09/05/2017 - 12:32

انتصار ماكرون

إمانويل ماكرون، وزير الاقتصاد السابق البالغ من العمر 39 عامًا، والذي ترعرع في القرى الواقعة خلف مدينة أميان برعاية والديه الطبيبين، قد أصبح الآن رئيسًا لفرنسا، حيث فاز في الانتخابات وحصد 65% من الأصوات.

انتصار ماكرون

(أ ف ب)

(ترجمة خاصة: عرب 48)

إمانويل ماكرون، وزير الاقتصاد السابق البالغ من العمر 39 عامًا، والذي ترعرع في القرى الواقعة خلف مدينة أميان برعاية والديه الطبيبين، قد أصبح الآن رئيسًا لفرنسا، حيث فاز في الانتخابات وحصد 65% من الأصوات. وبالرغم من عدم تسلمه لأي منصب انتخابي في السابق، إلا أنه تمكن من هزيمة المرشَّحة المخضرمة ماري لوبان، وريثة السلالة الحاكمة الشعبوية التي تأسست على يد والدها جان ماري لوبان، الذي كان من المدافعين عن التعذيب في الجزائر، والذي وصف غرف الغاز النازية بأنها مجرد "تفصيل" بسيط من التاريخ، وهو من لطم ناشطة سياسية اشتراكية على وجهها في يوم من الأيام.

تعتبِر "جان داراك"بطلة بالنسبة لعائلة لوبان، وهي طفلة يعتبرها البعض كـ"أم الشعب الفرنسي"، حيث سمعت أصواتًا تدعوها لطرد الأجانب – الإنجليز – من فرنسا. وتصغي عائلة لوبان حاليًا إلى ذات هذه الأصوات، إلا أن هوية الأجانب قد تغيرت الآن.

ولكن يبدو أن ماكرون كان يستمع أيضًا لأصوات أخرى غير مسموعة خلال هذه الانتخابات. خلال عمله في حكومة الرئيس فرانسوا هولاند، قام وزير الاقتصاد الشاب برسم خطة لاستبدال رئيسه. وبعد تأسيسه لحركة "إلى الأمام" في شهر نيسان/ أبريل 2016، قام المستشارون بتحذير هولاند منه قائلين بأن هذا الرجل، والذي وصفه الرئيس ذات مرة بالابن الروحي، يخطط للانقلاب عليه. وبالرغم من السنوات الطويلة التي أمضاها هولاند في دهاليز السياسة، إلا أنه تجاهل هذه الشائعات.

بدأ صعود هذا الفتى الألمعي بعد تخرجه ضمن أوائل دفعته من كلية الإدارة الوطنية المرموقة، والتي تعتبر حاضنة النخب الفرنسية. وقد فتح هذا له الأبواب للدخول في أهم فريق إداري في فرنسا، وهو مكتب المفتشية العامة المالية، وهكذا بدأ مسيره بالقرب من أعلى المراتب السياسية. وبعد توجهه نحو القطاع الخاص لفترة بسيطة، حيث عمل لبضعة سنوات كمستثمر بنكي، عاد ماكرون للعمل في الحكومة كعضو بارز ضمن إدارة الرئيس هولاند، حيث تم تعيينه وزيرًا للاقتصاد، وذلك قبل أن يستقيل منه في شهر أغسطس/ آب 2016 ليكرِّس وقته الكامل للسباق الرئاسي.

يتضمن البرنامج الانتخابي لماكرون مزيجًا من الإصلاحات في قطاع الأعمال، كتخفيف القيود والرقابة على سوق العمل مع وعود للاستثمار في المهن الخضراء وتخفيف الاعتماد الفرنسي على الوقود الأحفوري. وهو يفضِّل نموذج "المرونة - الأمن" على الطريقة الاسكندنافية، حيث يتم دعم العمال بينما يتم نقل الوظائف في القطاعات الضعيفة للوظائف الناشئة (على أمل) في القطاعات الصاعدة. ومن بين جميع المرشحين للانتخابات، كان ماكرون المدافع الوحيد عن الاتحاد الأوروبي وأكثرهم إصرارًا على ضرورة تكييف الصناعة الفرنسية لتصبح أكثر قدرة على التنافس في الاقتصاد العالمي.

ومع موجة التمرد ضد "النخبة" المنتشرة مؤخرًا، كان العديد من المراقبين في حالة من القلق حيال إمكانية سير فرنسا مع الأغلبية التي سحبت المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي وانتخبت دونالد ترامب كرئيس للولايات المتحدة. لا تفتقد فرنسا للناخبين الغاضبين، كما صعد العصيان الشعبوي لدى الجناحين اليساري واليميني. فمن جهة اليسار، جذبت حركة الثائر الفرنسي جان لوك ميلينكون (فرنسا التي لا تقهر) أكثر من 19% من الأصوات خلال الجولة الأولى من التصويت، وخلال آخر أسبوعين قبل التصويت، صعد ميلينكون على نحو أثار خوف البعض من احتمالية انحصار المنافسة بين متطرفين من اليمين واليسار. ولكن لم يتمكن من الوصول في نهاية الأمر، ومن جهة لوبان، التي ورثت زعامة الجبهة الوطنية عن والدها عام 2011، فهي لم تبلي بلاء حسنًا على عكس ما توقعته نتائج الاستطلاعات، حيث حصدت 21.3% من الأصوات، أي أقل من أصوات استطلاعات الرأي التي وصلت لـ28%. في حين تصدَّر ماكرون الساحة بـ 24% من الأصوات.

مهَّدت هذه النهاية القوية للجولة الأولى الطريق أمام نجاح ماكرون في الجولة الأخيرة. اطَّلعت لوبان على نتائج الاستطلاعات واستنتجت أنه وبالرغم من جهودها في "تحسين صورة" الحزب بتطهيره من معادي السامية والنازيين الجدد والتي أدت لزايدة حصتها من الأصوات في الانتخابات المتوالية، إلا أنها لن تتمكن من الفوز بالانتخابات من دون حدوث مفاجئة صادمة في مسرح الحدث. وكمحاولة منها لتقليد سعي الرئيس السابق شارل ديغول للصعود فوق الحزب، قامت في 24 نيسان/ أبريل، أي بعد يوم من الجولة الأولى، وبشكل مفاجئ، بتقديم استقالتها عن رئاسة الجبهة الوطنية وعيَّنت جان فرانسوا جلخ غير المعروف مكانها. ولكن تبيَّن أنه من منكري محرقة الهولوكوست، مذكِّرًا الناخبين بالماضي البغيض التي سعت لوبان جاهدةً لإخفائه.

ومما ضاعف خطأها، هو تملَّص لوبان من قضيتها الأساسية، وهي تعهدها بعقد استفتاء عاجل حول خروج فرنسا من الاتحاد الأوروبي. فكما هو الحال مع ترامب، جذبت لوبان دعم العمال (حيث تحظى الجبهة الوطنية بأكبر دعم من العمال في مقابل الأحزاب الأخرى)، من خلال تعهدها بوضع حدود حمائية بغرض استعادة الوظائف الخارجية من الدول ذات الأجور المنخفضة. كما احتفت بمسقط رأس ماكرون في مدينة أميان عندما ظهرت في أحد مصانع Whirlpool، والذي قارب على الإغلاق، حيث سيتسبب بنقل مئات الوظائف إلى بولندا. إن وعدها بفرض 35% كتعرفة جمركية على الاستيراد من شركات العمل الخارجية، قد عزز من شعبيتها بين العمال، ولكنها لا تستطيع تحقيق ذلك طالما بقيت فرنسا في الاتحاد الأوروبي.

لقد استنتجت لوبان أنها لن تتمكن من الفوز بالانتخابات من دون تهدئة المخاوف حيال خروج فرنسا من الاتحاد الأوروبي، وذلك منذ أن أظهرت استطلاعات الرأي أن حوالي 70% من الفرنسيين يخشون الخروج من الاتحاد الأوروبي، خاصة بعد خروج بريطانيا من الاتحاد وتهجم ترامب عليه وعلى تحالف الناتو، وهو ما دعاها للتراجع عن ذلك. وأعلنت قريبتها ماريشال لوبان في 30 نيسان/ أبريل أنه بدلاً من عقد استفتاء حول البقاء في الاتحاد الأوروبي بعد 6 أشهر من الانتخابات، كما كانت الوعود، سوف يتم "تمديد" موعد عقده، وقد يطول ذلك لبضعة سنوات، لأن المقترح كان غير عملي وغير قانوني أيضًا بحسب الاتفاقات القائمة.

كما تراجعت لوبان عن الركيزة الثانية لبرنامجها الاقتصادي، وهو تعهدها بالتخلي عن عملة اليورو. فقد حافظت على موقفها المعارض من "العملة الموحَّدة" على حد تعبيرها، ولكنها لا ترى مشكلة بالـ"عملة المشتركة"، وهو ما أدى لاختلاط الأمر أمام الناخبين متسائلين عن معنى ذلك.

كما زادت حالة التشويش في الدقائق الأخيرة من الشكوك حيال كفاءتها، وهي شكوك تضاعفت مع أدائها الغريب والعنيف خلال المناظرة الأخيرة. فخلال المناظرة الطويلة، ظهرت عليها ما وصفه المراقبون بالابتسامة الخبيثة، حيث احتقرت وسخرت من الانتقادات التي وجهها خصومها نحو سياساتها الاقتصادية ورفضت تقديم أي صورة تشير لرغبتها بالظهور كشخصية "جديرة بالرئاسة". وهذه حيلة مستعارة من قاموس ترامب: فبدلاً من انخراطها بالجدال مع الخصم، تُبرز سخريتها النخبوية منه مع إظهار ملامح الابتذال.

ولكن هذا يصلح مع ترامب، لا مع لوبان. فقد أظهرت استطلاعات الرأي بعد هذه المناظرة قفزة عالية لصالح ماكرون. قد لا يُعجَبُ الفرنسيين بنُخَبِهِم، ولكنهم يتوقعون قدرًا من اللباقة من رؤسائهم. خلال معرض زراعي في باريس في شهر شباط/ فبراير 2008، أشعل الرئيس نيكولاس ساركوزي آن ذاك رد فعل عنيف بسبب رده على أحد المقاطعين بقوله "أغرب عن وجهي". وقد استدعى نزق لوبان للذاكرة التنمر اللفظي (والجسدي) لوالدها. كما أن نبرتها المتطرفة أخافت المزيد من الناخبين بدلاً من جذبهم، وذلك عندما أرادت تقديم نفسها كالمدافع المقدام عن "القيم الجمهورية" و"الهوية الوطنية"، والتي أدَّعت أنها تتعرض لهجوم العناصر الأجنبية، خاصة من المهاجرين المسلمين.

يمكن اعتبار هذه الانتخابات الأخيرة بمثابة رفض لنزعة لوبان أكثر من كونها دعمًا لماكرون، والذي يواجه الآن تحدي حكم البلاد من دون الاستناد لقاعدة حزبية تقدم له الدعم في الجمعية الوطنية (البرلمان الفرنسي). وستحدد الانتخابات التشريعية التي ستعقد في شهر حزيران /يونيو مدى قدرة الرئيس الجديد في الدفع نحو الإصلاحات التي يعتقد بضرورتها مع شكوك العديد من ناخبيه بمدى أهميتها.

التعليقات