمليات رد حادة على صورة تخريب وقتل في القرى العربية... الهدف: الهجوم من قرية قبية، احتلالها مؤقتاً، تنفيذ الهدم وقتل أكبر عدد ممكن من أجل دفع سكان القرية إلى الهرب من بيوتهم... اجتياح قرى شقبا ونعلين، تخريب عدد من البيوت وقتل سكان وجنود."

واضح أن نص هذا الأمر جاء أكثر حدة ووضوحاً من النص الإجرامي الوارد أصلاً في أمر هيئة الأركان، ولكن هنالك من زاده حدةً: "قتل أكبر عدد ممكن... إلخ" عندما قام بترجمته إلى لغة تنفيذ. وقد عمل في حينه في قيادة المنطقة الوسطى دافيد العازار (رئيس أركان حرب 1973) ضابط عمليات المنطقة الوسطى ورحبعام زئيفي (جاندي) المقابل له عمليا في قسم العلميات في هيئة الأركان.
.
3. عين شارون ابن الخامسة والعشرين قائدا للعملية التي شاركت فيها وحدات أخرى غير وحدته من سلاح المظليين وذلك تقديرا لنهج وحدته في تنفيذ العلميات الانتقامية. وحرر شارون أمراً لوحداته لتنفيذ العملية بالنص التالي : " هدف القيادة تنفيذ عمليات رد حادة ... الهدف: الهجوم على قرية قبية، واحتلالها وقتل أكبر عدد ممكن والمس بالممتلكات... اجتياح قرى شقبا ونعلين بهدف القتل وتفجير عدد من البيوت."

نفذت العملية صباح ما بعد منتصف الليل يوم 15 أكتوبر. وحملت القوة التي نفذت العملية معها 700 كغم متفجرات. وتم تفجير 54 بيتاً في مدة لا تتجاوز ثلاث ساعات. وقتل 70 من سكان القرية غالبيتهم من النساء والأطفال غالبيتهم بالرصاص، قسم منهم تحت الأنقاض في بيوت لم يحذر سكانها قبل تفجيرها...

وعلى ضوء الضجة الدولية التي أحدثتها العملية أصدرت حكومة إسرائيل بياناً قام بن غوريون بنصه وقراءته بنفسه في الإذاعة: " منذ أربع سنوات تقتحم جيوش من عبر الأردن ومن دول عربية أخرى المستوطنات اليهودية الحدودية والقدس من أجل القتل والسرقة... وقد قتل وجرح مئات المواطنين، رجالاً ونساءاً، شيوخاً وأطفالاً، وقامت حكومات عربية بتبني هذه العمليات مباشرة أو بشكل غير مباشر بهدف سياسي واضح، وهو هدم إسرائيل وجعل الحياة فيها مستحيلة ولذلك استغلت اللاجئين الفلسطينيين ولم توطنهم في بلادها، ولم تساعدهم على تدبر أمرهم في حين ساعدت حكومة إسرائيل اللاجئين اليهود من الدول العربية أن يستوطنوا في بلادها... ". وتطول المقدمة الأخلاقية إلى أن تصل إلى الأساس وهو موقف حكومة إسرائيل من مذبحة قبية. " كل واحد منا يأسف على الدم الذي يسفك في كل مكان، وليس هنالك من يأسف أكثر من حكومة إسرائيل إذا سفك دم في عملية الانتقام في قبية، ولكن المسؤولية كلها ملقاة على عاتق حكومة عبر الأردن... ترفض حكومة إسرائيل بكل قوة الرواية الخيالية والشريرة، وكأن ستمائة جندي في جيش الدفاع الإسرائيلي شارك بالعملية ضد قرية قبية. لقد قمنا بإجراء فحص دقيق وتبين لنا بشكل قاطع انه لم تغب عن معسكرها أي وحدة عسكرية ولا حتى أصغرها في ليلة الهدم في قبية."

هكذا نص بيان بن غوريون الى الأمة. كذب صريح يرافقه الوعظ الأخلاقي للآخرين، وصراحة وحزم في إنكار التهم والحديث عن إجراءات فحص تمت. ويذكِّر هذا النوع من النصوص الرسمية بالبيانات التي يصدرها الجيش الإسرائيلي بعد قتل مدنيين فلسطينيين بصيغة أنه أجرى فحصاُ دقيقا وتبين له انه لم يقم اي جندي إسرائيلي بإطلاق النار، وانه يجب البحث عن مصادر أخرى لإطلاق النار ...

"ومع ذلك زرع هذا البث الإذاعي بصوت بن غوريون بعض الشك في الغرب. لقد صَعُبَ على الدبلوماسيين الانجلو سكسون بشكل خاص أن يصدقوا أن رئيس حكومة دولة ديموقراطية صديقة، ينشر الأكاذيب بهذا الهدوء النفسي."

هذه المدرسة الميكافيلية المباينة التي تحدد الهدف، إظهار إسرائيل قوية مثلاً، جعل العرب يفهمون الثمن المرتفع للاعتداء على إسرائيل، مثلا، وتبرر الوسيلة الفاضلة للوصول إلى هذا الهدف، هي المدرسة السياسية والعسكرية التي نشأ فيها شارون. وقد فاخر شارون فيما بعد بهذه العملية ومثيلتها وبالنتائج العسكرية الايجابية الناجمة عنها وبفعاليتها على مستوى الردع.

بعد توحيد الوحدة 101 مع كتيبة 890 من سلاح المظليين بقيادة شارون تم تنفيذ عمليات أخرى عديدة بنفس المنطق مثل عملية نحالين (29 آذار 1954) التي اعدم فيها عملياً أربعة مواطنين انتزعوا من بيوتهم من بين عائلاتهم بعد منتصف الليل وقتلوا كأسرى. وقامت الوحدة بتنفيذ عمليات سرقة قطعان غنم وبقر وجنود لمبادلتهم بأسرى إسرائيليين اسروا أثناء مشاركتهم في عمليات الوحدة، وغير ذلك.

يوم 26 أيار عبرت قوة عسكرية إسرائيلية الحدود إلى الأردن قرب خربة جنبا جنوب الضفة الغربية وذلك لغرض خطف قطيع. كانت القوة التي اخترقت الحدود بهدف خطف أو سرقة قطيع من الماشية بقيادة شارون الذي ادعى فيما بعد أنه رافق القوة، وبموجب تقرير مراقبي الأمم المتحدة عن العملية قيّد المظليون أربعة عرب (منهم ولد في العاشرة من عمره) وكمنوا لقوة أردنية قتلوا اثنين من عناصرها، وبعد ذلك أطلقوا النار على أحد العرب المقيدي الأيدي واسمه محمد سلام سلامه، ثم جرّوا آخر إلى التلة المجاورة وأطلقوا عليه النار. ونشرت الصحافة الإسرائيلية في حينه أن القوة دخلت بحثاً عن القطيع وليس لسرقة قطيع آخر في نوع من "المقايضة" التي كانت تقوم بها الوحدة 101 مع القرى العربية على طول الحدود على نمط العين بالعين والسن بالسن، ثم ادعت أن القتلى إما قُتلوا في معركة أو أثناء محاولة الهرب.

جرت عمليات كثيرة على هذا النمط كان فيها شارون يقدم لقيادته تقارير كاذبة أو يعلمها بالعملية بعد وقوعها أو يتوسع في تفسير الأوامر. وفي النهاية كان التواطؤ يشمل الجميع. وحتى لو كان شاريت يتذمر منها في يومياته إلا أنه في نهاية الأمر كان يتعايش معها. وكان نجم العمليات إلى جانب شارون المقاتل الأسطوري الإسرائيلي مئير هارتسيون الذي أُعتبر بطل الوحدة بامتياز وأشرس مقاتليها. وقد كتب في مذكراته عن "مغامرات" تلك الفترة كأنها نوع من تحقيق الذات.

وقد قتلت أخت مئير هارتسيون وصديقها بأيدي بدو، كما يبدو، في وادي الغار عندما "تنزها" مشيا على الأقدام في المنطقة الأردنية . وبعد ثلاثة أسابيع وكرد فعل على هذه العملية اخترق يوم 4 آذار 1955 اربعة مظليين، بينهم مئير هارتسيون" الحدود إلى مخيم بدوي من عشيرة العزازمة والجهالين على بعد 8 كم الى الشرق من الحدود وأطلقوا النار على بدوي واحد حاول الهرب بعد أن رآهم، فأردوه قتيلاً. ولكنهم أسروا خمسة بدو آخرين. وبعد محاولات متعددة وفاشلة للتحقيق معهم، إذ لم يعرف العربية أي من المظليين، تم ذبح أربعة بالسكاكين، وأطلق سراح الخامس ليقص للناس عما رأى.

تظاهر بن غوريون بأنه مستاء من العملية وطالب بمحاكمة الفاعلين، ولكنه ما لبث أن اختلف مع شاريت لأنه قام بنشر أسمائهم ثم تفهم موقف الجيش الذي لم يتعاون مع الشرطة، وفي النهاية لم يحاكم أحد. خاصة وانه ظهرت "مشاكل إجرائية قضائية" متعلقة بمحاكمة قاتل على أرض دولة أخرى لا تربطها بإسرائيل اتفاقيات تسليم مجرمين...

وما يهمنا من هذه العملية هو أن الجيش كان متورطاً في العملية الانتقامية، وأن شارون ساعد المظليين الأربعة بالسلاح والغذاء والعتاد، وأنه نقلهم بسيارة من سيارات الكتيبة حتى الحدود وأرسل مظليين لاستقبالهم عند عودتهم. كما إن شارون أمر الأربعة ألا يتعاونوا مع الشرطة: إنهم "صامتون .. حسب أمر واضح من اريك" كتب شاريت، كما شك شاريت أن ديان وقد أصبح في حينه رئيس أركان كان على علم بالعملية...

لم نأت بعد على ذكر صبرا وشاتيلا طبعا وخداع شارون لرئيس حكومته وتقاريره الكاذبة عن أهداف الحملة على لبنان.

أثارت تصريحات شارون في جلسة كتلة الليكود في الكنيست يوم الاثنين 26 أيار 2003 ضجة كبرى في الاوساط السياسية العربية والاسرائيلية.

وكان رئيس الحكومة الاسرائيلي قد صرح في معرض رده على نواب الليكود الذين هاجموا قرار حكومته بتبني "خارطة الطريق" ما يلي: "من المفترض برأيي ان نتوصل الى تسوية. سأقوم بكل جهد من أجل التوصل الى تسوية سياسية، لأنني أعتقد أن التوصل الى تسوية سياسية مهم لاسرائيل. انا اعتقد ايضاً ان الآراء والأفكار الذاهبة الى انه من الممكن ان نواصل الإمساك بثلاثة ونصف مليون فلسطيني تحت الإحتلال- تحت الاحتلال نعم، من الممكن ألا نحب الكلمة، ولكن هذا ما يحدث: تحت الإحتلال. وهذا برأيي امر سيء لإسرائيل أيضاً وللفلسطينيين ولاقتصاد اسرائيل، هذا لا يمكن ان يستمر بلا نهاية. تريدون ان تبقوا بشكل دائم في جنين، في نابلس، في بيت لحم، دائماً؟ لا أعتقد ان هذا صحيح".

وقد أثارت كلمة "الإحتلال" جلبة خاصة. كما ألهبت خيال المعسكر العربي المتحمس للتحركات الأمريكية بعد العراق "قبول" الحكومة الإسرائيلية خارطة الطريق في اليوم الذي سبقه (الأحد 25 أيار2003).

في اليوم التالي اتصل المستشار القضائي للحكومة الاسرائيلية برئيس حكومته وطلب منه عدم استخدام مصطلح "المناطق المحتلة" بل "المناطق المتنازع عليها"، وأن مفهوم المناطق المحتلة يفيد العرب في المفاوضات (معاريف 28/5).

والحقيقة ان شارون لم يكن بحاجة الى هذا التحذير، فهو لم يستخدم مصطلح المناطق المحتلة، بل تعامل مع عبارة "3.5 مليون فلسطيني تحت الإحتلال". وقد أوضح ذلك أيضاً في جلسة لجنة الخارجية والامن في الكنيست في اليوم التالي. .

وتنسجم هذه العبارة مع تصور شارون للحل السياسي وللتسوية. وقد طرح شارون تصوره للتسوية طيلة خمسة عشر عاماً. ويقوم التصور بأكمله على عدم إمكانية السيطرة الى الأبد على السكان الفلسطينيين والحفاظ على حكم اسرائيلي عليهم لفترة طويلة، رغم قناعته بضرورة استخدام القوة طالما كانت السيطرة ضرورية. من هنا جاء تصور يغآل ألون "للحل الوسط اقليمي" الذي "يعيد" المناطق المكتظة بالسكان الى الأردن، ومن هنا ايضا جاء اقتراح الحكم الذاتي لدى بيغن، واقتراح ضرورة اقامة كيان سياسي فلسطيني على المناطق التي ترغب حكومة ألون بإعادتها الى الأردن وضم البقية الى إسرائيل، وهو تصور شارون الذي تحدى به حزب العمل منذ منتصف الثمانينات كما سوف نرى.

هل هذا يعني أن كلام شارون هذا لم يأت بجديد؟ نعم، لا جديد إلا لمن اختار ألا يرى سوى شارون الجنرال وأصر على تجاهل شارون السياسي منذ عقود. يؤكد شارون الجنرال ورجل الأمن على استخدام القوة العسكرية لتحصيل نتائج سياسية.

وصحيح أن شارون ليس فيلسوفاً لنحلل اقواله ونفسرها كأنها تحليلات واحكام نظرية، ولكنه أيضا سياسي يمثل نموذجا هاما في سياسات القوة والردع الإسرائيلية وتتقاطع فيه تيارات إسرائيلية عديدة قومجية يهودية، عسكرتارية الإستيطان الزراعي، وعلمانية.

شارون يميني انتمى بعد اتمام خدمته العسكرية مباشرة الى حيروت بعد مغامرة قصيرة في قائمة انتخابية مستقلة لا تستحق ان تسمى حزبا وبعد مغامرة قصيرة مع اليسار الصهيوني دامت أشهر معدودة. وفي تلك المرحلة وصل به الأمر أن حاول التواطؤ مع الأحزاب الصغيرة في الليكود لكي ترشحه لرئاسة الحكومة بدل بيغن. مما أدى أن يكتشف بيغن طبيعته التآمرية بعد أن شارك الأخير في نفخ أسطورته العسكرية ضد العمل في الحكومة إبان وبعد حرب 73. وكان المس ببيعن أول أهداف تآمره السياسي. وقد وصل به الأمر أيضا أن أعرب عن استعداده أن خول الكاتب اليساري الصهيوني عاموس كينان ان يرتب له اجتماعا مع ياسر عرفات. وقد كان مبعوثه لصياغة برنامج سياسي مشترك مع "اللبراليين المستقلين" بقيادة موشي كول. ولم يتم الاجتماع لأن عرفات عرض لقاء مع مبعوثه عصام الصرطاوي.

ولكن شارون أصر على عرفات في حينه. ولم يتم الاجتماع طبعا. تصالح شارون مع بيغن فيما بعد وأصبح مضطرا للقبول بمنصب وزير زراعة في حكومته الأولى.

شارون يميني حزبيا ولكن جذوره الثقافية والنفسية اقرب الى مباي بن غوريون وغولدا مئير. وكان دائماً يحمل تصوراً سياسياً أقرب الى تصورات حزب العمل حول "الحل الوسط الاقليمي" Territorial Compromise منها الى تصورات حركة أرض اسرائيل الكاملة العلمانية التي دعت الى ضم المناطق المحتلة بعد عام 67 ومن معطفها خرجت الحركات اليمينية المتطرفة العديدة. كما انه اقرب الى هذه الحركات اليمينية العلمانية منه إلى ايديولوجية المستوطنين الخلاصية. وحتى عندما روج شارون لفكرة الدولة الفلسطينية في الاردن فانه لم يرغب بضم السكان الفلسطينيين في المناطق المحتلة الى اسرائيل مثل ليكودي متوسط في تلك الفترة،، ولم يعتقد انه بالامكان مواصلة الحكم الاسرائيلي عليهم الى الأبد، بل أراد حكماً فلسطينياً ذاتياً او مواطنة اردنية للمواطنين الفلسطينيين في الضفة والقطاع بحيث تعبر الاردن عن طموحاتهم الوطنية في دولة.

ولكن ما يميز شارون هو شخصية جنرال من نوع معين في داخله الا وهو الذي يؤمن بشكل حاسم بتأثير سياسات القوة الى ان يقبل العرب بحل سياسي مقبول على اسرائيل يجب ألا تتردد اسرائيل بالاعتماد على القوة والقمع دون هوادة.

ومن أجل أخذ فكرة عن طبيعة الحل الذي يقبل به شارون رغم كل الانفعال الذي ولدته حول تصريحاته المتعلقة بالاحتلال نورد اقتباسا آخر من نفس الجلسة التي ابلغ فيها كتلته عن موافقته على "خارطة الطريق". قال شارون في رده على عضو الكنيست من كتلته يحيئيل حازان ان قبول خارطة الطريق (بلغته خطة الطرق) لا يمنع البناء في المستوطنات: "بالامكان البناء دون تحديد لابنائك واحفادك ولابناء احفادك أيضا". وبعد مرور اقل من شهر على هذا التصريح يقول شارون في جلسة الحكومة موجها كلامه للوزراء: " ابنوا ولا تتكلموا... لا يتوجب ان نخرج راقصين كلما اعطي الإذن للبناء في المستوطنات" كما أضاف في نفس الجلسة أنه يوجد بين إسرائيل والولايات المتحدة أساس عميق من الثقة والمصداقية. يتضح هنا مدى مصداقية شارون عند حديثه عن الاحتلال وعند موافقته على خارطة الطريق التي تتضمن تجميد الاستيطان.

حتى موافقة شارون على مفهوم الدولة الفلسطينية واستخدام هذا المفهوم لم تكن جديدة كما بدت للمعلقين المتفاجئين مما قاله. وهي لم تعبر عن موقف أخلاقي لإحقاق العدالة النسبية أو الإنصاف. لقد استنتج شارون أنه لا توجد إمكانية لطرد الفلسطينيين في عملية ترانسفير شاملة، ولا يمكن ضم الفلسطينيين الى اسرائيل. والنتيجة هي حل وسط اقليمي مع الفلسطينيين انفسهم بدلاً من الاردن. وما المشكلة ان يصل شارون الى مثل هذه النتيجة رغماً عنه دون موقف أخلاقي؟ فالمهم هو النتيجة وليس الدافع لأن النتيجة كيان سياسي فلسطيني يشمل أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين على أصغر رقعة من الارض.

وعلى هذا دار الصراع داخل الخارطة السياسية الإسرائيلية. ما هي طبيعة الدولة الفلسطينية؟ ما هي حدودها؟ ما هي صلاحياتها؟ هل تشمل مستوطنات اسرائيلية؟ كم من مساحة الضفة الغربية وقطاع غزة سوف يضم الى اسرائيل بموجب هذا القرار؟.

لم توفر "خارطة الطريق" الأمريكية إجابات محددة على هذه الاسئلة. ويبدو ان هنالك حاجة لتذكير القارىء العربي بنص قرار الحكومة الاسرائيلية حول خارطة الطريق من يوم 25 ايار 2003:" تعلن حكومة اسرائيل انها توافق على اعلان رئيس الحكومة بتبني الخطوات التي تتضمنها خطة الطريق (الطرق) وتؤكد ان تطبيق الخطة سوف يتم بموجب اربعة عشر تحفظاً قدمتها اسرائيل للولايات المتحدة". وقد اضاف شارون بضغط من الوزراء البند التالي الى القرار:" تشكل الدولة الفلسطينية الحل الوحيد لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين واستيعابهم".

حسناً. ما هو نص اعلان شارون من يوم 23 ايار الذي تبنته الحكومة الاسرائيلية بعد ذلك بيومين؟ نورد هنا النص الحرفي كما هو قائم في موقع مكتب رئيس الحكومة الاسرائيلية: "على ضوء اعلان الولايات المتحدة بالنسبة لملاحظات اسرائيل حول خطة الطريق، بأن الولايات المتحدة تشارك الرأي أن الملاحظات الاسرائيلية هي تعبير عن مخاوف حقيقية، وعلى ضوء تعهد الولايات المتحدة ان تعالج هذه الملاحظات بشكل كامل وجدي عند تطبيق خطة الطرق التي تهدف الى تطبيق رواية الرئيس بوش خطة الطرق التي تهدف الى تطبيق رواية الرئيس بوش من يوم 24 حزيران 2002، يعلن رئيس الحكومة اريئيل شارون ان دولة اسرائيل توافق على الخطوات المحددة في خطة الطرق وسوف يطرح الموضوع لموافقة الحكومة". لا يمكن تسمية هذا القرار وهذا الاعلان موافقة غير مشروطة على خطة الطريق.

ويتضح من تصريحات شارون في محاولته لاقناع وزرائه في تلك الجلسة حول "الضرورة الإقتصادية لقبولها" أن شارون رأى أهمية لعملية اعلان الخطة وقبولها كخطوة قائمة بذاتها تغير الأجواء الدولية حول اسرائيل. والحقيقة ان الملاحظات الإسرائيلية على خارطة الطريق لا تمر دون أن تأخذها الولايات المتحدة بعين الاعتبار وذلك ليس فقط لأنها قد تتفق معها، وربما اتفقت معها حول هذه الملاحظات قبل اخذ موافقة إسرائيل على خارطة الطريق ، وإنما لأن خارطة الطريق الامريكية لم تشمل اطلاقاً اي تصور محدد لشكل الحل الدائم واكتفت بتعيين القضايا المطلوب منها.

كان الجديد في خارطة الطريق اولا انها طالبت بتطبيق الالتزامات الاسرائيلية والفلسطينية بالتوازي وليس بالتوالي. ولكن اسرائيل في الواقع انكرت ذلك وأصرت على تنفيذ الالتزامات الامنية الفلسطينية . وكان الجديد ثانيا هو شرط تجميد الاستيطان، وهو مطلب تكتيكي فلسطيني يهدف الى تحسين الاجواء التفاوضية في الطريق نحو الهدف الاستراتيجي، وهو ازالة المستوطنات. ولم تتنازل اسرائيل عن موقفها من مواصلة الاستيطان لتغطية حاجات التكاثر الطبيعي. وحتى لو فككت اسرائيل بعض النقاط الاستيطانية فقد كانت تلك نقاط استيطانية غير قانونية بموجب القانون الاسرائيلي ذاته. وليس غير قانونية بموجب القانون الدولي. وذلك لتأكيد الفرق بين مستوطنات قانونية واخرى غير قانونية. والفرق بين مستوطنة قانونية واخرى عير قانوني في اسرائيل بسيط واجرائي للغاية، فالاولى نشأت بترخيص واذن من الحكومة اما الثانية فلا. والجديد ثالثا هو ورود الدولة الفلسطينية في الخارطة خارج اطار الحل الدائم. وكررت مصادر اسرائيلية رسمية يومياً التأكيد ان الدولة الفلسطينية هي هي الحل لكل القضايا. والحقيقة ان شارون قد قبل دولة فلسطينية كمرحلة انتقالية باتفاق لفترة طويلة بما فيه الكفاية: عشرة الى خمس عشرة عاماً.

لقد ارادت الولايات المتحدة من شارون موقفاً واعلاناً يقبل بخارطة الطريق بشكل عام ومبدئي، لأن الولايات المتحدة احتاجت سياسياً الى هذه الموافقة في المنطقة العربية وفي اوروبا. فالاستثناء الاسرائيلي هو هو الحدبة التي تحملها الدبلوماسية الامريكية على ظهرها في اوروبا والعالم العربي.

وقد حقق شارون لامريكا مرادها. هذا كل شيء. لقد ابدى شارون استعداداً للتوصل الى تسوية سياسية، وطبيعي انه احتفظ برأيه حول طبيعة هذه التسوية وأن عمل طيلة الفترة لاقناع الولايات المتحدة بقبول موقفه على قاعدة مشتركة، هي قاعدة خارطة الطريق. كل القضايا مؤجلة.

قال سامويل لويس بعد سماعه تصريحات شارون حول الاحتلال انه لا يصدق أن شارون قد تغير: " لقد تغير شارون بعد حرب لبنان في ناحية واحدة، لقد تعلم أن يضبط نفسه وان يلجم لذة تعذيب موفدي الولايات المتحدة إلى الشرق الأوسط...تعلم شارون اللعبة الدبلوماسية وعلم ذاته أن يلعب الكرة مع الرئيس الأمريكي. علاقة شارون ببوش، هي علاقة المتدرب بوش بالمدرب شارون. الاعتقاد أن الولايات المتحدة ستضغط على إسرائيل إلى إن تخضع الأخيرة هو ضرب من الخيال بسبب بنية الإدارة الأمريكية الأيديولوجية والسياسية وبسبب شخصية شارون" صموئيل لويس هو السفير الأمريكي الأكثر أهمية قي تاريخ العلاقات الأمريكية الإسرائيلية، وهو الذي مكث أيضا في تل أبيب أطول فترة لسفير أمريكي إلى درجة التدخل في السياسة الإسرائيلية الداخلية. وكانت علاقته بشارون متوترة منذ اتهمه الأخير بالإساءة له إبان حرب لبنان 1982.

جرى لأرئيل شارون ما جرى لغيره من ساسة المؤسسة الاسرائيلية بعد حرب 1973. لقد اكتشفوا ان هنالك قضية فلسطينية، ليس في عام 67، بل في العام 73، رغم ان الاحتلال المباشر لبقية الشعب الفلسطيني التي لم تشرد كان في العام 67. ولكن هنالك فرق بين اكتشاف الشعب واكتشاف القضية. لقد فرض انجاز عسكري عربي واحد، ولو بدون انتصار عسكري، القضية الفلسطينية على من انكرها سابقا. ومع انه ما زال يعتقد ان الجيش الاسرائيلي سوف يبقى مرابطا في كل المساحة الواقعة بين النهر والبحر، وهذا ما قاله عام 1974: " ويجب الا ننفعل من تصريح كل زعيم عربي يعترف او لا يعترف بوجودنا، نحن موجودون. ولكن الفلسطينيين موجودين ايضا. ...يجب ازال كافة المنظمات الفلسطينية ابادتها ولكت الفلسطينيون موجودون ايضا وبرؤية بعيدة علينا ان نجد قنوات حوار معهم، اذا ارادوا الجلوس معنا والحديث عن السلام."

عُين شارون وزيراً للزراعة في حكومة بيغن الأولى عام 1977 بعد فشل مغامرته بخوض الانتخابات في قائمة منفردة لم تحظ إلا بمقعدين في البرلمان. وكان لا بد لشارون ان يستخدم وزارة الزراعة لغرض تقدمه السياسي الشخصي، كما استخدم الجيش قبل ذلك. وكان هدفه ان يعين رئيساً للأركان، ثم أصبحت وزارة الدفاع هدفه . جعل منه الجيش بطلاً قومياً يناكف القيادات السياسية المترددة، ويتهكم عليها في الصحف بإعتبارها تعيش في ابراج بيروقراطية ولا تفهم الجيش، أو اعتبرها ضعيفة غير قادرة على صنع القرار بإستثمار القوة العسكرية في السياسة كما يجب، أو مقيدة بما تمليه الولايات المتحدة. وفي مقابل ذلك قدم هو نفسه كرجل الجرأة والعمل المباشر المغبر بجبال البلاد وسهولها، المضرج بجراح إفهام العرب بطريقة القوة أن لا أمل لهم بالانتصار. وهذه كانت وما زالت برأيه مقدمة لأي سلام في المنطقة، انه رجل الميدان والعمل والفعل والإقدام والمبادرة. ولم يعرف الجيش الاسرائيلي في تاريخه رجلاً جسد اسطورة المقاتل الاسرائيلي المولود في البلاد الى "تسابار" واستثمرها بوعي في الاعلام من أجل ترويج آراءه وتحقيق طموحاته السياسية الشخصية وضد من يقف في طريقه ولو كان قائده العسكري نفسه كما فعل ذلك اريئيل شارون.

تبدأ خطة فك الارتباط الشارونية بالكلمات التالية: "1. دولة إسرائيل ملتزمة بعملية السلام على أساس رؤيا الرئيس الأمريكي بوش. ترى إسرائيل أن عليها تحسين الوضع الراهن، وقد وصلت إلى استنتاج انه لا يوجد حاليا شريك فلسطيني يمكن التقدم معه في عملية سلام ثنائية، ولذلك فقد تبلورت خطة فك ارتباط متدرج مبنية على الاعتبارات التالية: أ. الجمود الراهن مضر. ولكي يتم الخروج منه على إسرائيل أن تبادر إلى خطوات غير مشروطة بتعاون فلسطيني. ب. هدف الخطة هو نقل إسرائيل إلى واقع أمني وسياسي واقتصادي وديموغرافي أفضل. ج. في كل اتفاق نهائي مقبل لن يكون هنالك استيطان يهودي في قطاع غزة. ومقابل ذلك فإن مناطق قي يهودا والسامرة (إقرأ: الضفة الغربية) ستكون جزء من دولة إسرائيل، وتتضمن كتلا استيطانية يهودية، ومستوطنات مدنية، ومناطق أمنية ومناطق لإسرائيل فيها مصالح أخرى." خطة فك الارتباط المصححة 28 أيار 2004.)

أوردنا هذا الاقتباس الطويل لأنه في خضم ما هو مبرر للاحتفال ( سحب المستوطنات) وما ليس مبررا للاحتفال (خطأ اعتبار الخطة مجرد اندحار إسرائيلي) قد يتم نسيان الأصل. ولتوضيح هذا الأصل نضيف: 1. إنها مبادرة شارونية لفرض تفسير إسرائيل على خارطة الطريق، أي لكي لا يستغل الجمود السياسي الناجم عن تعنت إسرائيل إلى المزيد من المبادرات الدولية خاصة بعد الاحتلال الأمريكي في العراق واضطرار أميركا لطرح خارطة الطريق من أجل علاقات عامة أفضل في المنطقة . 2. صحيح أن المبادرة تتضمن "تنازلا" عن مستوطنات لا مستقبل لها في غزة، ولكن لغرض ضمان مستقبل مستوطنات كبيرة في الضفة الغربية والقدس. ولهذا الغرض تحديدا لم يشترط شارون تنفيذ الخطة بموافقة عربية أو فلسطينية، بل باتفاق أمريكي إسرائيلي يجنب إسرائيل الضغط الدولي عليها بشأن هذه المستوطنات مستقبلا وأيضا بشأن القدس وحق العودة للاجئين الفلسطينيين. وهذا ما حصل عليه شارون من تبادل الرسائل مع بوش (14 ابريل نيسان 2004). لم يكن هدف الاتصالات التي استمرت ستة أشهر قبل أن يحصل شارون على الضمانات الأمريكية بشأن المسائل أعلاه إقناع أمريكا بالانسحاب من غزة، بل الثمن الذي سوف تتقاضاه إسرائيل. وهذا أيضا ما قصده شارون عندما قال في آخر مقابلة قبل البدء بتنفيذ خطة فك الارتباط لصحيفة "يديعوت احرونوت" ( الجمعة 11آب،أغسطس 2005) انه يفضل التفاوض مع أمريكا على التفاوض مع العرب. 3. وبناء على هذا لا يعني التطوع بإعلان الموافقة العربية أو الفلسطينية على فك الارتباط الكثير. فشارون لم يسأل أحدا رأيه في الموضوع.

الاحتفال الجماهيري برحيل المستوطنات مبرر ومفهوم. أما الموافقة المتبرع بها وغير المطلوبة على خطة فك الارتباط واعتبار شارون رجل سلام فلا هي مبررة ولا مفهومة، بل هي تعبير عن الاندماج في حالة العجز العربي والانسجام معها.

فخطط شارون واضحة ومعلنة، ورسائل بوش واضحة أيضا. ومن يتجاهلها حر أن يخدع نفسه ولكن لا يجوز أن يخدع الناس ففي هذا الإطار يجري تجاهل تكثيف الاستيطان في الضفة الغربية والقدس. 4. بحجة رمي بوش لثقله في مساعدة شارون في المجتمع الإسرائيلي، وفي المقابلة التي خص بها التلفزيون الإسرائيلي وبثها الأخير يوم الجمعة 11 آب أغسطس 2005، قيلت أمور هامة. منها انه سيتم العودة إلى خارطة الطريق بعد تنفيذ خطة فك الارتباط. وقد يعتبر بعض العرب هذا الكلام مشجعا. ولكنه بالضبط ما يقصده شارون عندما يقول إن أي تقدم بعد فك الارتباط مرهون بتقدم السلطة الفلسطينية في مكافحة الإرهاب. ف"تفكيك البنية التحتية للإرهاب" هي بداية خارطة الطريق. ومن جعل تطبيق خارطة الطريق تتويج مطالبه الوطنية لا يعتب على من يطالبه أن يأخذها بجدية. وقد كرر بوش هذا الموقف عدة مرات في نفس المقابلة مؤكدا انه بعد فك الارتباط ينتقل "عبء الإثبات" حول الرغبة بالسلام إلى القيادة الفلسطينية ونيتها "مكافحة الإرهاب". في نفس السياق، وبنفس واحد يتم سؤال بوش حول خططه لإيران.

ويتم التحريض على حزب الله بنية واضحة لفتح ملفات عدة في أيلول في أجواء فك الارتباط وصدم شارون مع المستوطنين. 5. عطفا على هذا الموضوع الأخير يجب أن نذكر أن ما يحكم العلاقات داخل المؤسسة والمجتمع الإسرائيلي هو ليس فقط منطق قوة وخطط شارون وموقف العرب منها. فالمستوطنون يعارضون شارون فعلا. وهم لا يقومون بتمثيلية، بل ينقسمون إلى قسمين. منهم من يدافع عن مستوطنات غزة ليس أملا في إبقائها، بل كخط دفاع أول عن مستوطنات الضفة وموقفهم هذا يفيد شارون على المدى البعيد للصمود أمام أي ضغط دولي، ويساعده أن يشرح للعالم ما يقصده عندما يقول "تنازلات مؤلمة". وجزء آخر من المستوطنين ناقم فعلا على شارون لإخضاعه "مبدأ ساميا" و"فريضة دينية" مثل "الاستيطان في ارض إسرائيل" للبراغماتية السياسية. وهؤلاء مصدومون انطلاقا من عقيدة أو من هستيريا أو غيره. وفي الحالتين لا يجوز اعتبار الشرخ بين شارون والمستوطنين مجرد تمثيلية، كما لا يجوز في الوقت ذاته اعتبار الشرخ دليلا على أن فك الارتباط هو نصر عربي، فهو ليس كذلك.

ربما صدق العرب ما يقولونه عن فك الارتباط وكأنه جزء من خارطة الطريق. ولا بد أنهم يستعينون لكي يصدقوا بمن يعومون على شبر ماء من كتبة اليسار الصهيوني العاجز الباحث عن الدبس حتى في مؤخرة النمس. فليس لدى هؤلاء بعد فشل كامب ديفيد من مشروع سوى شارون. كما أعانتهم أوروبا على الاعتقاد أن شارون قد تغير وذلك بالمال ومعسول الكلام لأنها أيضا عاجزة، والأصح متعاجزة، عن تقديم بديل ما للسياسة الأمريكية، ولأنها غير قادرة ولا راغبة، بموجب الخانة التي موضعت نفسها فيها، بالضغط على شارون فإنها تفضل تجميل صورته، والضغط على نفسها لتتقبله، وتدعو العرب لقبول ما يعرضه شارون صاغرين، وإذا لم يكن انجازا تصوروه انجازا!!

لم يغير جوهر طروحاته منذ نهاية الثمانينات، أي منذ بروز الخيار الفلسطيني بدل الأردني في الانتفاضة الأولى، وفك الارتباط الأردني مع الضفة، وحللنا بما فيه الكفاية استراتيجية شارون التي أدت إلى فك الارتباط، وقد تبين من رد الفعل الدولي ومن تكثيف النشاط الاستيطاني في الضفة الغربية علنا وصراحة، ومن ازدياد الضغط على الفلسطينيين أن شارون يقطف ثمار هذه الاستراتيجية. لم ندع أن شارون لم يتغير تشاؤما أو إيمانا بالسكون، بل لان الأمر يتطلب قراءة مواقفه والتمييز بين الدعاية الانتخابية والمواقف الحقيقية والتغيرات التي طرأت على الموقف العربي من ناحية أخرى.

ولكن ماذا بشأن استراتيجيته هو في المرحلة المقبلة؟ لقد بانت "بشائرها" من رفضه، أو تمنعه، مقابلة الرئيس الفلسطيني، فهل أصبح حتى لقاء شارون مطلبا؟
هذا ما يريده ويبتغيه شارون. وإذا كانت استراتيجية العرب هي الدبلوماسية الأمريكية فلا غرابة أن يفضل شارون التفاوض مع أمريكا مباشرة دون العرب، وهذا ما فعله في خطة فك الارتباط متباهيا. عند ذلك يصبح اللقاء مع العرب تطبيعا تريده إسرائيل من ناحية ولكنها غير مستعدة للتضحية من أجله بشيء من ناحية أخرى.كما يغدو اللقاء تتميم معاملة للقادة أمام شعوبهم أن لهم دور. وشارون يستغل حاجتهم لإثبات ذلك لتقديم طلبات ابتزازية وللتعامل بغرور وتبجح.

تتلخص استراتيجية شارون في المرحلة المقبلة بما يلي: أولا، توسيع وتثبيت التيار المركزي في الشارع الإسرائيلي الذي يتجاوز حدود الأحزاب والذي يؤيد فكرة الانفصال الديموغرافي مع الفلسطينيين بموجب القاعدة التالية: الانفصال عن أكبر عدد من الفلسطينيين على اصغر رقعة من الأرض. على رقعة اكبر في حالة الاتفاق واصغر في حالة عدمه...أو هكذا يهدد شارون على الأقل. طبعا تتفاوت القوى المؤلفة لهذا التيار من حيث حجم رقعة الأرض التي توافق كل منها على " التضحية" بها من أجل التخلص من الفلسطينيين، أو من نظام الأبارتهايد القائم. ولكن إذا احتفل الفلسطينيون بأقل من ذلك أو انصاعوا لإملاءات شارون فلا بأس. هذه قوى لا تبحث عن عدالة ولا إنصاف بل عن انفصال عن الفلسطينيين بالظروف الواقعية المعطاة. ثانيا، توسيع التعاون مع الولايات المتحدة آخذا بعين الاعتبار مهماتها الجديدة في المنطقة منذ العراق. وهذا يعني اضطرار إسرائيل أن تساير أكثر، ولكنها تساير أمريكا أخرى، أمريكا أكثر اتفاقا معها في المسائل الجوهرية، ولذلك فهي تساير تكتيكيا من أجل مكاسب استراتيجية مثل رسالة الضمانات الأميركية لشارون. ثالثا، إشغال الفلسطينيين في المفاوضات حول قضايا من نوع المعابر والحدود في غزة ومرور البشر والبضائع من غزة واليها، ومن نوع الميناء والمطار. حتى ما كان مفروغا منه قبل فك الارتباط لم يعد مفروغا منه. من اجل مثل هذه القضايا سوف يزور المنطقة الوفود والموفدون، وسوف يطالب شارون بالاجتماع لتنسيق مثل هذه الأمور، وعل هذا سوف يتم التفاوض. وهذا يشكل ضغطا بحد ذاته. لم ننته من أمر غزة بعد. ما زال شأنها إذا مفتوحا للتفاوض. رابعا، في هذه الأثناء تبتعد المفاوضات السياسية حول الحل الدائم. وتصبح مشروطة بتنفيذ الفلسطينيين لالتزاماتهم من خارطة الطريق أي الانقضاض على ما يسمى في نصها ب "البنية التحتية للإرهاب". والمقصود هو ضرب خيار الكفاح المسلح. ويعرف شارون أن المنتصر في حرب أهلية فلسطينية هي إسرائيل، وذلك ليس فقط نتيجة للفوضى وإضعاف الحركة الوطنية الفلسطينية بل لأن أي طرف ينتصر سوف يصبح في اليوم التالي أكثر ارتباطا بإسرائيل. خامسا، يتم استثمار فك الارتباط لضغط دولي وعربي على الفلسطينيين في هذا الاتجاه. ( سادسا، في هذه الأثناء تشارك إسرائيل بشكل فعال في محاولة الجمع بين فرض الحصار السياسي الدولي على سوريا مع فرضه على المقاومة في لبنان، وتحين الفرصة التاريخية لنقل زمام المبادرة إلى القوى المعارضة لخيار المقاومة، وتحويل معارضتها إلى معارضة علنية غير خجولة قادرة أن تتحول إلى خيار سياسي لبناني واضح، ويفضل أن يبدو وطني لبناني.)

تستحق هذه الخطة أن تسمى استراتيجية طبعا، خاصة إذا رافقها تكثيف الاستيطان على الأرض، وزيادة استخدام القوة العسكرية، وسعي عربي لإرضاء شارون إرضاءً لأمريكا. ولكنها ليس مضمونة النجاح إذا قابلتها استراتيجية فلسطينية.

الوحدة مثلا تحبط مسعى الحرب الاهلية، وإذا كانت تقوم على استراتيجية مضادة فإنها تحبط خيار القوة الإسرائيلي، وتحول فك الارتباط إلى انسحاب ولو بأثر رجعي، خاصة إذا لم ينجح في تخفيض سقف توقعات الفلسطينيين السياسية المتفق عليها بينهم. تنسيق استراتيجة المقاومة ووسائل عملها مع القرار السياسي المشترك سوف يضطر الأوروبيين إلى توسيع الفجوة بين موقفهم وموقف شارون، وسوف يوقف الهرولة العربية...ويفتح آفاقا للحياة والصمود في الوقت ذاته. شارون ليس كلي القدرة، ما يجعله يبدو كذلك هو غياب الاستراتيجية المقابلة.


بداية تطبيق خطة شارون هو فك الارتباط في غزة في ظروف دولية متغيرة مرة أخرى، أهم جديدها هو تبني السياسة الأمريكية للموقف الإسرائيلي تماما بعد 11 أيلول، واحتلال العراق والانتفاضة الثانية. كل هذه دون تغيير في ثوابت خطة شارون.
لقد شتم شارون رؤساءه أمام مرؤوسيهم، والضباط الأعلى منه رتبه أمام جنوده، والقيادة السياسية امام العسكر، واستخدم الكذب اذا لزم لتغطية مبادراته او لتبريرها امام صناع القرار ولكسب تأييدهم لها. وكان هنالك من القادة العسكريين والسياسيين قي كل حالة من أدعى بأثر رجعي أنه خُدِع وأنه لم يفهم ان شارون سيتفذ ما نفذ عندما وافقه الراي.

ولكن ماذا يفعل في وزارة الزراعة؟ كيف يحول هذه الوزارة الى أداة تقدم؟ كانت كلمة السحر الاستيطان. ومنذ تلك الفترة وحتى اليوم بالإمكان اعتبار شارون أبو الاستيطان وصاحب المبادرات الأساسية فيه.

في أيلول 1977، بعد أربعين يوماً من تعيينه رئيساً لللجنة الوزارية لشؤون الاستيطان، أعلن شارون عن خطة للاستيطان تتلخص بإقامة خط استيطاني داخل الضفة الغربية موازٍ للمدن الاسرائيلية على الساحل، ويتضمن مدناً وتفرعات قروية عنها ومدناً (أقماراً) محيطة بالقدس. وقد يستغرب المرء من شدة الشبه بين برنامج شارون ذاك وبين واقع الاستيطان اليوم.

وطيلة فترة وجوده وزيراُ للزراعة استمر شارون بإعتبار مهمته هي المهمة الأساسية في الدولة. واتهم الوزراء علناً بإهمال الاستيطان معتبراً نفسه حامي حمى الاستيطان اليهودي.

وعندما اجتمعت حكومة اسرائيل يوم 20 تشرين الثاني 1977 لسماع تقرير من رئيسها مناحيم بيغن، استمع شارون لأول مرة عن مضمون اجتماعه السياسي الاول مع السادات في القدس. لم يتم التشاور معه قبل الزيارة كما في حالة ديان. ولم يعرف كيف رتبت زيارة السادات. كما سمع يوم 13 كانون الاول 1977 في اللجنة الوزارية لشؤون الأمن لأول مرة عن برنامج السلام الاسرائيلي الذي قدم لمصر، بما في ذلك موضوع الادارة الذاتية (الاوتونوميا) لسكان الضفة الغربية وقطاع غزة.

وقد تنازل شارون في نهاية الجلسة عن موقفه المعارض في بدايتها للتنازل عن سيناء بكاملها مقابل سلام كامل. وفقط رئيس الأركان مردخاي جور بقي معارضاً للانسحاب الكامل، كما اقتنع شارون بموقف بيغن فيما يتعلق بالحكم الذاتي للفلسطينيين والضمانات التي قدمها للوزراء لكي لا يتحول الى دولة فلسطينية.

في يوم 3 كانون الثاني 1978 نجح شارون بإقناع الحكومة أن توافق على خطة استيطانية تضمنت 3 مستوطنات جديدة في الضفة الغربية كما تضمنت تعزيز المستوطنات القائمة شمالي سيناء قرب رفح بواسطة توسيع مساحة الأرض الزراعية وحفر آبار مياه. والمرحلة مرحلة مفاوضات متقدمة مع مصر. كان الإنطباع الذي تركه شارون عند مستمعيه الوزراء أنه يريد اضافة اراضي للزراعة لغرض إمتحان رد فعل مصر السياسي ومدى قبولها لبقاء المستوطنات القائمة. وقد تحمس بيغن للاختبار.

ولكن شارون أمر في الواقع بتخطيط 23 نقطة استيطانية جديدة (التعبير "مأحاز" الذي يترجم كنقاط استيطانية بالعربية استخدم أيضاُ في تلك الفترة،outpost بالانكليزية).

وفي يوم 6 كانون الثاني استيقظ العالم على أنباء استيطان اسرائيلي واسع في شمال سيناء. وثارت أزمة سياسية في المفاوضات مع مصر. وأنكرت حكومة اسرائيل هذه الأنباء، ووفرت لشارون فرصة أخرى لإتهامها بالتلون السياسي والضعف والتخلي عنه وعن الاستيطان. وقد استمر شارون بإختلاق الأزمات الاستيطانية الى ان ترك عيزر فايتسمان، وزير الأمن المتحمس للسلام مع مصر، الحكومة في نهاية عام 1980، فاسحا المجال لشارون ليصبح وزيراً للأمن بعد الانتخابات عام 81.

وعندما طلب من شارون ان يتدخل في مفاوضات كامب ديفيد بالاتصال مع بيغن لإقناعه بالتنازل عن المستوطنات في سيناء، بما فيها يميت، اذا كانت هذه العقبة الوحيدة، وكل ما عداها متفق عليه- فعل ذلك. فمشاركته والتشاور معه شخصياً في المفاوضات يجعل مواقفه أكثر مرونة، شارون رافض بالكامل عندما لا يكون مشاركا. هكذا أيضاً تصرف شارون في مفاوضات "واي" وكانت أداة الضغط في "واي" أيضاً هي الاستيطان.

لقد وجه شارون وزير خارجية نتنياهو في حينه نداء الى المستوطنين لإحتلال التلال وبناء النقاط الاستيطانية بينما كان نتنياهو يفاوض عرفات في "واي" في تشرين الأول عام 1998. ولكن عندما طلب منه الحضور الى هناك فإنه حضر وبارك الاتفاقيات عملياً، بما في ذلك الانسحاب، اعادة الانتشار، من بعض احياء الخليل.

ولكن في فترة رئاسته للحكومة لا يشارك شارون في المفاوضات فحسب بل هو الذي يديرها، هو صاحب القرار. وبموجب هذه الفرضية يجب أن يصبح أكثر مرونة. ومع ذلك نجده يقول ان ازالة مستوطنة يميت في شمال سيناء كان خطأ ، ويكرر ذلك بعد أن أصبح رئيساً منتخباً لحكومة اسرائيل: "لا أرى سبباً لتفكيك المستوطنات طالما لا يوجد سلام. فإننا على أي حال موجودون هناك. وإذا حل السلام مع مرور الزمن فمن الطبيعي أنه لا مانع ان تبقى المستوطنات ... ألن تكرر حالة يميت؟ لا، بالتأكيد لا."

للتدليل على التغيرات التي مر بها المجتمع الإسرائيلي منذ تلك الفترة نجد أن شارون العسكري اليميني يساير متطلبات اللياقة السياسية فعندما تولى رئاسة الحكومة بعد فوزه في الانتخابات على باراك فان أول اجتماع عقده كان مع ممثلات للوبي النساء في إسرائيل، وكانت أول زيارة له كرئيس حكومة إلى ملجأ للنساء اللواتي يتعرضن للضرب من أزواجهن في تل أبيب يوم 15 شباط 2001 وأكد في هذه الزيارة أن في حكومته سوف يتبوأ عدد أكبر من النساء مناصب وزارية.

وتشكل هذه الخطوة الشارونية دليلا على اضطرار رئيس الحكومة الإسرائيلية ان يساير التغيرات في المجتمع الإسرائيلية ولكنها أيضا دليل على كون هذه التغيرات في إطار القبيلة بحيث يستطيع رئيس حكومة يميني بكافة المقاييس أن يحتويها دون أن يغير سياسته بالضرورة. كانت نبرة شارون هذه هي محاولته لتحييد القوى اللبرالية الإسرائيلية الني خاب أملها من الفلسطينيين في كامب ديفيد والمستعدة للتسامح مع سياسات القوة التي يبشر بها تجاه الشعب الفلسطيني في مقابل ظهوره بمظهر لائق سياسيا في قضايا داخلية تهم القوى اللبرالية الإسرائيلية. وخلافا لنتنياهو لم يضع شارون نفسه في مواجهة النخب القديمة في قضايا السياسة الداخلية ولم يدخل في مواجهة مع الجهاز القضائي. ولذلك فضلته القوى المؤيدة لحزب العمل وحتى لحزب "ميرتس" على نتنياهو. انه أهون الشرين بالنسبة لها في قضايا السياسة الداخلية ويبقى احد الوجوه المألوفة وبإمكانه أن يفتخر وان يفتخر معه شمعون بيرس بالصداقة الشخصية التي تجمعهما.

لقد عين شارون وزيرا عربيا (درزيا خدم في الجيش) في حكومته الأولى كدليل على أن المهم بالنسبة له هو الولاء السياسي وليس لديه موقف عنصري من عرب موالين سياسيا.

لقد أصبح شارون أكثر مرونة وأكثر ثقة بالنفس ولم يعد بحاجة الى اطلاق التصريحات الديماغوغية بغرض التقدم جماهيريا ضد خصومه او ضد العوائق التي تحول دونه ودون المنصب. انه يحول المسائل المبدئية ببراعة إلى شكليات. ولكن يتضح أيضاً أن هنالك حدود لمرونة شارون النابعة من وجوده ومشاركته في عملية صنع القرار، كما ترتسم حدود لتأثير رغبته بالمناكفة والتشهير بغيره لغرض شق طريقه الى المناصب التي ارادها في حالة استبعادة. تأثير الوصولية والانتهازية كان إذا قائما في فترة وجوده في المعارضة، ولكنه لا يفسر كل شيء.

وقد أكد شارون بعد وصوله السلطة أنه لم يغير رأيه في الموضوع الفلسطيني: " لم أغير وجهة نظري..الأمر الوحيد الذي غيرته هو رأيي ان الاردن هي فلسطين. وقد حصل التغيير فقط لأنه تطورت حقائق على الارض. لم أرغب أبداً ان تكون هنالك دولتين فلسطينيتين. هذا هو التغيير الوحيد في الموقف." ولكن موقفه من الدولة، أو الكيان الفلسطيني على رقعة صغيرة من الأرض سوية مع الفصل الديموغرافي يدفع دون شك باتجاه الكيان الفلسطيني الأردني. أي انه لم يغير رأيه تماما حتى بالنسبة لاعتبار الأردن هي فلسطين. ومن الواضح أن شارون يفضل اتفاق "لا حرب" مرحلي طويل المدى ترافقه تنازلات اسرائيلية محدودة على اتفاق سلام دائم مع العرب. لأن رأيه، مثل رأي كسينجر، أن هذا اكثر واقعية من اتفاقيات السلام الدائم. وهو لا يتضمن ازالة مستوطنات، كما كان من المفضل التوصل الى اتفاق "لا حرب" مع مصر بدون ازالة مستوطنات شمال سيناء، ومنها يميت. وهو مثل كسنجر لا يعتبر السلام مع مصر سلاما دائما يستحق مثل هذه "التضحية" بالاستيطان، انه في الواقع اتفاق لا حرب... ولكنه اتفاق والقصد ان شارون يرفض الانسحابات من طرف واحد.

اما السلام الدائم فممكن برأيه فقط عندما لا يعترف العرب بإسرائيل كحقيقة قائمة كما في اتفاقيات كامب ديفيد مثلا، بل عندما يعترفون بان لليهود حق تاريخي باقامة دولة في هذه البلاد. هذا هو شرط الحل الدائم وليس هذه التنازلات او تلك. وقد برر شارون في مقابلة أجراها مع يديعوت احرونوت موقفه المعارض للبحث العقيم عن حل دائم بموقف هنري كسنجر الذي سأله مندهشا لماذا وافق على تفكيك المستوطنات في سيناء في اطار اتفاقية السلام مع مصر؟ فاجابه شارون على ذمة شارون، ذمة الراوي، انه دون ذلك لم يكن بالامكان التوصل الى سلام دائم فاجابه كسنجر متسائلا: وهل تسمي علاقتكم الحالية مع مصر سلاما دائما؟

حالة اللاحرب مع الفلسطينيين كحالة اتفاق تتضمن برأي شارون دولة فلسطينية "في حدود اتفاق واي، تضاف اليه اعادة الانتشارالثالثة، لتصل الى 42% من الأرض بإتفاق ونتيجة مفاوضات، اي ليس من طرف واحد. "وتكون هذه الدولة مقيدة محددة منزوعة السلاح، خلافاً للوضع اليوم، ولها قوات شرطة فقط مع السلاح اللازم للحفاظ على الأمن، وتحافظ اسرائيل لسنوات طويلة على حدودها الخارجية، لا توقع دولة كهذه على تحالفات مع دول معادية لإسرائيل، ومن حق اسرائيل الطيران في أجوائها، وما دام لا مس بأمن اسرائيل فلا مشكلة عندي." يضاف إلى هذا الوصف الحفاظ على تواصل اقليمي فيها وايجاد حل لقضية الحواجز الاسرائيلية، فبرأيه هذه هي المسائل التي تزعج الفلسطينيين في حياتهم اليومية.

لنعد إلى جذور أفكار شارون في الكيان الفلسطيني. كان شارون قد أيّد فكرة الحكم الذاتي في الضفة الغربية وقطاع غزة كما عرضها بيغن، وجعلهما محور افكاره السياسية المتشعبة في القضية الفلسطينية خاصة بعد حرب لبنان 1982 والتي فشل فيها بتهجير الفلسطينيين الى الاردن بالتواطئ مع المليشيات اللبنانية المعنية بتهجيرهم. وبينما كان الهجوم الاسرائيلي على لبنان في اوجه كان شارون قد فضح العلاقة بين تلك الحرب وخطة الحكم الذاتي من كامب ديفيد. وهكذا صرح في مؤتمر صحفي من يوم 21 حزيران 1982 قبل انقضاء اسبوعين على بدء الحرب:"على سكان يهودا والسامرة وقطاع غزة ان يفهموا الآن انه لا يوجد الآن سواهم من يحل لهم مشاكلهم. تفهم العديد من الشخصيات كما يفهم السكان حاليا ان الطريق إلى السلام هو مفاوضات مباشرة بينهم وبين اسرائيل...هذه القضية متعلقة معلقة الى ان يتضح الى اي مدى يقطع رأس م.ت.ف. .. انا اعتقد ان عرب يهودا والسامرة وغزة سوف يجرون مفاوضات، وفي الأيام القادمة بعد ان تهدأ الجبهة سوف نبدأ بهجوم سلام على غرب المناطق في محاولة لايجاد اتصال مركز معهم من اجل الحوار لاقامة حكم ذاتي ، اوتونوميا" .

وما لم يتوقعه شارون ان حرب لبنان سوف تستورد مركز ثقل منظمة التحرير إلى الأراضي المحتلة عام 67 فتؤدي عكس غرضها المعلن، ولكن سوء إدارة الصراع في الانتفاضة الأولى وحرب الخليج الثانية ضربت منظمة التحرير الى الحد الذي جعلها هي تضطلع بمهمة التفاوض بالشروط التي وضعها شارون في حينه لتبدو حرب لبنان كأنها نجحت. ولكن من الواضح ما الذي تعنيه حرب شارون ضد الفلسطينيين والى اين من المفترض ان تؤدي.

و بعد اقل من سته اشهر على هذا المقال الذي نشره عام 1982 نجده يصرح انه مستعد بسرور ان يفاوض الاردن على اساس برنامج الاوتونوميا من كامب ديفيد. وفي فترة لاحقة يبلور شارون تصوره للحل مع الفلسطينيين بشكل أدق يوجب برأينا فهم موقفه من الدولة الفلسطينية في فترة حكمه على ضوء هذا التطور من العام 1988 عندما كتب شارون حول الحكم الذاتي الفلسطيني وعلاقته بالأردن ما يلي : " أنا شخصياً اؤمن ببرنامج الاوتونوميا كجسر سلام بيننا وبين الدولة الفلسطينية القائمة في الاردن. في المستقبل الأبعد سوف تقود الاوتونوميا الى فدرالية او كونفردالية اسرائيلية فلسطينية على ضفتي الأردن." وخلافا لما يعتقد البعض فان شارون قصد ويقصد ان الاردن هي الدولة الفلسطينية ولكن ليس بالضرورة بمعنى تغيير النظام السائد في المملكة الاردنية، فلا يهمه ولم يهمه في يوم من الايام ان تكون الدولة الفلسطينية مملكة هاشمية طالما وجد الفلسطينيون في الضفة والقطاع تعبيرهم فيها. ويعرف شارون تمام المعرفة ان الدولة الفلسطينية بالمواصفات التي يقصدها والتي طرحها رسميا لاول مرة في خطابه في اللطرون عام 2001 قبل أن يطرحها بوش لا يمكن ان تعيش الا من خلال علاقة مع شرق الاردن، وهذا هو الاساس: ان يتم الفصل الديموغرافي مع اسرائيل السيادية بشروطها الامنية والتاريخية ( القومية الرمزية الطابع) وان تكون العلاقة السيادية مع شرقي الاردن. بهذا المعنى لم يغير شارون كثيرا من عقلية المؤسسة الصهيونية التي نمى وترعرع فيها، عقلية بن غوريون ومباي عموما التي سيطرت على ثقافة ضباط الجيش اولئك الذين انعطفوا في السياسة بعد الخدمة العسكرية يسارا او يمينا. ولذلك يقول شارون في مرحلة مبكرة عام 1980 داعيا الملك حسين الى لقاء مباشر:" لم اقل انه يجب تحويل الاردن الى دولة فلسطينية، وانما ان الاردن هو دولة فلسطينية، 60% من سكانها فلسطينيون" والقصد هو انه لا يدعو الى عمل فاعل في الاردن تغييرا او قلبا للنظام وانما ان تعتبر المملكة كما هي دولة فلسطينية ولا تشغله بعد ذلك مسألة طبيعة النظام فيها.

وفي مقال نشره في مرحلة بداية الانتفاضة الاولى التي دعى شارون بإستمرار لاستخدام يد حديدية لقمعها، فصّل شارون "شروط الاطار" التي يجب على اسرائيل ان توضحها للامريكان كشروط لاي تسوية مقبلة: "القدس الموحدة عاصمة اسرائيل الأبدية، يشكل نهر الاردن حدوداً امنية شرقية لإسرائيل (لاحظ ليس حدوداً سياسية!! ع.ب.)، لن يوجد جيش آخر غير الجيش الاسرائيلي غربي الاردن، اسرائيل هي المسؤولة عن الامن الداخلي والخارجي في كل "ارض اسرائيل الغربية" (كل ما يقع غربي نهر الأردن)، لن تكون هنالك سيادة في "يهودا والسامرة وغزة"، لن تقوم دولة فلسطينية ثانية غربي النهر، يجب حل قضية اللاجئين الفلسطينيين عربياً، الجولان جزء من ارض اسرائيل". في نهاية مقاله يقول شارون "يمكّن اقتراحي في المستقبل من تطبيق خط الليكود؛ دولة فلسطينية في الاردن وادارة ذاتية بموجب كامب ديفيد، كمرحلة انتقالية (ليس في كل المناطق) وتطبيق خط حزب العمل (اذا فازت في الانتخابات في المستقبل) بالتوصل إلى تسوية اراضيterritorial compromise". لا يترك هذا الاطار مجالاً إلا للحكم الذاتي للفلسطينيين، أقرأ دولة بلغة شارون في الحكم، بالاتصال مع "دولتهم الفلسطينية في الاردن".

متى بدأ التغيير؟ مع استمرار الانتفاضة الاولى واعلان الاردن فك الارتباط بالضفة الغربية وقطاع غزة من طرف واحد. عندها اقترح شارون بشكل عيني ما يجمع بين برنامجي الليكود والعمل. لقد تحدى حزب العمل في مقال هام أتبعه بمؤتمر صحفي أثار الانتباه، اقترح رامياً قفازة بوجه هذا الحزب الرد على خطوة الاردن هذه بضم المناطق غير الخاضعة لتسوية الاراضي مع الاردن الى إسرائيل من طرف واحد. لقد تبنى شارون خطة "ألون" عملياً اذ اقترح ضم أراضي بموجبها لإسرائيل ولتنازل عن الراضي التي اقترح ألون التنازل عنها للفلسطينيين انفسهم بدلاً عن الأردن.

لقد سحب الملك في حينه البساط اذاً من تحت أرجل خيار حزب العمل الاردني، خيار ألون، الذي دعا الى اعادة المناطق المكتظة بالسكان الى الاردن. واقترح شارون عملياً استباق ولادة الخيار الفلسطيني على أنقاض الأردني بتحديد مكانه في مناطق "خطة الون"، وضم ما تبقى لإسرائيل. وإذا فحصنا الموضوع جيداً نجد أن المناطق التي افردها شارون في حينه للخيار الفلسطيني، استباقاً لمحاولات م. ت. ف. ان تحل محل الاردن هي المناطق التي تشكل 42% من الضفة الغربية وقطاع غزة. مع الفرق اولا: ان م. ت. ف. حلت محل الاردن في اتفاقيات اوسلو، وهذا واقع قائم بالنسبة لشارون ورثه عن رابين وثانيا: أن الحديث يتم الآن عن دولة وليس عن حكم ذاتي.

ولكن لو فحصنا مفهوم الدولة عند شارون حالياً نجد أنه يضيف الى مفهومه عن "الحكم الذاتي" ان يتولى الفلسطينيون شؤون الأمن الداخلي وان تكون لديهم مظاهر سيادة.
.

التعليقات