15/04/2017 - 10:47

دلالات الاستفتاء التركي القادم

في حال نجح الاستفتاء، ستبقى سلطة إردوغان موضوعاً للرقابة والتوازنات، ولكن لا يوجد ما هو أكبر من المحددات الجيو سياسية التي تجبر تركيا على الرجوع لمربع القوى العالمية الكبرى

دلالات الاستفتاء التركي القادم

(أ ف ب)

ترجمة خاصة: عرب 48

يبدأ يوم الأحد الاستفتاء حول التعديلات الدستورية التي ستعزز من سلطات الرئيس. تقول الرواية الإعلامية حول هذا الاستفتاء إن التصويت لصالح هذه التعديلات سيقود إلى موت الديمقراطية في تركيا، بل اعتبرت بعض القنوات الإعلامية أن الديمقراطية في تركيا كانت منتهية أصلا، وأن الاستفتاء ما هو إلا آخر مسمار في نعشها. يعتقد المعارضون للتعديلات أن التصويت بـ'نعم' سوف يرفع الرئيس رجب طيب إردوغان إلى درجة الدكتاتورية، وبالتالي سوف يكتمل تحول تركيا إلى الجانب المظلم.

ثمة مشكلة صغيرة في هذا النمط من التفكير، فالتصويت لتعديلات على بنية الحكومة التركية هو أمرٌ مصاغ بآليات الاقتراع الديمقراطية. فقد يأتي الدكتاتور والسلطوي بالعديد من الأشكال والأنواع، كما وصل بعضهم إلى السلطة من خلال الآليات الديمقراطية قبل سحقهم لمعارضيهم؛ ولكن نادرا ما يهتم الدكتاتوري بالتفاصيل الدقيقة للدستور وقضايا الشرعية الديمقراطية. في حال صوَّت المواطنون الأتراك لصالح التعديلات المقترحة، فسيحتفظ البرلمان التركي بحقه بتقديم دعوة ضد الرئيس إذا ما حصلت على موافقة ثلثي المجلس. لن يكون التصويت بـ'نعم' يوم الأحد بمثابة بداية حفل تتويج رئاسي؛ لأنها ستكون تعبيرا ديمقراطيا عن إرادة الشعب التركي، أو على الأقل بالنسبة للفئات التي ستشارك في التصويت.

قد لا يُعجب الناس بما يقوله أردوغان، ولكنه يشجِّع الشعب التركي على المشاركة، ولكنه لا يجبرهم على التصويت تحت تهديد السلاح. إنها عملية اقتراع حقيقية، ولا يوجد مؤشر أفضل من ذلك إلا ما تشير إليه الاستطلاعات من تساوي فرص نجاح كلا الخيارين. فعلى سبيل المثال، نقلت وكالة 'رويترز' الشهر الماضي أن استفتاءً لمؤسسة ORC أظهر وجود نسبة 55% من الأتراك ممن سيصوتون لصالح هذه التعديلات، في حين أعلمت شركة جيزيجي وكالة رويترز أنه في الـ16 استطلاعا الذي أجرته لم تظهر نسب تشير لإمكانية نجاح قرار التعديلات. الشيء الوحيد الذي يمكن أن يقال بجزم هو أن الاقتراع سيكون مغلقا، فإذا لم تكن هذه ممارسة ديمقراطية، فليس واضحا ما هي.

الأمر الجوهري هنا هو أن الاستفتاء يدور حول السياسة، بل هو سياسي بالدرجة الأولى. يمر المجتمع التركي بسلسلة من التحولات، كما بدأت تركيا بالبروز على الساحة باعتبارها قوةً إقليمية، ولا تستقر مثل هذه التحولات بسهولة. انظر حال فرنسا عشية الثورة الفرنسية، فقد كانت في حالة تمزُّق اقتصادي، كما كانت خارجة من حرب السنوات السبع (بالإضافة لمستعمراتها في شمال أميركا). ولكن كان المجتمع الفرنسي يمر بتحولات داخلية بينما تضغط عليه التحديات الأجنبية من الخارج. وكانت النتيجة هي ثورة دامية تضمنت دعوات جميلة في حقوق الإنسان بالتوازي مع توظيف الليبراليين لأداة المقصلة. من ينتقدون تركيا على تركها لنموذج الديمقراطية الليبرالية بتصويتها لصالح توسيع سلطات الرئيس لا يريدون إلا الشكل الذين يفضِّلونه من الديمقراطية الليبرالية، فقد نسوا كيف تحققت الديمقراطية الليبرالية في الغرب.

قد يعتبر البعض هذا التحليل قراءة قاصرة للاعتداءات التركية على المبادئ المؤسسة للديمقراطية الليبرالية، وسيوجِّهون الأنظار نحو الصحافيين المعتقلين، والأكاديميين المُقالين، والأزمة الكردية في جنوب شمال تركيا باعتبار أن جميع ذلك يشير إلى سقوط تركيا من نعيمها السابق. بعض هذه الانتقادات صحيحة، ولكن الأمر الحقيقي أيضاً هو تخطيط فصائل من الجيش التركي لعمل انقلاب على أردوغان والحكومة الديمقراطية المنتخبة خلال العام الماضي. إذا افترضنا حدوث محاولة انقلاب من الجيش الأميركي على رئيس الولايات المتحدة، فمن المتوقع حدوث سلسلة من الاعتقالات والتحقيقات لغرض حماية مؤسسات الدولة. قد يعمل إردوغان على توظيف محاولة الانقلاب هذه لتعزيز مراكز سلطته، وإعادة بناء المؤسسات التركية برفقة الأشخاص الذين يثق بهم، ولكن هذا لا يجعله إنسانا شريرا، ولا يجعل من تركيا نظاما شموليا قيد الإنشاء.

بالتأكيد، وفي دولة مثل الولايات المتحدة، لم يقم الجيش بمحاولة انقلاب على حكومة مدنية. ولكن الفرق بين دولة مثل الولايات المتحدة وتركيا هو المحددات الجيو السياسية المحيطة. تأسست الجمهورية التركية الحديثة عام 1923، وقد كانت دولة ضعيفة ومحمَّلة بفخر وسمعة تاريخها الاستعماري الذي التهمته النيران مع انهيار الإمبراطورية العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى، وخسارتها لبعض مناطقها السابقة. ونشأت السلطة السياسية بعد هذه الأزمات في عام 1923 واتخذت من إسطنبول مركزاً لها - وإن كانت عاصمتها في أنقرة – وذلك في ظروف كانت تعاني فيها الأناضول من التخلف وغياب التمثيل السياسي. وأصبح القائد العسكري مصطفى كمال أتاتورك رئيسا للبلاد. وكان الجهاز العسكري هو القوة المسيطرة على الساحة السياسية التركية ولمدة طويلة، كما كان يتدخل فيها عند شعوره بلزوم ذلك.

كان صعود إردوغان وحزب العدالة والتنمية جزءا من تطوِّر هذه الدولة الضعيفة والمهزومة التي تأسست عام 1923. تم تبني الدستور الحالي، الذي يسنُّ الإطار السياسي للحكومة التركية، في عام 1982 عن طريق النظام العسكري الذي استولى على السطة في انقلاب الثمانينات. وخلال ذاك العقد، استفادت الأناضول – والتي لم تكن تمثل أولوية لا في العصر العثماني ولا في العقود الأولى من نشأة الجمهورية التركية – من الإصلاحات السياسية والاقتصادية للحكومة التركية. لقد أدَّى تدفق رأس المال والصناعات نحو الأناضول إلى نشوء طبقة اقتصادية جديدة من المواطنين الأتراك، والتي أخذت توجهاً أكثر محافظةً وتديُّناً من النخب في إسطنبول ولكنها فضَّلت نمطا اقتصاديا أكثر حرية. إلا أن مراكز السلطة القديمة ضيَّقت على هذه الطبقة بطريقة غير مسبوقة، وبالتالي أدَّى هذا الانقسام بين هاتين المجموعتين إلى تغيير الحياة السياسية التركية واستمر هذا التغير ليأخذ شكلها الحالي.

وبعد هذه التحولات الداخلية، ازدادت قوة تركيا سياسيا. حيث تحظى تركيا بأعلى قيمة في إجمال الناتج المحلي (GDP) في الشرق الأوسط، ولا يمكن أن تُقارن إلا بالسعودية، ولكن السعودية تعاني من مشاكل عويصة اليوم، وقد أصدر موقع جيوبوليتكال فيوتشرز (Geopolitical Futures) العديد من المنشورات خلال العام الماضي حول نقاط ضعف النظام السعودي: فهو أشبه بالقلعة الرملية المبنية على منابع النفط ومصادر أخرى قليلة. وبحسب آخر إحصائيات البنك الدولي، فإن الاقتصاد التركي يساوي ضِعف اقتصاد إيران، ومع ذلك تحظى إيران بانتباه عالمي أكبر نظرا لقوتها. ومن الناحية العسكرية، تمتلك تركيا واحداً من أكبر الجيوش في الشرق الأوسط، وبالرغم من حاجة جيشها للمزيد من الإصلاح والتحديث من قبل محاولة الانقلاب، فإن قدرة تركيا على إظهار قوتها العسكرية تتفوق على معظم الدول المجاورة. فإمكانياتها تتجاوز إمكانيات الدول الأخرى في المنطقة بمراحل.

بعد فترة وجيزة من عام 1991، عملت تركيا على النمو ببطء وبشكل منظَّم. وقد سعت لتبني سياسة 'صفر مشاكل' مع جيرانها. ولكن عادت دول الشرق الأوسط إلى حالة الطبيعة، مترنحةً بين الحرب الأهلية والفوضى العامة. لا تُعتَبَرُ الحرب الأهلية في سورية وحالة عدم الاستقرار السياسي في العراق كقضايا سياسية مجردَّة بالنسبة لتركيا: فهي أحداث تجري على حدودها، حيث تمثل تداعيات العنف بالنسبة لها حقيقة واقعية، بحكم تدفق ملايين اللاجئين من سورية والعراق. ويضاف إلى ذلك محاولات إيران للتشبث بمصالحها إلى أقصى درجة ممكنة، ودور روسيا – وهي واحدة من الأعداء التاريخيين بالنسبة لتركيا – في المنطقة ولعبها بقوة محدودة ولكن بمواجهة مباشرة للمصالح التركية.

عندما يتَّجه الأتراك إلى الاستفتاء يوم الأحد، فإنهم سيتَّخذون قرارا جمعيا حول شكل الحكومة التي يريدون. سيعني التصويت بـ'نعم' وبدرجة كبيرة أن إردوغان سوف يصبح أكثر قوة، رئيسٌ على النمط السلطوي وذلك حتى عام 2029. وبحلول ذلك سوف يضطر إما للوقوف جانباً نظرا لانتهاء فترة رئاسته أو لعدم قدرته على الحكم، أو سيقوم بتعديل الدستور مرةً أخرى. وقد يعني التصويت بـ'لا' تراجع سلطة إردوغان، ولكنها قد تعني أيضا بقاءه قويا ضمن أطر النظام الحالي أو صعود قوة جديدة إلى الساحة التركية السياسية. لا تتعاطف الظروف الجيو سياسية مع الشخصيات، إنها تؤشِّر على صعود تركيا، لا اسم الشخص الذي سيقودها.

وبغض النظر عن ما إذا استمر إردوغان في السلطة أو استلمها شخصٌ آخر، ستستمر تركيا بالصعود كأمة وستسير في طريقها نحو تحقيق القوة الإقليمية وهي محاطة من جميع الجوانب بمهددات لا تُحسدُ عليها. وفي حال نجح الاستفتاء، ستبقى سلطة إردوغان موضوعاً للرقابة والتوازنات، ولكن لا يوجد ما هو أكبر من المحددات الجيو سياسية التي تجبر تركيا على الرجوع لمربع القوى العالمية الكبرى. ومن هذه الناحية لا تمتلك تركيا الخيار؛ وزيادة قوتها هو الذي سيحدد مستبقل البلاد أكثر من أي استفتاء.

التعليقات