" ذكريات خاصة "/الاسير، بشر المقت*


الأسُرعالم بذاته , وحياةٌ خارج منطقها , تنبضُ بالحياةِ والأمل , وتبعثُ لحظاتٌ تتوالى من الهمومِ والقلق , وأيامٌ تزاحم السنين وراء العتمة , صرخةُ الحدث أسمعت الدنيا كلها, ومعايشةُ الجرح النازف أدمتْ قلوباً وضمائر وتعالت بكبرياءٍ تروي حكايةَ الحرية منذ البداية , ثقةٌ بقوةِ الحق أعطت سر التواصل ورمزية المعنى خلف الجدران والقيود , جيلٌ مضى تحت التراب في الأمكنةِ المحاصرةِ الحزينةِ وأخر يواصلُ زمانهُ لفجرٍ نديّ سوف يأتي بعد هذا الظلام الأخير .

هنا في سجون الإحتلال حالةٌ إستثنائيةٌ عن باقي سجون العالم , فهي إنعكاس لقصةِ شعب حُر يُراد له أن يبقى مأسوراً , لكنهُ تمرد على أسره وثار منتفضاً يفكُ أغلال قيودهِ بنفسه , ويوماً بعد أخر ضجت أمكنةُ الأسر من تزايد أفواج الذاهبين مع قيودهم إلى الغياب الطويل. لم يعد يتسعُ المكان الضيق للجميع , فأرسل السارقون حرسهم المدجج بالسلاح ليوقظوا فينا رغبةَ السفروتجديدَ مكان الإقامة المؤقت, لكن الأمكنة الجديدة كُلها قد تعبتْ قبل أجسادنا من تكرار السفر المفروض والرحيل الصامت مع الوطن الحبيس .

ثلآثة أيامٍ قد تبدو إستثنائية لأي إنسانٍ يطلُ من نافذة عالمه الواسع على تفاصيلٍ صغيرةٍ لأسيرٍ أمضى نصف عمرهِ في سجون الإحتلآل, ولكنها في حقيقة الأمر حالة إعتيادية تتكرر أحداثُها من وقتٍ لأخر في نفس الأمكنة , لا يتغير فيها سوى الزمن وبعض الأسماء من نقيضيّ الحياة وصراع الحق ضد الباطل والعدوان.

أيامٌ ثلاثة سوف تمضي كما باقي الأيام وتصبحُ من ذكرياتي في الأسر, وعندما أعودُ إليها ذات يوم حتى وإن تأخر قليلاً, فسيكون الفرح قد هزم هموم السنين وشيّد الحياة بقيمتها النبيلة فوق خرائب الإحتلال والقهر.

ُأغلق باب السجن وراءنا والقيود تكبل الأيدي والأرجل وتأكل من اللحم الحيّ حتى أدمتْ بعض خيوطها جلد الحياة , وكأنها شاهدةً على مشوار سوف يمتد لساعات قادمة مثل مشهد مسرحي تراجيدي يتكرر من وقت زمني مأسور إلى أخر ويتوالى العرض المأساوي على الجسد البشري الغاضب واُلمنفلت بصدمة الترحيل المفاجأ , ليدخل المفاجأة الأكبر والأكثر إيلاماً , حيث امتزجت بمشاعر لقاء الأهل في مفارقة غير مسبوقة حدثت معي لأول مرة منذ تسعة عشر عام .

السجن أغلق وراءنا , وفي هذه اللحظة بالذات الساعة العاشرة والربع صباح يوم الأربعاء 16 حزيران 2004 , كان الأهل قد بدأوا يتوافدون على بوابة السجن للدخول إلى غرفة الزيارة الاستثنائية والتي دام انقطاع التواصل بيننا لمدة عشرة أشهر كاملة, ومن فتحة ضيقة مسيجة بشبك حديدي , كان منظر الأهل يبعث على فرح قادم بإنتظار اللقاء الموعود , ولم يظن أحد منهم إن هذه الحافلة " البوسطة " التي زاحمتهم الطريق وأجبرتهم بفسح المجال أمام عبورها من باب السجن , هي نفسها التي ستردهم من حيث أتوا محملين بالأمل المفقود , والفرح المتناثر حزناً ودموع على حافة البكاء في فضاء المكان الكئيب .

مع أول صوت هدر منا نحن الذاهبون إلى الأماكن الأولية البعيدة والمتعددة من مشوار الأسر , وعبر تلك الفتحة الضيقة التي تكاد لا ترى من خارج " البوسطة " , لتقطع تسلسل وترتيب الأفكار , وصبر الإنتظار الصامت , جمال ورقة البسمة التي تعلو وجوه الأمهات المنتظرات أشهر طويلة والتي يتأملن ويراقبن توتر بناتهن وأعصابهن الأخذة في التصاعد غضبا ً بشكل عفوي , وكأنهن استشعرن حدثاً غير طبيعي قادم مع الصوت العالي .

إنه صوت ينذر بشرر آت , وذعر شتت نظام الأهل المعهود , ومن بعيد وصلنا الصوت ....من ينادي ؟؟! .....نحن هنا في البوسطة المغادرة : بشر, عاصم , وئام ......

الحافلة تأخذ طريقها رجوعاً ببطء حتى تخرج من خط الطريق الضيق لمسافة مائة متر على وجه التقريب ربما أكثر أو أقل , لست أدري , وبعض الأخوات يتراكضن من أمام البوسطة وخلفهن الأمهات ومن وراءهن الشباب .

في هذه اللحظة شاهدت الوالد على باب السجن وكأني فسرت من بعيد , من مكاني المقيد , حديثه مع أحد رجال الشرطة حول كيفية دخول غرفة الزيارة أو شيء من ذلك , رأيته بقامته العالية , بعمامته البيضاء الناصعة, عندها تملكني زهو بالنفس وشعرتُ بفخرٍ واعتزاز يفوق حبي واحترامي لهذا الشيخ الوقور , بطلته الواثقة , أنساني قهر القيد وإيلامه الدامي , بحثت بناظري على أمي علني أجدها وأمتع عيناي برؤيتها وأطمئن نفسي المتلهفة لحضنها الدافي , لتقبيل يديها الحارتين وجبينها الصافي , بحثت ثم جلت بعينايّ فلم أستطيع تميزها من بين جموع الأهالي القادمين إلى زيارة ورؤية أبنائهم , طبعاً كانت موجودة , فهي رفيقة أبي الدائمة في حله وترحاله , زوجته في السراء والضراء , القادمة معه لكل لقاء منذ البداية والى الآن , فالأسر يتواصل معهم وكأنه العدو الصديق ,, شاركتهم في حياتهم الخاصة , وجعل منها الهم الأكبر والإهتمام الأصعب .... في حالة قلّ نظيرها , وعّزت قيمها , وعلت أصالتها .

آتاني الصوت أوضح في سباق بين الغالية نهال وحافلتي الهاربة , اقتربت أكثر فأكثر حتى أصبحت على مسافة عشرة أمتار , هي لم ترى سوى الأصابع المتشابكة مع الشباك الحديدية وحولها من تلك الفتحة الضيقة , لكن الصوت دق ناقوس الخطر وأعلن حالة الغضب , بين إعطاء معلومة سريعة عن أماكن تواجد تشتتنا الجديدة , وبين مشاعر تائقة للعناق , مفعمة بالحب , وقُبل تغيب وتتلاشى في فضاء المكان الواسع .
هي والقافلة تسرعان , كل إلى غايته ومقاصده , وتظل تجري وتلوح بيدها وصوتها يعلو وينخفض وتتساءل , وأنا أجيبها , عن صحتي وعن مكان الترحيل , وعن الرفاق الذين بقوا في المكان , أو الأخريين المشتتين صدقي, هايل, سيطان, كميل, سميح, شام, كمال, عباس والأسيرة أمال الموجودة في سجن الرملة مع المناضلات الأسيرات في قسمهن الخاص.

تباعدت المسافة بيننا وإزداد بعدها واليدين تلوح وتلوح حتى غابت إلى ذاكرتي ونبض أعصابي الغاضبة , كل ذلك حدث في أقل من دقيقتين , وأمام جمع الأهالي الزوار على باب السجن , وفي داخل الحافلة على مشهد من الأسرى الأمنيين أبناء فلسطين , وأمام الأسرى الجنائيين المتواجدين معنا , كلٌُ إلى سجنه الجديد أو العائد من سفر إلى سجنه القديم , وما هي إلا لحظات حتى انحرفت البوسطة عن تراجعها في الطريق الضيقة , لتدخل الشارع الرئيسي , ويبدأ هديرها يدوي بين هضاب وسهول الوطن السليبة , ومن الوراء تراءى لنا سجن شطه القديم بسنيه الأربعة وسجن الجلبوع بسنته اليتيمة وبدأ يتقلص رويداً رويداً وتحتجب بعض أركانه وزواياه تدريجياً يلفه الصمت من بعيد والقهر بداخله لا يتعدى صداه أسواره الشاهقة , لم يكسر صمت الجبال المحيطة به والتي أعطت إسمها " الجلبوع " لبناءه الجديد سوى تمايل أشجاره المبعثرة والشاهدة الخرساء المتكررة .

مضت دقائق معدودة قليلة جداً , كنا بها نتذكر جماعياً أسماء الأهالي الذين مروا بذلك المشهد من أمامنا وركن بعدها كل منا إلى صمته يتأمل ذلك العبور مع ذاته ولذاكرته , فكنت أرسم لوحة التلاقي وأمزج ألوانها ببديع الذكريات الماضية وشوق اللقاء الضائع منذ لحظات فقط , ومع تدفق مشاعري المتوحدة مع نفسي الهادرة كشلال صاخب حيناً والمنساب بهدوء وحنين حيناً أخر , عدت إلى تلك المفارقة العجيبة , فمنذ توقف الزيارات بسبب تركيب إدارة السجن في شطه والجلبوع مثل باقي السجون لذلك اللوح الزجاجي المحكم الإغلاق , جاء الأهل للزيارة كالمعتاد وهم مدركون بأن حدثاً قد وقع وتطوراً سلبياً سوف يترك ظلاله السوداء , لفترات قادمة , فعادوا من حيث أتوا وبعض المرارة تلف طريق عودتهم أملين أن تبقى هذه الحادثة كغمامة صيف عابرة في حر أب وقيضه الملتهب كالجمر . ترافق هذا الواقع مع الانتقال الجماعي من السجن القديم في شطه إلى الأقسام الجديدة والتي تواصل بناءها من حول الأسرى الذين جُهز لهم قسمين أولين شديدي الحراسة والإغلاق , ومن حولهما إستمر البناء حتى تكامل قوام سجن جديد اسمه" الجلبوع " ويضم سبعمائة وخمسين أسيراً .

الآن وقد استعاد الأسرى المبادرة بعودة انتظام زيارات الأهالي , على الرغم من عدم الحصول على إنجازات مثمرة أو وعود بإلغاء ما تم إجراءه ولكنها مغامرة كان لا بد من القيام بها من جانب الأسرى لكسر الحلقة المفرغة الناتجة عن توقف طرح البدائل العملية , وفي هذه الظروف كان موعد زيارتنا الأولى بعد إنقطاع عشرة أشهر , وكما كانت بداية الانتقال إلى السجن الجديد الملتصق بالقديم علامة فارقة بانقطاع الزيارات مع الأهل .... كانت عودة انتظام الزيارات بنفس اليوم والساعة الذي كنا .. به نغادر البوابة الضخمة لمعتقل الجلبوع ..... فكم هي البداية والنهاية متشابهة فصولها وتمضي مع حوادث آتية تصل اليوم بالأمس .

الصمت بداخلي بقي هادئاً ومستمراً, ولكن بعض الأفكار تخرج عن تسلسلها مضطربة في انتظار المجهول الآتي مع سير الحافلة شمالاً, بينما طريق رحلتي القسرية, وتشتتي عن الأهل والرفاق يقودني إلى الجنوب, ومع تزايد التساؤل الهادئ وتراجع أمام ضجيج عجلات البوسطة وموجات الريح المصطدمة بها. انقطع فجأة, لأجد جواباً عندما وصلنا مفترق طريق المغار ومنها إلى سجن سلمون مباشرةً, المكان الأكثر عمقاً أصله نحو الشمال منذ بداية الأسر, مكان جميل جداً, أشجار عالية, متفرعة بشكل عشوائي, غابات من السنديان والصنوبر تلّف جبال وهضاب تُسيج سهول متناسقة من أشجار الزيتون حديثة الزراعة والفلاحة.

في السلمون, ينزل بعض السجناء إلى هذا السجن الجنائي, يصعد آخرون في طريق سفرهم, كان توقف الحافلة قصيراً, لم يتجاوز خمسة عشر دقيقة, وما هي إلا لحظات حتى انطلقت بنا من جديد, تخترق الجبال بقوة جبارة, وتشقها بإستعلاء, تودع من خلالنا الأفق المنكسر وراء التلال الصغيرة من كلا الجانبين. ومرة ثانية عدت إلى تلك الفتحة الضيقة, التصقت بها تماماً, بينما الريح الناتجة عن سرعة البوسطة وصفير فتحة النافذة جعلت من الهواء تيار حاد يصب مجراه الجارح على وجهي بقوه ولكني بقيت مسمراً حول ثقوب النافذة, غير مبال بالحساسية التي تلازمني في العين والأذن بين فترة وأخرى. اتسع المكان اكثر, ولم تعد الشباك تقيد مجال الرؤية , عندها بانت سهول وهضاب الوطن بإتساع المدى وتلاقيه مع عامود الشمس الصيفي, وفي كل الإتجاهات كانت الأرض تحكي تاريخها بين الماضي والحاضر, بين الإنسان الذي زرع وشيّد وأنبتْ من عرقه خبز الحياة وزيتها الصافي, وبين أولئك الذين دنسوا الأرض ونهبوا خيراتها وأقاموا رفاهيتهم الزائفة على حساب شقاء وبؤس أصحاب الحق التاريخي.

بقايا بيوت فلسطين منذ زمن البلاد الأول تنطق بالحق, إن الجريمة لن تمحي أثارها البشعة, قرى أخرى تعيش وتحيا كما عاش الأجداد تشهد على أن الحياة ستبقى لهم مهما علت أبراج الأسمنت والزجاج, وبينما المشهد يتوالى والوجدان يعود إلى كتب التاريخ لهذه الأرض الطيبة وأساطيرها الحية بما أبدعه الكنعاني الأول من مخزونة الثقافي العالمي, كانت قيود يداي والأرجل تشد أكثر وتترك أثار خطوطٍ بارزة من الدم المحتقن حول المعصمين الجريحين.

هواجس منفعلة, مع الصمت الخارجي أطلقت العنان لأحلامي, حالة رومانسية رائعة, تنقلني من الوضع الذي أنا فيه, من القيود الثقيلة الخانقة, إلى متعة الحرية آلاتية, وكأنها واقع أعيشه فبدأت أرسمه في الخيال المكبوت, ولكني حقيقةً تأملت حريتي من خلال رفاقي المحررين حديثاً ياسر وأمل,فكم نسجّنا من قهر الأسر وظلمات الليالي قصصاُ من الحرية وبمليء الحياة التي تنتظر وعد العودة. وكادت شطحات تخيلاتي تذهب بعيداً, ولكن فجأة بدأت عجلات البوسطة تخبو ويصمت هديرها ببطء, تنحرف عن الشارع الرئيسي بشدة, وتدخل مفترق طرق قصير جداًُ لتعلن الأسلاك من كل جانب عن سجن جديد انه "كفار يونا-اشمورت".

توقفت البوسطة فترة أطول, بدأ السجناء الجنائيين في النزول منها ليصعد آخرين, السجن هنا كان في السابق يحوي بعض الأقسام الخاصة بالأسرى الأمنيين, لكنه الآن تحول إلى سجن خاص بالجنائيين. عادت البوسطة من جديد إلى طريقها تسابق السيارات الصغيرة والحديثة, وتندفع تأكل الطريق الواسع بأقصى سرعتها, ولم تمضي سوى ربع ساعة حتى توقفت الى سجن أخر , بناء ضخم يضم عدة سجون حوله , انه " هداريم " وحوله "تلموند " وبجانبه " ريمونيم " , سجون مستقلة بذاتها داخل سياج واحد مُشيدة بأحدث طراز , آلاف المساجين , وكل شيء يخضع لمراقبة الكاميرات وكل باب يُفتح عبر مركز تحكم كهربائي شديد الإجراءات الإدارية , البوابات عديدة ومن كل مدخل أسلاك مُسيجة وقضبان فولاذية يحيطهما أسوار إسمنتية عالية تعلوها دوائر من الأسلاك والأضواء الكاشفة ليلاً وأبراج المراقبة كما في النهار والليل .

هنا يقبع مئات الأسرى الأمنيين في أقسام متفرقة معزولة بعضها عن بعض, وتتكرر العملية فيغادرنا القادمون الحديثين إليه والعائدون من منافيهم وأسفارهم , ينزل رفيقي وئام أودعه بحرارة ونتعاهد على اللقاء في الحرية , وإن تأخرت فلا بأس أن نجتمع مرة ثانية في إحدى الأكياس الحجرية مع باقي الرفاق .
تأخر البوسطة في الإقلاع أثار أعصابنا المشدودة من جديد وقد تطول أكثر, فالحراس تعبوا من عناء السفر وذهبوا الى الراحة وتناول غذاء منتصف النهار بعد أن اطمئنوا من الأيدي المقيدة فراده , والأرجل المربوطة كل اثنين مع بعض , تُغلق أبواب البوسطة العديدة , ونحن بداخلها نقارب الثلاثين أسيراً نصفهم من السياسيين , ساعة كاملة بدون تهوئة وجو حار يثير الأعصاب إستفزازاً , شعور بالتراخي والنعاس والتعب والعطش يسيطر على وجوه الجميع ,بجو يسوده الصمت شبه التام ,لينقطع مرة بدعاء أحد الأسرى المتدينين ومرة بفكاهة أو تعليق ساخر من أحد الأسرى وأخرى بنرفزة من آخر تلعن الزمن والحالة البائسة .

وبينما الإنتظار يسود بالمطلق , اشتعلت البوسطة من جديد ويدور محركها بعد إذن مسؤول الحرس , وطقطقة لهو بمفاتيح القيود التي بين أيديهم , وشتائم بعضهم البعض ببذاءة رخيصة , ومن بوابة قضبان فولاذية كبيرة الى بوابة مغلقة أكثر ضخامة , تتابع حافلتنا الهادرة طريقها , وقد أتعبنا الطريق وساعاته الطويلة منذ الصباح بكل محطاته وحتى عمق المسافة التي تصلنا عن المحطة القادمة .

سهولٌ واسعة على مد النظر , وأرض منبسطة كأنها كف يد لا تختفي إلا عند منعطفات الطرق الحادة أو الدائرية لتظهر الحافلة المسرعة , ومن جديد نودع معها ذكريات مضت على نفس الدرب , فالمكان ذاته لم يتغير سوى بعض الأبنية الشاهقة المبعثرة تشق علوها المحدود الى السماء .

عاد الصمت يخيم فوق الجميع وبداخل كل منا قصة أحلامه الحزينة وشظايا تطلعاته المنكسرة , فالزمن أعطى من الشقاء والمعاناة بما يفيض عن رغبة التجربة ومغامرة التحدي الإنساني , وبينما الهواجس القلقة تحوم حولي وتتفجر بداخلي أخذ التعب والعطش والإرهاق يقذف طاقته السلبية على سلطان الجسد المُقيد , فبدأ بالتراخي تدريجياً والانطواء على مهل بقعر كرسي حديدي مثقوبة أرضيتها ومسندها .ساعات قد مضت , وظل الشمس أطل من بعيد , وأخذ ينتحر وراء السهول اليابسة بينما جسدي قابع في مكانه بلا حراك والنعاس غالبني فوجدت بعض الراحة في هذه الوضعية التي لم تقطعها سوى إرتجاجات فجائية صادرة عن توقف البوسطة أمام تلك المفترقات الطرقية والإنعطافات الدائرية عملا ًبنظام السير .

ومن جديد أطلقت العنان لجسدي المتعب , واندفعت من وراءه متأقلماً مع الحالة القسرية في سفر مُضني وشديد القسوة , فأخذت الأفكار تتمايل بحركة المشهد , تعلو وتهبط , تندفع بغضب وتعود حالمة الى الحبيبة المسافرة مع ذكرياتي الخاصة منذ سنين , فكان لرحيق شفتيها عذوبة الماء النقيّ ولطيفها الهادئ الآتي من العالي البعيد طعم الخمر الذي أطفئ ظمأي وأنعش وجدان روحي , إرتميت داخل ذاتي واليقظة تحاصرني وتستفز نكهة الحياة وجمال العيش في سحر الطبيعة والمدى الواسع . أقبل ذاكرةً , أعانق فكرةً وأطوق خيالاً ناعماً بيدايّ المُقيدتان , فراح جسدي يستريح من أتعابه وألامه , وغبتُ في سُهادٍ بذلك الطيف الرائع والأحلام تراودني بين رغبات عاصفةٍ وأخرى تنزعُ الى السكينة والشوق الخجول .

أصبحت المحطة الأخيرة لهذا اليوم تقترب بتسارع , ومع إقترابها عادت الحياة الى وجوه الجميع , كان بجانبي أسير من غزة مُقيد معي بالرجلين , فشاركني رحلة السفر منذ البداية , وسف يظل رفيق قيودي كما أنا حتى لحظة الإفتراق , وفي هذا المقطع من سفر المنافي , إندفع نحوي أخ قديم كان أسيراً أمنياً معنا في سجن التلموند عام 1995 , تحرر وعاد الى السجن ولكن هذه المرة على خلفية جنائية , أسمه رمزي ويلقب " أبو الخمسة " هجم عليّ معانقاً وبدأ بتقبيلي بحرارة على الخد والجبين , ثم إنزوى نحو رفيقي الثاني يفعل نفس الشيء , عدنا الى ذكرياتنا السابقة وكلٌ يعرض قصته من حيث انقطعت عن الآخر , وعندما سألته لماذا عدت الى الأسر من جديد ؟! قال لي بأن الحياة في الخارج لا تطاق , فالكل يجري ولا أحد ينتظر أو يدري الى أين , أما إذا إلتزمت بالقانون , فإنك ستموت جوعاً , ولكن الشاطر الذي لا يقع في قبضة هؤلاء , هززت برأسي مؤاسياً له وتمنيت أن يتجاوز أسره القصير بصبر وبجد في الأيام القادمة بما يستحق أن ينعم به من الهدوء وشروط الحياة الكريمة .

الآن وصلنا إلى الرملة , السجن المركزي لمديرية مصلحة السجون , به كافة المقرات الرئيسية , ومنها يتم تصنيف الأسرى من كافة فئاتهم وأنواعهم وقضاياهم ومن ثم توزيعهم على السجون المنتشرة في طول البلاد وعرضها , وبه أيضاً المشفى العام , ومحطة انطلاق البوسطات ومركز قيادة المديرية العامة , أقسام متعددة , وسجون داخل سور عملاق , وبإختصار انه المكان الذي يرمز الى القهر والطغيان وخطط السجانين الجهنمية أصحاب الرتب العالية , المرتبطة بوزارة الأمن الداخلي بشكل مباشر .

الساعة قاربت الخامسة إلا بضعة دقائق وبهذا يكون قد مضى على سفرنا سبع ساعات إلا ربع الساعة , بينما المسافة التي تستغرقها أي حافلة مشابهة لا تتعدى الساعة والنصف من جبال الجلبوع إلى الرملة ....تنفست الصعداء الآن أستطيع مع زملائي الإرتياح قليلاً .

فك الحراس قيود الأرجل , وأبقوا قيود اليدين , جلبت أغراضي القليلة المكونة من حقيبة ثياب متوسطة الحجم ومثلها للكتب وألبومات الصور للأهل والأصدقاء , وثالثة أغراض خاصة مثل أدوات كهربائية عبارة عن ووكمان, سماعة, لمظة, محول, أقلام وما شابه . وصرة صغيرة تحوي حرام وملابس شتوية .

الممر أعرفه جيداً , فقد عبرته أكثر من مرة , اندفعت أنا وقيودي وأغراضي على مرحلتين ومن بوابة عادية دخلنا مركز الفحص والتفتيش , مررنا تحت حاجز حديدي وهو عبارة عن إطار إلكتروني كاشف للقطع المعدنية , بينما أُرسلت أغراضنا للفحص فوق عجلة متحركة تنتهي عند جهاز إلكتروني آخر لكشف المواد غير المسموح بها , وهو يعمل بطريقة مبرمجة تعكس ألوان متعددة وكل لون يمثل نوعية المواد الموجودة داخل الحقائب بشكل دقيق جداً , ويتم إظهار الغرض المشبوه أو الذي يثير الشكوك عبر شاشة الكمبيوتر للتأكد النهائي بأن الإجراءات المعمل بها تسير وفق أجندة الممنوعات المقررة .

كنتُ ورفيقي عاصم أخر أسيرين في قائمة الأسرى , وهنا سوف نفترق , هو سيبقى في هذا المكان "منفى الرملة " ....بينما منفايّ يطول بسفر يوم آخر ومستقر معتقل جديد , ودعته بحرارة وعيوننا ظلت شاخصة تجاه بعضنا غير مبالين بالحراس الذين بدءوا يدفعونا كل الى مكان منفرد .

حملتُ حقيبتين من حقائبي والأخرى كانت بيد أحد الأخوة الأسرى , بينما الرابعة لم أجد من يحملها معي لذلك اضطر أحد الحرس لحملها , لأنهم هم أيضاً تعبوا من عناء السفر ويريدون إنهاء مهمتهم بسرعة واختصار كل دقيقة , صعدنا طابقين ثم فتح الباب أمامنا , لنجد أنفسنا في قسم أعرفه منذ بداية الأسر عام 1985 وتنوي إدارة السجن ترميمه من جديد , وقد اُستحدث كمحطة عبور الأسرى بين السجون ويدعى " معبار " فتح السجان المناوب باب الغرفة وكانت تعج بالأسرى الأمنيين , وبعد إغلاق الباب تمّ فك قيود اليدين عبر فتحة مستطيلة في منتصف الباب الحديدي .

إرتميتُ داخل الغرفة , مُرهق الجسد , مُثقل الحركة والعرق يتصبب بغزارة من أعلى الرأس حتى القدم , ألقيتُ التحية والسلام على جموع الأسرى , لم أعرف سوى أسير واحد وهو قديم نسبياً مضى على اعتقاله ثلاثة سنوات ونصف منذ بداية الانتفاضة , أسمه وائل ويكنى " الجاغوب " , قادم من سجن نفحة الصحراوي وأت الى محكمة استئناف ضد الحكم الصادر بحقه وهو المؤبد , وعلمتُ لاحقاً بأن استئنافه رُفض , صافحته بحرارة أما الأخريين فلم أعرفهم لأنهم جميعاً جدد , خلعت القميص البني اللون , الثقيل والمفروض إرتداءه قسراً مع بنطال شبيه في اللون ونوعية القماش عند خروج الأسرى من باب أي قسم في كل السجون دون استثناء, ثم جلست فوق أحد الأبراش " التخت الأرضي " .

لم يكن الماء بارداً لكنه ليس حاراً , فشربتُ منه كمية كبيرة , أطفأت به يباس عطشي, عندها دبتْ الحياة في مجرى الجسد وعاد من جديد يلملم بقايا قوته ويستجمع مزايا المسافر لليلة واحدة, وسلوكه المبعثر .

في هذه الغرفة كما في عدة غرف مجاورة عشرات الأسرى السياسيين , مُكدسين بأعداد تفوق سعة الغرف , فمثلاً الغرفة التي دخلتها تتسع لعشرة أشخاص محشورين في ساحة ضيقة , تمّ زيادة عددها الى خمسة عشر أسيراً , وكلٌ في طريقه الى المحاكم أو نقل من سجون لغيرها ,, أشياء كثيرة تجمعهم وأخرى تفرقهم , ولكن القاسم المشترك لهؤلاء هو النضال من أجل الكرامة وحرية شعوبهم , يتقاسمون المعاناة والحرمان من أبسط مقومات الحياة الإنسانية , وفي أغلب الأحيان من الحياة عّينها , كما يحصل مع رفاقهم وأخوتهم عندما يسقطون برصاص الإحتلال المجرم وأغلب أعمارهم في العشرينات , بريعان الشباب وُمقتبل العمر , تعرفتُ على بعضهم وظروف اعتقالهم , وعلى الرغم من قصر الوقت وحشرة المكان بما تستفز الأعصاب , قدمتُ ما يمكن شرحه عن مفاصل التجربة الإعتقالية وبإيجاز مُختصر , عسى أن تترك بصماتها على أحد هؤلاء ويعود يتذكرني بعد سنين.

زميلي الغزاوي الذي قُيد معي في زنازين الجلبوع وحتى الرملة , الآن بجانبي , أسمه ياسر دحلان , أما فترة اعتقاله فهي قصيرة جداً , خمسة أشهر وقد مضت , وهو الآن في طريقه إلى الحرية من السجن , ولكن مشواره سينتهي إلى الأسر داخل قطاع غزة المُحاصر من العدو المحتل , أخبرني بأنه أُعتقل إدارياً أكثر من مرة ولكن لفترات قصيرة أيضاً , وأنه تخرج من إحدى الجامعات الفرنسية وحاصل على شهادة الماجستير في العلوم السياسية والاقتصادية , عمرهُ ثلاثين سنة ويصغرني بعشر سنين , ومن حديثي معه ونقاشنا المطول , سواء داخل الغرفة أم أثناء مسير البوسطة , تأكد لي بأن الرجل على مستوى جيد مما يقوله , وقد لمستُ طريقة حديثه وكذلك تصرفه , فهو لا يشبه الأسرى الذين معظمهم شبه أميين أو محدودي التعليم , لقد ترك إنطباع إيجابي في نفسي وتمنينا اللقاء مرة ثانية ذات يوم في مكان ما من هذا الوطن الكبير , فالمعرفة القصيرة ذات مناسبة مميزة أو تلك بطريق الصدفة , تترك علامة فارقة وتولد صداقة قوية لا يمكن نسيانها , وكما يقال " ربما صدفة خير من ألف ميعاد ",وعدني بطبق شهيّ من السمك البحري على شاطئ غزة , فضحكت . ووعدته بفاكهة الجولان اللذيذة من تفاح ود راق وكرز .
تطّورت الأحاديث المطولة في "معبار" الرملة حول واقع الحركة الوطنية الأسيرة وما جرى بها في السنوات الأخيرة من إجراءات تعسفية قامت بها مديرية مصلحة السجون وعبر إداراتها المنتشرة في جميع قلاع الأسر . فقد عكست سياسة القتل للأطفال والنساء والشيوخ , والتصفيات الجسدية للمناضلين المقاومين في الأرض المحتلة , وهدم المنازل فوق رؤوس أصحابها , واقتلاع الأشجار ومصادرة الأرض لتوسيع الإستيطان وبناء جدار الفصل العنصري .

كل ذلك إنعكس على واقع الحركة الأسيرة وبنفس المنهجية , مما أدى الى تراجع مستوى الحياة , وبالتالي تقلص الحقوق الى أقل من الحد الأدنى المعترف به عالمياً , بما يرافقه من سياسة الإذلال والإهانة والضرب ومصادرة الحقوق الأساسية العامة وأغراضنا الخاصة , وإطلاق الغاز الخانق " المسّيل للدموع " , والمسبب توتر الأعصاب ثم إسترخائها المتلاشي لدرجة الشلل المؤقت ولأيام عدة .

معارك عديدة خاضها الأسرى , بعضها أثمرت جزئياً , وأغلبها إنحنت أمام شدة الهجمة الشرسة , فالقانون سّيده المُحتل , أما الضمير فقد غاب عن الوجود الإنساني .... وحدهم أهالي وذوي الأسرى كانوا الشركاء الحقيقيين لهذا الشقاء المنسيّ , مع بعض الرفاق والأخوة المُحررين , زملائنا في القيد السابق , بالإضافة لبعض المؤسسات الوطنية اليتيمة المُهتمة بشؤون الأسرى , أخذنا الحديث إلى عمق المشهد المأساوي , وفي لحظة من عتم الليل , فُتح الباب وإذا بالأسير الأخ مُهند الخطيب , أمضى خمسة أعوام وبقّي مثلها وهو من فلسطين المُحتلة عام 1948 , يدخل الغرفة في طريقه إلى سجن آخر , تبادلنا التحيات والأخبار العامة والخاصة حيثُ أخبرني بأن صديقي عاصم إستقر أخراً في غرفته التي غادرها بالقسم المجاور تحديداً , فحطّ على نفس البرش " الفراش الأرضي " الذي كان ينام عليه , فتمضّي قوافل مُقيدة , ويأتي غيرها وحياة الأسر تبقى مطبوعة بالذاكرة , نابضةٌ بالوجدان كأنها حركة لولبية متصاعدة لن تنتهي إلا بزوال الاحتلال عن أرض الوطن وتحرر إنسانهُ الصامد .

مُفارقة جميلة حدثت معي ولن أنساها ..... علمتُ بأن الشباب الموجودين معي في الغرفة ليس بينهم أحدٌ ذاهب إلى سجن " بئر السبع , قسم إشل " حيثُ أخي صدقي ابن أبي وأمي موجود هناك , وهو مثلي مضى على إعتقاله تسعة عشر عاماً, وقد تعرض في الآونة الأخيرة الى ترحيل متكرر وعزل بين هذا السجن وذاك , لذلك أردتُ أن أعلمه بأني منفّي الى سجن عسقلان , فاقتربتُ من باب الغرفة لأسأل في الغرف المُقابلة والمجاورة , فوجدتُ أحد الأسرى , يقف داخل غرفته المقابلة مباشرة وخلف بابها , على بُعد مترين مني , ربما كان تعبٌ ومرهق , فأراد إستنشاق بعض الهواء الأقل تلوثاً ,, أخبرته عن أسمي والى أين مُغادر , وسألته إذا كان من سجن بئر السبع , فأجابني بنعم ... عدتُ أسألهُ عن ذلك القسم فكان الجواب إيجابيّ , إبتسمتُ قليلاً وشعرتُ بأني وجدتُ ضالتي ,, فأخبرته بأن لي أخ أسمه صدقي وهو موجود هناك , فابتسم هو وقال بأن أسمهُ أيضاً صدقي , وأخوك أعرفهُ جيداً , وموجود معي بنفس القسم بالغرفة المجاورة ...
"عاشت الأسامي يا أخ "...... قلتُ لهُ, حملته ُسلامي وأخباري لأخي , وعدتُ إلى وسط غرفتي مبتسماً أمام الجميع , أخبرتهم عن هذه الحادثة , والشوق يجرفني إليه , فقد افترقنا منذُ أكثر من سنة , ولأول مرة بحياتي ألتقي مع شخص ما يحملُ هذا الاسم النادر, من مجدل شمس بلدتي الجميلة في الجولان السوري المُحتل , إلى المعتقلات والسجون , عبر آلاف الناس والأسرى الذين أعرفهم .

قليلُ من الطعام الرديء , ورشفة شاي من كأس بلاستيكية , أسكتُ بهما جوع معدتي الخاوية , وبقينا إلى بعد منتصف الليل حتى الثانية فجراً حيثُ غادرنا نصف الأخوة في طريقهم الشمالية الى محاكمهم وسجونهم , وعندما أُطفئ النور ,, صمت الليل وخّيم الهدوء , فأخذتْ عيناّي تغالبان النعاس والأرق الى أن أستسلمتْ الى نداء الجسد المُتعب .

الساعة الآن الخامسة والنصف , ولحظة الرحيل أزفت , هيا أفيقوا من رقادكم , من نوم ساعتين ونصف , إنهضوا أيها المتعبون في منافيكم , المستعذبون في حب الوطن وعدالة قضيتة , وإنسانية أبنائه وبناته الشرفاء , كم مرة حملنا حقائبنا الصغيرة فوق ظهورنا وأكتافنا .... وفي قلوبنا بما تحويه من قيمة رمزية .... وراية الوطن الحر القادم ترفرف في الأفق , وتسبح في بحر من دماء المأساة النازفة .

سريعاً كان الاستعداد للسفر مُنجزاً , إنتظرنا بضعة دقائق , فعاد الحرس مع قيود الأيدي , وقد إستقرت حول المعصمين ونحن داخل الغرفة , وعندما فُتح الباب , وقُرأت أسماء المُغادرين , كان كل مّنا يحمل من الحقائب قدر إستطاعته الى حيثُ تنتظرنا البوسطة وحرسها المُدججين بالسلاح والهراوات , لنُقذف الى قلبها والقيود تُكبل الأرجل أيضاً , ثم دارت عقارب الساعة مُعلنة الرحيل النهائي ومعها بدأت تلملم من الأقسام المُشيدة داخل سور السجن الواسع حتى امتلأت مقاعدها الحديدية بكائنات بشرية مكبلة بأحكام , ولكنها بنظر الحرس عبارة عن ملفات وأوراق يجب شحنها الى مستودعات جديدة .
الى عسقلان الطريق مباشر وقصير نسبياً , أعرفه جيداً , فلا يتعدى الخمسين دقيقة ,,, الجو صباحي ومنعش ,أما حركة السير تكاد لا تُلمس ,, حاولتُ استرقاق النظر عبر تلك النافذة الضيقة , ولكني عزفتُ عن ذلك , فلم يكن أي جديد في المنظر المألوف , عدتُ الى مقعدي ووضعت رأسي بين يديّ أستدعي أحلام خاصة وخواطر جميلة, راقية أنعشت روحي ,فحملت اليّ في مشهد صامت , طيف الحبيبة ووجه أمي الصافي , اللذين ظلاّ يحومان في المكان حولي ببهاء وسمو , ويكللان جبهتي بعلو شامخ وغار عابق .

عسقلان ... المدينة الساحلية المُهدمة , بقايا بيوت فلسطينية ومئذنة جامع , تظهر بين أبنية حديثة لمدينة استيطانية أسمها "أشكلون " حولها بيارات البرتقال , كانت في الماضي تعطي الحياة ... والخبز والماء لعائلات تركوا ذاكرتهم حية بترابها وحملوا مفاتيح دورهم وما يزالون ينتظرون العودة الى" أرض البرتقال الحزين ".

هنا ينتصب سجن عسقلان المركزي , أقدم سجون الاحتلال , كان مخفراً لعسكر الإنكليز ولخيلهم أيام الإستعمار ويستمر مع الاحتلال الصهيوني الجديد , يمارس نفس الدور في البطش والقهر , اُ فتتح عام 1969 أمام المقاومين الفلسطينين والعرب وتزداد أقسامه كل فترة ويرمم بناءهُ ليتسع أعداد قادمة , ويطوي بين جدرانه أفواج من المقاومين الأبطال, جيلٌ يمضي وأخر يُكمل المسيرة .

ودعتُ زميلي ياسر بهدوء عادي , هنا سوف نفترق نهائياً , نزلتُ من البوسطة ودفعتُ حقائبي أمام مدخل البوابة الداخلية المُطلة على الساحة الأولى ,لم يكّن أحد سوايّ من الأسرى الأمنيين , بينما كان ثلاثة جدد من المساجين الجنائيين وضعوا في معبر خاص بهم , إنتظرتُ قليلاً حتى أنهت الإدارة هناك من إجراءات صعود أعداد كبيرة من الأسرى في طريقهم الى المحاكم القريبة والبعيدة , ثم جاء الضابط المناوب ويدعى " عكا " وهو ضابط قديم معروف منذ العام 1985 ليكرر عملية الفحص والتفتيش على طريقة ذلك الجهاز الإلكتروني , لم يصادروا أيّ من الأغراض , بينما وُضعت لمظة الكهرباء في الأمانات مع حقيبة بنية اللون كانت إدارة سجن شطة توزع واحدة منها لكل أسير. أما هنا , فمُنع إعطاءها للأسرى كعقاب لهم بسبب توصيل وربط كميات من أحزمتها مع بعضها البعض لصنع حبل طويل أستخدم في عملية الهرب قبل فترة , التي قام بها أثنين من المجاهدين .

البدايات كانت من عسقلان , بكل شيء التجربة الإعتقالية الأولى , العلاقات الاجتماعية , الأفكار والمواقف , ومعها تبلورت مفاهيم وأسس الحياة داخل الأسر .... وها أنا أعود إليه ولكن بسنين ثقال متراكمة , وللمرة الرابعة , كانت الأولى أطولها وامتدت منذ بداية الأسر لأكثر من ست سنوات متواصلة , ثم سنة ونصف متفرقة منذ العقد الثاني لتسعينات القرن المُنصرم وعلى ثلاثة مراحل .

ها هو عسقلان حولي , عدتُ إليه من جديد , الى جدرانه ,المكان المُسيج والمنيع , وذكرى الرفاق العابرون في أنفاق الزمن المظلم , أنتظر المجهول وسنين قادمة .....
جمعتُ أغراضي وسيّرتُ بهم الى مدخل آخر حيثُ طُلب مني التوقيع على الأمانات المحجوزة عندهم ,كما جرت العادة حسب إجراءات السجن , وبعدها استدعاني أحد الضباط وسجل الأحوال الشخصية وفق الإجراءات أيضاً , ومنها دُفع بي الى نظارة عند بوابة مدخل ثاني ينفذ الى الساحة الأولى , وهي عبارة عن غرفة لقاء المحامين بالأسرى , تستوعب إثنان من المحامين بمساحة زنزانة لكل منهما وتفصلان الأسير عن محاميه بشبكيين يبعد كلٌ منهما أكثر من عشرين سنتمتر بحيث يمنع الإتصال الجسماني وتحديداً الأيدي .

بقيتُ بها من الساعة الثامنة صباحاً وحتى الثانية بعد الظهر , جلستُ على كرسي جلدي غير متوفر للأسرى , ووضعتُ قدماي على كرسي آخر بلاستيكي , بينما أخذ مجرى الهواء البارد ينعش جسدي ويجفف عرقي وبالتدريج شعرتُ بإرتياح في هذا الإنفراد الخاص مع ذاتي , ولم تقطع وحدتي سوى أصوات قريبة لحركة السجانين وأبواب تُفتح وتُغلق ولكن بدون إزعاج .

غّطت عينّاي بالنوم قليلاً جداً , وعندما نهضتُ كان جسدي بكامل صحته وقوته , أعدتُ ترتيب أغراضي بعد فحصها وتفتيشها , وجلستُ أنتظرُ بلا مبالاة ,وأستنشق الهواء النقي البارد بصدر مفتوح على مصراعيه .

جاءني الطعام بدون أن أطلبه وهو عبارة عن حفنّة رز صغيرة وبحجمها شوربة خضار مع قطعة صغيرة من السمك المفروم والمعجون بفتات الخبز , في الأيام العادية , كنا نرمي هذا الطعام لأنه لا يتلاءم وذوقنا ونفضل تحضير طعامنا بطريقتنا الخاصة , ولكني شعرتُ بلذة الجائع في تناول هذه الوجبة العادية , لم يُزعجني طول الانتظار في النظارة , وفي قرارة نفسي تمنيتُ أن تطول حتى المساء, ولكن في النهاية سينهي بي المطاف داخل الأقسام وفي إحدى الغرف , فقلتُ للسجان المناوب بأن معاملتي قد انتهت وما عليه سوى فتح الباب والسير معي الى القسم المُحدد , هز برأسه وذهب الى العيادة للفحص الأولي وتسجيل أوراقي عند الطبيب , فلم يجده , لذلك كان عليّ الانتظار حتى يعود الطبيب , وفي هذه الأثناء مر الضابط "عكا" من أمام الباب , فقلتُ له بأن جماعتك قد نسوني هنا , فبدأ بالصراخ عليهم , وأمرهم بأن يعجلوا بإدخالي الى غرفتي مُشيراً باتجاهي وموضحاً لهم بأني أسير قديم منذ عشرين عام ولا داعي لتأخيري .

بعد ربع ساعة عاد الطبيب , فذهبت لمقابلته الروتينية , وقّع على الملف الطبي , وقرر بأن حالتي الصحية جيدة , أما إذا كنتُ أعاني من أي مرض فعليّ العودة إليه , عدنا أنا وأحد السجانين الى باب النظارة لأخذ الحقائب , فحملتُ اثنتين وهو حمل الاثنتين المتبقيتين , ولأنه تأخر عليّ فقد أصر على مساعدتي حتى وصولي الى الغرفة , شكرته .. وعند مدخل القسم كان بانتظاري الرفاق والأخوة القدامى , زملائي في الأسر والحياة .

تبادلنا التحيات من وراء شبك الأبواب الحديدية على طول ممرين هما أقسام د ,ح , ممزوجة بمشاعر الزمالة والصداقة , ولا تخلو من أخبار سريعة عن حالة السجون التي مررت بها في رحلتي هذه , كان أكثرية الأسرى من الجدد , وعدد قليل من رفاق الأسر الطويل التي تجمعني بهم علاقات وطيدة , أحمد عميره , نمر شعبان , محمود الصفدي أبو الحكم , الشيخ أبو حذيفة , ياسين, أيمن, ماهر, زهران, هزاع, أبو الناجي .......
و أخرون تقل معرفتي بهم من مناضل لأخر , محمود صديق عزيز , كنتُ وإياه نتبادل الكتب الثقافية وخاصة الروائية منها , ونتسابق في جلب الأفضل وعندما ينهي أحدنا قراءة رواية أعجبتهُ , يعمل على إظهار جماليتها والترويج لها, وهكذا نشجع بعضنا لمزيد من القراءة الراقية ,أما نمر شعبان فهو صاحب نكتة ومزاج ساخر يدرس في الجامعة المفتوحة وناشط في مجالات ثقافية , أحمد عميره فهو صديق وفيّ لنا جميعاً نحن الأسرى السوريين أبناء الجولان المحتل , ويجد متعة خاصة ومميزة في وفاءه غير المحدود لرفاقه , وقد لا يجد الإنسان بمثل إخلاصه ومحبته الدائمة , هذا الصديق المثقف ابن فلسطين بين القدس ورام الله , ترك في ذاكرتي وبأعماق نفسي معنىً رائعاً للصداقة الُمنزهة عن كل غرض آخر , وأشعر بصدق وكأنه فعلاً ابن بيت وعائلة لنا داخل الأسر وفي الخارج , أما علاقاته مع الجولان وأهله فتمتد الى عمق التواصل الإنساني بكل معانيه , فكم رسمنا معاً مزايا حريتنا القادمة لتبقى ناقوساً صارخاً تضرب القيود الصامتة , وتبعث فينا شغف الحياة الكريمة على مدار اللحظة .

في أكثر هذه الغرف ,أمضيتُ بداية عمري , وبها تفتح الوعي الأول من حياة الأسر , غرف متلاصقة تحوي بين جدرانها أجسام من لحم ودم , سرق الزمن منها عمراً , ولكنها أبتْ أن تستسلم لطغيانه المُنفلت , ووجوهٌ حزينة مصدومةٌ , وهدوءٌ لم يعهدهُ معتقل عسقلان منذ أكثر من ثلاثين عاماً حيثُ أعطى عسقلان للأسرى المناضلين خلاصة التجارب الإعتقالية وترك بصمة نضالية في صقل الذات وكان رافداً لمسيرة النضال في الأرض المُحتلة , الآن وقد خرج الأسرى قبل أقل من سنة تقريباً من مواجهة حاسمة مع إدارة هذا السجن , ولكن هذه المرة على عكس المرات العديدة السابقة , حيثُ النتائج تفضح علناً همجية هذه الطغمة المُنفذة لسياسة حكومة العدو الصهيوني , فلا الأهل أهل ولا الدار دار ..... مكتبة السجن بعد أن كانت بؤرة إشعاع وثقافة نضالية لمجموع الأسرى , بكتبها الرائعة , الأدبية, السياسية, الفكرية والدينية , تحولت الى كنيس صلاة للسجناء اليهود , " الفورة, الساحة العامة " قُسمت الى شطرين شمالاً وجنوباً , الأقسام الأرضية مع قسم علوي تمّ إفراغه من الأمنيين وتحويله الى الجنائيين وأكثرهم يهود , وأصبحت هذه الساحة الشهيرة لهم , بينما الأسرى الأمنيين قُذف بهم وقت النزهة الى ساحة صغيرة جانبية , ويتم إستدعاء قوة من إدارة السجن للإشراف على عملية عبور الممرات وصولاً إلى الساحة , المطبخ , المغسلة وكافة مرافق الحياة الصغيرة سُحبت من أيدي الأسرى الأمنيين بما يرافقها كل يوم من إجراءات تفتيش استفزازية ليلاً نهاراً , وعقابات جماعية تتجاوز الإجراءات القانونية التي هم وضعوها بأنفسهم .

عندما نظرتُ من نافذتي المُطلة على الساحة الرئيسية بنزلائها الجنائيين , وشاهدتُ ما حل بها وبالمكتبة الراكنة بزاويتها شعرتُ بالأسى والحزن لهذا المصير البائس , وما هي الا لحظات حتى جلتُ بنظري عن هذا المشهد وعدتُ الى عالمي وكأن ما كان حدثٌ عابر .

الرفاق حولي تدافعوا يساعدوني في ترتيب " برشي " وأغراضي , أعطوني برشاً أرضياً , فجلستُ عليه مستريحاً بعض الوقت , تحدثنا كثيراً عن واقع السجن في عسقلان وفي السجون عامة , ثم تناولت معهم طعام العشاء , وعندما اشتدّ سواد الليل , أخذتُ حمام ماء ساخن مطول , أزال عرق جسدي , لينتعش بعدها بماء فاتر يميل الى البرودة , ولم يمض وقت طويل حتى كانت الأحلام ترقص في خيالي بدون استئذان مني , بينما خواطر اليقظة تتباعد أمام هجوم النوم العميق .

إنتهتْ رحلة يوميّ الأربعاء والخميس من الجلبوع الى عسقلان , مروراً بمراكز السجون المتنوعة , وأصبحت ذكريات حيّة في دفاتر أيامي السجينة.

موعد زيارات الأهالي هنا لمنطقة القدس والجولان وداخل الخط الأخضر , يوم الأحد بعد ثلاثة أيام فقط , عاد نفس الشعور السابق يراودني ويطبع معاناة الأهل بصور من الشقاء, كيف أحاول ثنيّهم من المجيء للزيارة , وتجنيبهم عناء السفر المُضني , خمسة ساعات ذهاباً ومثلها إياباً وبينهما ساعة انتظار أو أكثر , من أجل ثلاثة أرباع الساعة هي المسموحةُ لنا برؤية الأهل والحديث إليهم .....!! تساؤلات كثيرة سيطرت عليّ ولكني أُدرك جواباً قاطعاً بقدومهم مهما كلف الأمر , ومع إقتراب موعد الزيارات في ساعات متأخرة من صباح الأحد القريب , كان إستعدادي مكتملاً ,أخذتُ حمامأ سريعاً , حلقتُ ذقني ولبستُ ثياب السجن البنية الثقيلة, وحملت ُكيساً صغيراً فيه بعض المُكسرات وعصير الليمون , كان قد فرضه عليّ رفيقي أحمد , وإندفعتُ مع المجموع الى غرفة الانتظار , والمشاعر المُتحدة بيني وبين أسرتي تشع بداخلي بنور المحبة النبيل وتسافر فوق أجنحة الشوق الحميمية .

غرفة الزيارة مثل باقي السجون , عبارة عن لوح زجاجي مُحكم الاغلاق , لا ينفذ الصوت منهُ مهم علا , الرؤية واضحة جداً , تتسع بمساحة نصف متر مُربع , أما الإتصال فيكون عبر سماعة تلفون عادية , وُضعت إحداها عند الأسير والثانية في شقة الأهالي , جلستُ فوق مقعدي وفجأة أطل قبالتي والدي بثقة وشموخ , أنيقاً بلباسه الوقور وعمامته البيضاء , مبتسماً كعادته , كأن لسان حاله يقول لي قبل الكلام , بأن الجميع بخير , حيّيته بشوق ولهفة , بسمو كأبن صغير يزهو بقيمة الأب أمام الدنيا كلها , وفي سكينة النفس المشتاقة , وعندما سألته عن والدتي وشقيقتي القادمتين برفقته , كان قد همّ بالجواب , فتقاطع السؤال والجواب بنفس اللحظة , أخبرني بأنهن أولاً وقبل كل شيء بخير , وفي غاية الشوق إليك,لكن الإدارة منعت دخولهم الى غرفة الزيارة , وبقيتا في الخارج عند بوابة السجن الرئيسية بسبب عدم وجود صور شخصية في دفتر أحوالهم الشخصية .

صدمتني وقاحة هذه الإدارة بشكل شخصي , فطوال السنين الماضية وهنا في عسقلان وعلى مدار سبع سنين وأكثر وكما في كل السجون , كانوا يحملون نفس دفتر الأحوال الشخصية وبدون صور مثبتّة عليها , فلماذا ألان يأتي الرفض وبهذه السرعة , كان من الممكن إدخالهن إليّ ومن ثم الطلب منهم بتلك الثبوت والصور في المرات القادمة , فكأن هذا المنع قد تحول الى أخر ما ينتظر والدتي وشقيقتي لتكتمل معهن حتى الحد الأقصى قصة المأساة والقهر ولكن بصبر لا حدود له ُ .

صمتُ قليلاً , متأملاً,مفكراً أو مصغياً... وتركت المجال لوالدي حتى يوضح لي ما جرى بالتفصيل , ومما قاله للضابط المناوب عند مدخل السجن , بأن زوجته مريضة وهي فعلاً كذلك , ويحملهم كامل المسؤولية إذا ما تعرضت لمكروه ناتج من منعها عن مشاهدة ابنها الأسير بعد إنقطاع سنة كاملة , وعندما لم يُصغ أحداً إليه أدار ظهره لهم كرد على وقاحتهم وعنجهية سجاني عسقلان , فلمعت من عينايّ زوجته وابنته دمعة متمردة, فهدأ من روعهم وحمل إلي فيض من مشاعرهم الأصيلة وشوقهن الجيّاش .

إطمئن قلبي بعد دقائق , وهدأت فورة الغضب الداخلي , فراحت الإبتسامات تعلو شفتايّ تلقائياً وموزعة بالإشارة والكلام بين والدي الحاضر أمامي تارة , وأخرى أنثرها صوب والدتي الرائعة , الصابرة على محن الزمن مع شقيقتي الإنسانة المتميزة , وهن على مقربة أمتار مني ولكن خلف جدران عالية وأبواب مُسيجة بالأسلاك .

الدقائق تمضي بدون أن نشعر بها , فعدت أنا ووالدي الى الأحاديث الشيقة , والأشواق تلفنا من كل جانب , طمئنته عن صحتي وأحوالي وما جرى خلال الفترة المنصرمة وخاصة اليومين الأخيرين , وهو طمئني عن صحته حيث شفي من مضاعفات متعبة عقب إجراء عملية له في المرارة قبل أكثر من سنة , طمئنني عن العائلة كلها , أخبارهم , صحتهم , أعمالهم سررتُ بها كثيراً وما حملته من أخبار طيبة وناجحة كل في عمله وتعليمه سواء في الجزء المُحتل من الوطن أو في المغترب من أجل العلم , ينقصهما اثنان أنا وأخي في المغترب القسري بالأسر حيث كنت قد علمتُ بعض أخبار عن صدقي ,أخي الموجود في سجن بئر السبع وهو أخبرني بأن صدقي معاقب حالياً بالمنع من الزيارة وفترة العقاب تنتهي بعد شهر كامل ,,, أسرة متوحدة على المحبة والتكاتف والحياة الجماعية , متفانية بقضايا الوطن مهما بلغت المعانيات وكبرت الهموم وعلت التضحيات .

جلب معهُ بعض الملابس القليلة المسموحة مع اثنين من الكتب الروائية, شقا طريقهما إليّ بعد انتظار كنتُ أرقبه بنفاذ صبر لأسير يجد المتعة الحقيقية في قراءة الكتب عامة والروائيات الأدبية خاصة ,,, أهديته مسبحة من خرز كانت بحوزتي , وضعتها مع أغراض صديقي أحمد لحفظها من الضياع المنفرد .

الساعة تعبر بين ضلوعي وأوشكت على إعلان نهاية الزيارة , فضجت غرفة الزيارة بحركة السجانين الذين أيقظوا واقع الأسر بداخلي بعد أن غاب عن الوجود خلال خمسة وأربعين دقيقة هي مساحة الزمن الحر الذي يجمعنا مع أحب أحبائنا .
ودعتُ والدي بنفس الحالة الوجدانية الأصيلة , شدّ من أزري وقوى ساعدي وهمتي , وفعلت مثله كأني أتكأ حول هامته المرفوعة , قرب النبع الحقيقي في عشق الحياة الكريمة وكلانا يرنو الى المستقبل بعين لا ترى الا نبل الأفعال الكبيرة , فأعود صغيراً أداعب سنين عمره المتقدمة ,
سلامٌ إليكَ لذاتكَ...
سلامٌ معكَ لوجه أمي الصبوح , رمز صمودي ودليل حريتي .....
سلامٌ للأخوة والأخوات , ولكل أهل الجولان الطيبين ....
في طريق الرجوع الى غرفتي كانت عيون الرفاق تشاركني بعض الغضب, سرتُ ببطء وهدوء متجاهلاً الزمن البائس الذي لم يعد قادراً على إضافة المزيد من بؤسه , سوف أقهره مع سنين الأسر بكل الأحوال , لأن الحياة مستمرة ويجب أن تبقى كذلك,
نحن عطاياها الثمينة , فلنكن بمستوى عطاءها المتدفق وسرها الأبدي .

من الأفق البعيد , عينّي حبيبتي نور سماوي يتلألأ , ويقتحمُ طيفها الأسمر محيطي الذي ركنه إلى الاسترخاء والتفكير , وكأنه شريطاً سريعاً من صور الماضي العتيق , وفي لحظة المغيب صعدت كل الذكريات الباقية دفعةً واحدة الى طيفها وبإحساسٍ متأمل , في إنتظار سبعة سنين ونصف من المجهول ....
* الأسير بشر المقت/ الجولان العربي السوري المحتل (سجن عسقلان)
25|6| 2004







التعليقات