صندوق البوادر: من العُب للجيمي (تحقيق)

كان انطلاق صندوق "البوادر" قبل خمس سنوات تتويجا لجهود متواصلة ونوايا صادقة لعدد غير قليل من الجهات. التوقعات كانت كبيرة، وبحجمها كانت خيبة الأمل: أقل من خمسين مليون شيكل استثمارات، مئات المبادرين المحبطين، ودليل جديد على فقدان الثقة بالنوايا الحكومية

صندوق البوادر: من العُب للجيمي (تحقيق)

إدارة صندوق البوادر من اليسار إلى اليمين: حيمي بيرس، رامي كاليش، جيمي ليفي وإيهاب فرح (تصوير: كالكاليست)

كان انطلاق صندوق 'البوادر' قبل خمس سنوات تتويجا لجهود متواصلة ونوايا صادقة لعدد غير قليل من الجهات. التوقعات كانت كبيرة، وبحجمها كانت خيبة الأمل: أقل من خمسين مليون شيكل استثمارات، مئات المبادرين المحبطين، ودليل جديد على فقدان الثقة بالنوايا الحكومية، أما لقلة قليلة جدا كان الصندوق فرصة لجني الملايين ذلك لأن المصاريف الإدارية بلغت أكثر من 22 مليون شيكل، منها أكثر من 8 ملايين شيقل لجيب مدير الصندوق  - جيمي ليفي.

كان إطلاق صندوق البوادر من أهم الأحداث المتعقلة بالاقتصاد العربي في إسرائيل سنة 2010. وشاءت الصُدف أن يتم إطلاق الصندوق في أشد السنوات حلكة على الاقتصاد الإسرائيلي والعالمي على وجه العموم، جراء الأزمة الاقتصادية التي ضربت الأسواق العالمية سنة 2008 وعواقبها السلبية التي امتدت لسنوات غير قليلة. الجهة الرئيسية التي وقفت وراء فكرة إنشاء صندوق البوادر كانت سلطة التطوير الاقتصادي للأقليات في مكتب رئيس الحكومة، حيث بادر رئيسها، أيمن سيف، إلى دفع المشروع وتحصيل الميزانيات المطلوبة من الجهات المختلفة لتنفيذه.

الرؤيا العامة التي بلورها سيف كانت كما يلي: تأسيس صندوق استثماري تُشارك فيه الدولة من جهة، وجهات خاصة من جهة أخرى، ويكون هدف الصندوق الأساسي تمكين وتطوير الاقتصاد العربي في إسرائيل من خلال الاستثمار في الصناعة العربية القائمة وأيضا الاستثمار في مشاريع ومبادرات جديدة في قطاع الهايتك (الصناعات فائقة التقنية) بالشراكة مع رجال أعمال ومبادرين عرب، على أمل أن تؤدي هذه الاستثمارات إلى تقليص الفجوات الاقتصادية والتنموية مع الاقتصاد الإسرائيلي.

 وفي إطار هذا المشروع تعهدت الحكومة بضخ 80 مليون شيقل لصندوق رأس مال مخاطر (انظر الإطار) تُشرف على إدارته جهة خبيرة من قطاع الاستثمارات في رأس مال المخاطر، وبشرط أن تُجند الجهة المذكورة مبلغ لا يقل عن حصة الحكومة في الصندوق.

 نظريا كان من المفترض أن يعمل الصندوق، الذي حصل لاحقا على اسم 'البوادر'، تماما كما الصناديق الخاصة: العثور على شركات ومبادرات/ مبادرين واعدة في مجالات معينة، فحص فرص نجاحها والاستثمار فيها لمدة خمس سنوات على الأقل على أمل أن تحصل الشركة على استثمارات جديدة أو أن تُباع لجهة معينة في إطار ما يُسمى 'إكزيت' (Exit)، فيستعيد المستثمرون ما استثمروه بإضافة الأرباح. وعلى الرغم من أن طريقة الاستثمار هذه واسعة الانتشار في السوق الإسرائيلي والعالمي إلا أنها غير مألوفة في الاقتصاد العربي في إسرائيل، لهذا كان صندوق البوادر الأول من نوعه للعرب.

نموذج تأسيس صندوق استثماري تُبادر إليه الدولة بالشراكة مع جهات من القطاع الخاص ليس بالنموذج الجديد. في إسرائيل بدأ قطاع صناديق الاستثمار طريقة في بداية تسعينات القرن الماضي من خلال تأسيس صندوق 'يوزماه' (יוזמה)، حيث استثمرت الدولة في إطار نشاط الصندوق وصناديق أخرى مشابهة أكثر من 100 مليون دولار، فوضعت أسس قطاع صناديق رأس المال المخاطر في إسرائيل والتي تعتبر اليوم من أنجح القطاعات على مستوى العالم، والتي هي وقود صناعة الهايتك بمختلف مجالاتها.

استنادا إلى نموذج 'يوزماه'، وبعد عمل مكثف بقيادة أيمن سيف، أعلنت سلطة التطوير الاقتصادي في حزيران 2009 عن مناقصة لتأسيس وإدارة صندوق استثماري تستثمر فيه الدولة 80 مليون شاقل، وجهة من القطاع الخاص بنفس المبلغ على الأقل. تقدمت للمناقصة 12 مجموعة، لكن المجموعة الوحيدة التي استجابت لشروط المناقصة كانت مجموعة 'بيتانغو'، التي تُمثل أكبر صندوق رأسمال مخاطر في إسرائيل، حيث نجحت الأخيرة في تجنيد 97 مليون شيقل من أفراد ومؤسسات مُختلفة، ففازت بالمناقصة وتم تأسيس صندوق البوادر برأسمال أولي بلغ 177 مليون شاقل.

جاء الفرج؟

بالنسبة للمبادرين ورجال الأعمال العرب حمل صندوق البوادر آمالا وتوقعات كبيرة جدا. بالنسبة لرجال الأعمال الذين يملكون ويديرون نشاطات تجارية وصناعية متوسطة وكبيرة، كان من المفترض أن يُشكل البوادر جهة استثمارية جديدة تعرض على الشركات والمصانع القائمة بدائل تمويلية للبنوك التي كانت، ولا تزال، الجهة التمويلية الوحيدة المتوفرة لقطاع الأعمال العربي. النموذج معروف، يستثمر الصندوق في الشركة القائمة مبلغ مالي كبير نسبيا مقابل حصة في الملكية وتأثير في الإدارة الجارية. بالنسبة للمبادرين أصحاب الأفكار والمشاريع الجديدة، خاصة في مجال الهايتك، فقد تم التعامل مع البوادر على أنها 'رافعة' الهايتك العربي وجسر الوصول إلى صناعة الهايتك الإسرائيلية بل والعالمية. فرضية مبادري الهايتك العرب كانت في مكانها، فلا وجود لأي صناعة تكنولوجيا متطورة بدون وجود صناديق استثمار توفر الدعم والتمويل مقابل حصة في الملكية.

مع إطلاق الصندوق تم تعيين مديرين شريكين للبوادر، الأول جيمي ليفي، وهو يهودي يحمل الجنسية الكندية وموظف سابق في شركة كومبرس (Comvers) ومن مؤسسي شركة جليل سوفتوير في الناصرة، والمحامي حبيب حزان، مستشار سابق في شركة الاستشارات العالمية ماكينزي وIBM. أما مكاتب الصندوق فكانت في الناصرة.

على مستوى التصريحات صرحت إدارة الصندوق أنها تنوي الاستثمار في 20- 30 شركة، وبأن نصف الاستثمارات ستوجه للصناعات التقليدية، والنصف الآخر لمبادرات وشركات في قطاع التكنولوجيا. على الرغم من الجوانب التنموية التي تقف وراء تأسيس الصندوق، كما أعلنت عنها سلطة التطوير الاقتصادي، والحاجة الماسة لهذا النوع من الصناديق للاقتصاد العربي، أصرت إدارة البوادر على أن تتصرف كأي صندوق استثماري آخر، أي أن الجانب الأساسي الذي سيتم فحصه عند الأعمال القائمة أو المشاريع الجديدة هو الجانب التجاري فقط. بكلمات أخرى، الهدف الأول للصندوق هو تحقيق الربح للمستثمرين دون أن يكون لجانب تنمية وتطوير الاقتصاد العربي أهمية تُذكر. بالإضافة إلى ذلك حصل الصندوق الجديد على نوع من الحصانة تسمح له بعدم تقديم أي معلومات حول نشاطه واستثماراته، على الرغم من أن نصف رأسمال الصندوق هو مال عام يخضع لقواعد الإفصاح.

راح الفرج!

مع انتهاء 'عجقة' الانطلاق، افتتاح المكاتب في الناصرة وتجنيد طاقم الموظفين المطلوب، بدأ مشوار البحث عن فرص ومبادرات عربية تصلح للاستثمار. بحسب تقرير صحيفة 'دا ماركر' المنشور مؤخرا حول أداء صندوق البوادر، ورد أن إدارة الصندوق التقت خلال السنة الأولى لعملها 300 مبادر ورجل أعمال من المجتمع العربي، ولم تستثمر في أي منهم. في سنة 2011 تم الاستثمار في مشروعين، والسنة التي تلتها في 5 مشاريع. ومنذ 2013 وحتى مطلع 2015 لم يقم الصندوق بأي استثمار يُذكر. المشاريع السبعة التي حصلت على استثمارات من البوادر كانت جميعها في مجال الهايتك. مشروع واحد فقط، شركة داتوميت والتي أسسها المهندس جاد جروش، بُني على أساس تطوير تقنيات جديدة ومبتكرة، باقي المشاريع كانت مشاريع لمواقع انترنت موجهة بالأساس للعالم العربي.

في أواخر 2014 تم إغلاق شركتين على خلفية فشلهما في تجنيد رأسمال إضافي وعدم رغبة البوادر في الاستثمار مجددا فيهما.

خلال خمس سنوات عمله، لم يستثمر الصندوق في أي مشروع أو شركة جديدة أو قائمة في قطاع الصناعة أو الخدمات في المجتمع العربي. المحامي طارق بشير الذي رافق عدد من المصالح العربية خلال اتصالها بالبوادر يعقب على هذا الأمر قائلا إن 'وجود صندوق استثمار واحد بدون وجود صندوق منافس بالإضافة إلى عدم وجود الدراية الكافية عند إدارة الصندوق حول مميزات الاقتصاد العربي في إسرائيل أديا إلى عدم القيام بأي استثمار'، ويضيف بأن الشروط التي وضعها الصندوق للقيام بالاستثمار كان يصعب قبولها من قبل رجال الأعمال العرب. فمثلا كان الصندوق يطلب أن تكون له أغلبية في مجلس إدارة الشركة مع أن حجم الاستثمار في الشركة هو 30% فقط من رأسمالها. بالإضافة إلى ذلك يقول بشير أن تقدير الصندوق للقيمة السوقية للشركات كان دائما أقل بكثير من القيمة التي يراها أصحاب الشركات، ويؤكد: 'قد تكون الاعتبارات التي فرضها الصندوق مقبولة ومتعارف عليها في أماكن أخرى، لكنها لا تصلح لقطاع الأعمال العربي في البلاد.

 في هذا السياق، قال حبيب حزان، المدير المشارك للصندوق حتى 2013، إن طبيعة المصالح العربية التي تتميز بكونها مصالح عائلية كانت في الغالب إشكالية، إذ كان يصعب، على حد قوله، على إدارة الشركة قبول دخول جهة غريبة تملك صلاحيات وتُساءل وتقرر في بعض الأحيان.

أما بخصوص فشل الصندوق في الاستثمار في مشاريع ومبادرات تكنولوجية عربية فيرى الكثيرون أن السبب الأساسي يعود لعدم ملائمة هيكلية الصندوق ومتطلباته مع واقع واحتياجات المبادرين العرب في قطاع الهايتك. 'البوادر أراد منذ البداية الاستثمار بمبالغ كبيرة، مليون دولار على الأقل، في مبادرات تكنولوجية واعدة'، يقول أحد المُقربين للصندوق، 'لكن واقع قطاع الهايتك العربي في إسرائيل ليس جاهزا في كثير من الحالات لمثل هذه الاستثمارات. بعض المبادرات كانت في طور الفكرة وكانت تحتاج إلى مبالغ أقل بكثير فقط لبناء منتج أولي وما شابه، بالنسبة للبوادر هذه المبادرات كانت خارج نطاق عمله ولم تستفد من وجود الصندوق. 'مبادرون آخرون فضلوا عدم ذكر اسمهم قالوا أن طريقة تعامل البوادر معهم كانت شاقة وطويلة ودون أي نتيجة. 'مماطلة الصندوق في تعاملهم معي كانت غير معقولة. 'دراسة مشروعي وتقييم قيمته وما إلى ذلك من فحوصات استغرقت سنة كاملة وعشرات الاجتماعات والجلسات ليقرروا في النهاية أن المشروع لا يناسبهم' يقول أحد المبادرين الذين توجهوا للبوادر للحصول على استثمار.

22 مليون أتعاب إدارية

مقابل أعمال الإدارة حصلت شركة إدارة صندوق البوادر سنويا على 2.5% من رأسمال الصندوق، أي نحو 4.5 مليون شاقل في السنة، نصفها يذهب لصندوق بيتانغو (50%) و37.5% لجيمي ليفي. يُذكر أن نسبة مصاريف الإدارة المتعارف عليها في قطاع صناديق الاستثمار لا تختلف عن النسبة في حالة البوادر. ترجمة هذه النسب إلى مبالغ مالية تُظهر أن أتعاب الإدارة التي تقاضتها شركة إدارة البوادر بلغت نحو 22 مليون شاقل خلال 5 سنوات عمل، راح منها، بحسب تقرير دا ماركر، أكثر من 8 ملايين شيقل لجيب مدير الصندوق جيمي ليفي. 45% من رسوم الإدارة، 10 ملايين شاقل، دُفعت من خزينة الدولة، والباقي على حساب الجهات التي استثمرت في الصندوق (رجال أعمال، مؤسسات مالية وما شابه). حيمي بيرس أكد لصحيفة دا ماركر في هذا السياق بأن رسوم الإدارة ستنخفض بشكل حاد في السنوات القادمة وستُشكل 2% من قيمة الأموال التي تم استثمارها، أي أن عوائد رسوم الإدارة ستقل جدا.

النتيجة: فقدان ثقة متبادل

في أواخر شهر آذار (مارس) المنصرم انتهت الفترة الزمنية التي يحق فيها للصندوق القيام باستثمارات جديدة في مشاريع جديدة. بموجب اتفاقية عمل الصندوق يمُكنه الآن القيام باستثمارات تكميلية في الشركات التي استثمر بها خلال السنوات الخمس الأخيرة، أي في ست شركات فقط. في هذه المرحلة يجب طرح السؤال المركزي؛ هل يمكن اعتبار البوادر مشروع ناجح أم فاشل؟ من جهة الصندوق يدعي حيمي بيرس أن الصندوق نجح مبدئيا بمهمته واستثمر في مبادرين عرب وأنه 'يجب أن نتذكر أن الصندوق عمل في بيئة جديدة لم يكن لها أي تجربة سابقة في عالم رأس مال المخاطر'.

حبيب حزان أكد في تقرير 'دا ماركر' أنه يكفي أن تقوم شركة وحدة من شركات الصندوق بعمل 'Exit' (بيعها لجهة معينة) ليُحقق الصندوق المكاسب المرجوة للمستثمرين. في نفس التقرير يعتقد أيمن سيف أن النجاح الأهم للصندوق هو في بناءه لما يُسمى EcoSystem، أي بيئة حاضنة، لمبادرين ورجال أعمال عرب. 'قد تكون الأرقام التي قدمها الصندوق صغيرة لكن التأثير كبير. العالم يعرف الآن حجم الطاقة الكامنة في المجتمع العربي'، يقول سيف.

في المقابل تحتد نبرة النقد والانتقاد من أطراف عديدة. مبادرون عرب شباب أكدوا لـ'مالكم' أن طريقة تعامل البوادر معهم جعلتهم يفقدون الثقة بأي مشروع مشابه وبكل مبدأ رأسمال المخاطر. 'تلهف الصندوق من مشروعي في بداية الطريق جعلني أومن حقا بأن نواياهم صادقة، لكن العقبات التي كانوا يضعونها في الطريق طوال سنة ونصف من المفاوضات جعلتني أقتنع في نهاية المطاف أنهم غير جديون أبدا ففضلت أن أنسحب، لو كانت عملية الفحص والتفاوض أقصر وأنجع من ذلك لكان مشروعي يعمل الآن ويُشغل العشرات من أبناء مجتمعنا'، يقول أحد المبادرين الذي تقدم للصندوق بهدف الحصول على استثمار لمشروعه في مجال الميديا.

أحد الشخصيات اليهودية الفاعلة في قطاع رأسمال المخاطر في إسرائيل قال لـ'مالكم' بأن الفشل الأكبر للصندوق يكمن في فقده لثقة المبادرين العرب من جهة وللمستثمرين من جهة أخرى. 'موضوع الأتعاب الإدارية ليس هو المشكلة إنما يجب السؤال حول أسلوب الإدارة وأسباب عدم القيام باستثمارات إضافية وإسقاطات ذلك على مستقبل اقتصاد المجتمع العربي'.

نصري سعيد، مؤسس ومدير عام مُشارك للصندوق الاستثماري NGT3VC في الناصرة يؤكد هو الآخر على موضوع فقدان الثقة 'منذ 15 سنة جاري العمل من اجل إقناع أصحاب رؤوس الأموال والمستثمرين في المركز بأن الاقتصاد العربي جاهز للحصول على استثمارات كبيرة في شتى المجالات، وخاصة الهايتك، فشل البوادر في تحقيق هدفها يُبعد أي فرصة لاستثمارات جديدة كبيرة من أصحاب رأس المال. سوف نحتاج لسنوات طويلة لاستعادة ثقة المُستثمرين بأن مجتمعنا العربي يزخر بالطاقات والقدرات البشرية، هذا هو الفشل الأكبر على المدى البعيد'. بالإضافة إلى ذلك يقول سعيد أن الادعاء بأن الصندوق نجح في بناء 'إكوسيستم' هو ادعاء لا يخلو من المبالغة لأن قسم كبير من المشاريع التي استثمر فيها الصندوق لا تعمل في المجتمع العربي بل في الخارج ولا تطور بالضرورة قدرات بشرية محلية، ويضيف 'العديد من المؤسسات والجمعيات والشركات التي تبني قطاع الهايتك عندنا قامت قبل وبعد البوادر ولها دور مركزي في إنشاء قطاع تكنولوجيا عربي ومساهمة البوادر في هذا الشأن محدودة للغاية'. 

التعليقات