24/03/2017 - 15:45

روشميا: تعرية عجز المدنيّة الفلسطينيّة

هذا صراع بين صراعين يحتويان الإنسان. من هنا، فإنّ دلالات عدم اكتراث الشخصيّات المركزيّة للصراع السياسيّ تبدو غاية في القوّة؛ فالشخصيّات ليست جاهلة سياسيًّا، ولا هي متواطئة. إنّها تبدي، ببساطة، عدم اكتراث بما تحاول الشخصيّات الثانويّة (المتضامنة معها) أن تفرضه من صراع سياسيّ مدنيّ للدفاع عن البيت وتجرّهما إليه. هذا موقف ريفيّ ضدّ المدينة، وهو قاس ومؤلم، والأهمّ أن ينجح في تعرية عجز "المدنيّة الفلسطينيّة" إلى حدّ بعيد.

روشميا: تعرية عجز المدنيّة الفلسطينيّة

يوسف وآمنة

من أهمّ ما يميّز فيلم 'روشميا' لسليم أبو جبل، أنّه يدخل إلى قلب الصراع السياسيّ ويبحث فيه عن الصراع الإنسانيّ؛ أقصد أنّه دقيق في تصوير الصراع العاطفيّ بصفته صراعًا 'داخل السياسة'. القضيّة السياسيّة في الفيلم ليست خلفيّة لقصّة شخصيّة، والقصّة الشخصيّة ليس إكسسوارًا لأنسنة السياسيّ. العاطفة غير موجودة إلّا داخل السياسة، أي داخل الظرف الاجتماعيّ والمادّيّ الذي يحكم علاقات الناس ببعضها، والحَبْك العاطفيّ غير ممكن إلّا بظرف الواقع المفروض سياسيًّا. هذه مقولة مصيريّة، وهي غير مفهومة ضمنًا، للأسف، في جزء كبير من الإنتاج الثقافيّ الفلسطينيّ.

شرخ مبرّر

يطرح هذا الفيلم سؤالًا: ما الذي تفعله السياسة بالإنسان؟ ما الذي يفعله الاستعمار بالناس؟ ما الذي تخرّبه إسرائيل، مثلًا، بين رجل وزوجته؟ وحين يحضر هذا السؤال، تعتري الفيلم، تلقائيًّا، حساسيّة عالية في التعامل مع شخصيّاته، وإمكانيّة واسعة للتضامن مع الطرفين على الرغم من تناقضهما وحربهما. ندرك حينها أنّ المتصارعين ضحيّة ظرفهما، ضحيّة الشرّ - تهديد السلطة لحياتهما. لذلك نعدّ غضب الشخصيّتين، حزنهما، شتائمهما، تجسيدًا لشرخ مبرّر جدًّا. وبفعل ذلك، يتوسّع حيّز التسامح مع وجوه متعدّدة داخل 'مجتمع' يعالجه الفيلم، وخلق هذا الحيّز من التسامح من الوظائف الضروريّة والمفصليّة للثقافة.

صراع بين صراعين

جانب آخر، من عدّة جوانب مثيرة في الفيلم، يكمن في خلخلة النكبة للعلاقة بين الفلسطينيّ والبيئة العمرانيّة التي يعيش فيها. يصوّر الفيلم حياة ريفيّة خالصة في قلب المدينة. القصّة، ببساطة، أنّنا أمام شخصيّات صودر حقّها في أن تعيش حياة ريفيّة بسيطة بعيدة عن الهموم المدنيّة الحديثة. لكنّها، بفعل النكبة، مجبرة على أن تعيش بمحاذاة مشاريع إسكانيّة هائلة وسط المدينة. تنبع قوّة هذه الخلخلة في الفيلم، بالأساس، من تصويرها كصراع بين صراعين.

أفسّر: للشخصيّات صراع بطيء مع الطبيعة من أجل ترويضها ومعالجتها؛ رجل مسنّ شغله الشاغل أن يكسر غصن شجرة أو يوضّب التبغ في لفافة، وامرأة عجوز كلّما اسْتُجوِبَت ذاكرتها بدأت بعدّ أنواع النباتات، وأكبر مخاوفها أن يقع طفل أثناء نزوله سفح الجبل. هؤلاء، يريدون الحفاظ على صراعهم هذا، بينما تفرض السياسة عليهما أن يعيشا صراعًا آخر، مدنيًّا، فيه محاكم وبلديّة وشرطة ومشاريع ومجمّعات تجاريّة وشقّ طرقات. وبعامّة، أن يعيشا حياةً فيها 'فاتورة ماء كهرباء'، وربّما تلفزيون وحاسوب.

تعرية العجز

هذا صراع بين صراعين يحتويان الإنسان. من هنا، فإنّ دلالات عدم اكتراث الشخصيّات المركزيّة للصراع السياسيّ تبدو غاية في القوّة؛ فالشخصيّات ليست جاهلة سياسيًّا، ولا هي متواطئة. إنّها تبدي، ببساطة، عدم اكتراث بما تحاول الشخصيّات الثانويّة (المتضامنة معها) أن تفرضه من صراع سياسيّ مدنيّ للدفاع عن البيت وتجرّهما إليه. هذا موقف ريفيّ ضدّ المدينة، وهو قاس ومؤلم، والأهمّ أن ينجح في تعرية عجز 'المدنيّة الفلسطينيّة' إلى حدّ بعيد.

يعرّي الفيلم إخفاق جيل فلسطينيّ جديد في أن يحمي البيت بواسطة أدواته الجديدة، كما يكشف من جهة أخرى، إخفاق هذا الجيل في احتضان ومواجهة المكنون الإنسانيّ للجيل السابق.

'روشميا' يستطيع أن يكون مدخلًا لقضايا كثيرة: من شيخوخة جيل النكبة، إلى مسألة علاقة المجتمع بالريف، إلى أشكال الوكالة (كالمجتمع المدنيّ أو القيادات المحلّيّة) التي تدافع عن الفلسطينيّين، إلى الصراعات الإنسانيّة الصغيرة (والساحرة) مع الطبيعة، إلى قضايا كثيرة تتفاوت، طبعًا، بمركزيّتها. لكنّ الأكيد أنّ هذه الجوانب كلّها ممكنة بفعل ارتكاز قصّة الفيلم على صراع جوهريّ، تألّفت من خلاله كلّ ملامحنا الاجتماعيّة، وبالتالي، الإنسانيّة – الصراع على الأرض والبيت.

هذه ملاحظات مقتضبة، وللعمل أوجه كثيرة جدًّا يمكن الخوض فيها مطوّلًا. 

***

بطاقة الفيلم:

روشميا (2015).

إخراج: سليم أبو جبل.

وثائقي، 70 دقيقة.

فلسطين، قطر، لبنان، الإمارات.

بالعربيّة (مترجم للإنجليزيّة).

زوجان عجوزان في مواجهتهم الأخيرة أمام السلطات الإسرائيليّة للحفاظ على نمط حياتهم في روشميا، آخر وادٍ طبيعيّ في حيفا.

 

ضمن ملفّ خاصّ حول مهرجان حيفا المستقلّ للأفلام.

 

مجد كيّال

 

وُلد في حيفا عام 1990 لعائلة مهجّرة من قرية البروة. درس الفلسفة والعلوم السياسيّة في الجامعة العبريّة في القدس، ويكتب لملحق 'السفير العربيّ' الصادر في بيروت. نشر نصوصًا سياسيّة وأدبيّة وبحثيّة في عدد من الإصدارات والصحف، إضافة إلى مدوّنته الشخصيّة التي يكتبها منذ العام 2010. حصلت روايته الأولى 'مأساة السيّد مطر'، على جائزة مؤسّسة عبد المحسن القطّان للكاتب الشابّ عام 2015.

التعليقات