24/03/2017 - 16:55

"جسد غريب": معاناة المهاجر عبر الجسد

في "جسد غريب" تمارس الشخصيّات الثلاث، علنًا، أمورًا حُرِمت من فعلها في الوطن، أو فعلتها خفية، كممارسة الجنس، ومن ضمنه الثلاثيّ والمثليّ، وشرب الكحول، وغيرها من الحرّيّات الفرديّة التي دفع البعض ثمنها على جسده. تعيش الشخصيّات في بلاد الاستقرار والاطمئنان، بعيدًا عن الوطن، والتفاوتات والتناقضات، وكأنّها منذ لحظة نجاتها من الغرق في رحلتها البحريّة تغرق في بحر من الضياع والبحث.

"جسد غريب": معاناة المهاجر عبر الجسد

هيام عبّاس، وسارا هناشي، وسليم كشيوش

في رحلة الهروب غير الآمنة من الخوف والعذاب، بحثًا عن السكينة والاطمئنان في مدينة فرنسيّة قد تجد فيها منارتها، بعيدًا عن الواقع المؤلم والمظلم في تونس، يغطّ المركب الذي تركبه سامية في البحر، فيغرق راكبوه المهاجرون وتغوص أحلامهم وذكرياتهم في القاع، وتنجو هي من رحلة العدم، لتذكّرنا بمعاناة المهاجرين الإنسانيّة منذ لحظات العرض الأولى.

ثالوث مركّب

تدور أحداث الفيلم الروائيّ، 'جسد غريب' (2016)، للمخرجة التونسيّة رجاء عماري، حول سامية، مهاجرة تونسيّة 'غير شرعيّة' تصل إلى فرنسا بعد 'ثورة الياسمين'، والتي يقضّ مضجعها هاجس المطاردة من قبل أخيها المتزمّت دينيًّا، بعد أن أبلغت عنه السلطات التونسيّة بتهمة الإرهاب، لتضييقه الشديد على حياتها، وتعنيفه لها، فأودع السجن!

تجد سامية لدى وصولها فرنسا مأوًى عند عماد، ابن بلدتها التونسيّ؛ وبعد بحث مضن عن لقمة العيش، تفلح في إيجاد عمل كمدبّرة منزل لدى أرملة ثريّة من أصول عربيّة تُدعى ليلى، وتقيم في منزلها.

وبخلاف سير الأحداث المتلكّئة نوعًا ما، والتي يسيطر عليها الاضطّراب والتوتّر والخوف على الدوام، تتحوّل العلاقة 'المكركبة' بين الثالوث: سامية وليلى وعماد، إلى علاقة مركّبة تسيطر عليها لغة الجسد، فتتداخل الشخصيّات في مسارات عدّة، وتعيش تجارب عاطفيّة شبه مستحيلة، ليزداد الهرج والتصادم بينهم.

تناقضات الغربة

كما غاص المركب في أعماق البحر، بما حمله من أجساد وأرواح المهاجرين وذكرياتهم، غاصت المخرجة، أيضًا، في العذاب الصرف للجسد والنفس، طارحة قضيّة 'الهجرة غير الشرعيّة' والمجازفة والمعاناة الإنسانيّة، في رحلة بحث عن أمل جديد وحلم بالاستقرار من خلال العيش في بلاد أوروبيّة، بعد أن ضاع الأمل والحلم في عدد من دولنا العربيّة، من جرّاء فشل الثورات، والانقلابات، والتحوّلات السياسيّة، والعوز وتفشّي البطالة، وانتشار الحركات الجهاديّة السلفيّة، والسيطرة الذكوريّة، والتقهقر الفكريّ، وتردّي العلاقات الأسريّة والاجتماعيّة.

ما بين الأسر والتحرّر، الوطن والغربة، الارتياع والارتياح، العسر واليسر، الأنا والآخر، الرجل والمرأة، الإباء والرضى، ذكوريّة الجسد وأنوثته، تلتقي الشخصيّات العربيّة الثلاث في بلد أوروبيّ، ضمن علاقات إنسانيّة – عاطفيّة متشابكة، تائهة كتيه الأحوال في بعض بلادنا العربيّة.

عبّرت أجساد الثالوث في الفيلم، من خلال الندوب والنضارة حينًا، والتقيّد والانفلات أحيانًا، واللمس والمسّ بحرّيّة الآخر، عن التناقضات والبلبلة التي نعيشها في الغربة أيضًا.

في 'جسد غريب' تمارس الشخصيّات الثلاث، علنًا، أمورًا حُرِمت من فعلها في الوطن، أو فعلتها خفية، كممارسة الجنس، ومن ضمنه الثلاثيّ والمثليّ، وشرب الكحول، وغيرها من الحرّيّات الفرديّة التي دفع البعض ثمنها على جسده. تعيش الشخصيّات في بلاد الاستقرار والاطمئنان، بعيدًا عن الوطن، والتفاوتات والتناقضات، وكأنّها منذ لحظة نجاتها من الغرق في رحلتها البحريّة تغرق في بحر من الضياع والبحث.

تغيير 'قوانين اللعبة'

يظهر الفيلم رغبة الجسد الكَمِد الضعيف في استعادة نضارته وقوّته، في إشارة من المخرجة إلى قوّة المرأة وسيطرتها وقدرتها على التغيير والتّأثير، على الرغم من محاولة تهميشها وترهيبها وتعنيفها؛ إذ تؤدّي المرأة دورًا فاعلًا في تغيير 'قوانين اللعبة'.

قدّمت المخرجة أحداث الفيلم على مهل، بوتيرة ساكنة، وقفزات وحلقات مفقودة، لتلمّح إلى أنّنا نقف ساكنين، فاقدين قدرة التغيير، أو نعمل عليها ببطء مثل أحداث فيلمها، أمام جرح المأساة الإنسانيّة النازف.

بعد أن تعلم سامية بوفاة شقيقها المتزمّت داخل السجن التونسيّ، وهو الذي كان سبب هجرتها الرئيس، تعود برفقة ليلى إلى تونس. تختار مخرجة الفيلم وكاتبة السيناريو، رجاء العماري، أن تكون النهاية مفتوحة، لتجعلنا نتساءل عن إمكانيّة موت سامية غرقًا في البحر، أم استقرارها النهائيّ في تونس، بعد أن غرقت في بحر من الضياع والعذاب في فرنسا.

وكبدايته، تأتينا النهاية في مشهد لشال وذكريات وصور تغرق وتغوص في أعماق البحر!

تساؤلات بلا إجابة

جسّدت دور ليلى، الممثّلة الفلسطينيّة، ابنة مدينة الناصرة، الكاتبة والمخرجة المبدعة هيام عبّاس؛ وأدّت دور سامية الممثّلة التونسيّة الرائعة سارة حناشي؛ وجسّد دور عماد الممثّل الفرنسيّ المبهر، ذو الأصول الجزائريّة، سليم كشيوش.

جاء أداء الممثّلين لافتًا جدًّا مهنيًّا، ومقنعًا؛ كما أضفت الموسيقى والرقصات والأغاني التونسيّة وحركات الأجساد والتواءاتها صورًا جماليّة وإبداعيّة على الفيلم.

فيلم جيّد جدًّا، يخرج المشاهد بعد عرضه، حاملًا صور الأجساد وذاكرًا مأساة المهاجرين الإنسانيّة، ومحمّلًا بتساؤلات عدّة لم يقدّم السّيناريو أجوبة عنها؛ كالعداوة، الكراهية، الانتقام، التعالي، جلد الذات، السيطرة... أرادت شخصيّات الفيلم التخلّص منها وتركها في موطنها الأصل، لكنّها عاشتها ومارستها حينًا بعد آخر، تجاه نفسها وتجاه ابن بلدها!

***

بطاقة الفيلم:

جسد غريب (2016).

إخراج: رجاء عماري.

روائي، 92 دقيقة.

تونس، فرنسا.

بالعربيّة والفرنسيّة (مترجم للإنجليزيّة).

باشتراك: هيام عبّاس، وسارا هناشي، وسليم كشيوش.

سامية، مهاجرة تونسيّة غير شرعيّة وصلت إلى فرنسا بعد 'ثورة الياسمين. يسكنها هاجس أنّ أخيها المتشدّد يلاحقها خفية، أبلغت عنه السلطات التونسيّة بتهمة الإرهاب. تجد سامية، بداية، مأوًى لها عند عماد، أحد معارفها السابقين في القرية، ثمّ تلجأ بعد ذلك إلى ربّة عملها ليلى. يزداد الخوف والرغبة بين هذه الشخصيّات الثلاث، وترتفع حدّة التوتّر التي تؤدّي إلى التصادم بينها.

 

ضمن ملفّ خاصّ حول مهرجان حيفا المستقلّ للأفلام.

 

مطانس فرح

 

صحافيّ من مواليد وسكّان حيفا، يعمل محرّرًا لصحيفة 'حيفا' الأسبوعيّة، ويكتب مقالات نقديّة مجتمعيّة/ ثقافيّة/ فنّيّة في عدد من المواقع الفلسطينيّة والعربيّة. درس علم الأحياء ثمّ التصميم الغرافيّ والاتّصالات. شارك في عدد من الورشات الدراسيّة والندوات الّتي عقدت في البرلمان الأوروبيّ، بالإضافة إلى مهرجانات سينمائيّة وثقافيّة ومعارض كتب في عدد من الدول العربيّة. عمل في صحيفة 'الاتحاد' اليوميّة لسنوات عدّة، وفي عدد من المجلّات الأدبيّة الثقافيّة. كما عمل في التصميم الغرافيّ والكتابة في عدد من الصحف المحلّيّة الفلسطينيّة. 

التعليقات