17/06/2017 - 21:01

كيف تؤثر اللغة على علاقتنا مع الزمن؟

الاختلافات اللغوية تتضمن تأثيرات نفسية - جسدية على عقول ثنائيي اللغة، فهي تؤثر على تجربة الفرد مع مسار الزمن بناءً على السياق اللغوي الذي يتعاملون معه.

كيف تؤثر اللغة على علاقتنا مع الزمن؟

(ترجمة خاصة: موقع عرب 48)

يبدو أن هوليوود قد وصلت إلى نصف الطريق، ففي فيلم 'Arrival'، تلعب الممثلة آمي آدمز دور عالمة اللغة لويز بانكس، التي تحاول فك شيفرة لغة الكائنات الفضائية. وتكتشف في الفيلم طريقة كلام الكائنات الفضائية عن الزمن والتي تمنحهم القدرة على رؤية المستقبل، ومع تعلُّم بانكس للغتهم، تصبح قادرة أيضا على الرؤية عبر الزمن. ثم تقول أحد شخصيات الفيلم: 'إن تعلم لغة أجنبية يعيد تشكيل دماغك'.

في دراستي الجديدة – والتي أنجزتها برفقة عالم اللغة إمانويل ليلوند – أظهرت أن ثنائيي اللغة (أي المتمكنين من لغتين) يدركون الزمن بطريقة مختلفة، وذلك بناءً على تكوين اللغة وأسلوب تقديرها للأحداث. ولكن على عكس هوليوود، لا يمكن لثنائيي اللغة أن يطَّلعوا على المستقبل مع الأسف. ولكن أثبتت هذه الدراسة أن تعلُّم طريقة جديدة للحديث عن الزمن تعمل بالفعل على إعادة تشكيل الدماغ، وهذه النتائج هي أولى الدلائل النفسية - الجسدية على المرونة الإدراكية عند ثنائيي اللغة.

لقد كنا نعرف في فترة معينة أن ثنائيي اللغة يتنقلون ذهابًا وإيابًا بين لغاتهم بسرعة وبغير وعي منهم في العادة، وهي ظاهرة يطلق عليها تبديل الرموز. ولكن اللغات المختلفة تتضمن أيضًا تصورات مختلفة عن الوجود وطرقًا مختلفة في تنظيم العالم من حولنا. إن الطريقة التي يتمكَّن بها ثنائيي اللغة من التعامل مع هذه الطرق من التفكير ما زالت سرًا أمام الأبحاث اللغوية.

الزمن والخيال واللغة

يعتبر الزمن نموذجًا على ذلك، وموضوع الزمن يحصل على جاذبيته لأنه موضوع مجرَّد جدًا، فنحن لا نستطيع لمسه أو رؤيته ولكنه ينظِّم حياتنا بالكامل. والأمر العجيب في الزمن هو أن أسلوب تفاعلنا معه يعتمد بطريقة ما على خيالنا ولغتنا. ولأن الزمن هو أمر مجرَّد، فإن الطريقة الوحيدة للحديث عنه هي عن طريق استعارة المصطلحات من مجال آخر أكثر صلابةً مع التجربة، ألا وهو المكان.

وعلى سبيل المثال، في اللغة السويدية، فإن الكلمة التي تستعمل للدلالة على المستقبل هي ' framtid' والتي تعني حرفيًا 'الزمن الأمامي'. إن تصوير الزمن وكأنه شيءٌ يقف أمامنا (أو الماضي وكأنه يقف خلفنا) هو أمرٌ شائعٌ أيضًا في اللغة الإنجليزية، فنحن نقول أننا نتطلع قُدُمًا للأوقات الجميلة ونترك الماضي خلفنا.

ولكن بالنسبة لمن يستعملون اللغة الأيميرية (يتحدث بها سكان دولة بيرو)، فإن التطلُّع للأمام يعني النظر للماضي. والكلمة التي تستعمل للدلالة على المستقبل (qhipuru) تعني 'وراء الزمن'، بمعنى أن المحور المكاني معكوس هنا، فالمستقبل في الخلف والماضي في الأمام. ويبدو أن منطق ذلك في اللغة الأيميرية يعود إلى التالي: وهو أننا لا نتسطيع النظر للمستقبل بنفس عدم قدرتنا على النظر للوراء، والماضي معروف بالنسبة لنا، ونحن نستطيع رؤيته مثل كل الأشياء الموجودة على مرمى بصرنا، إنه أمامنا.

هذا الاختلاف في طريقة تصوير الزمن في الذهن يؤثر على متحدِّث اللغة الإميرية عندما يشير إلى الأحداث. فمن يتقنون اللغة الإسبانية كلغة ثانية (حيث المستقبل في الأمام كما هو الحال مع الإنجليزية)، يميلون للإشارة للأمام، بينما من لا يعرف الإسبانية أو يمتلك معرفة بسيطة بها يشيرون للخلف عند الحديث عن المستقبل (أي يحافظ نمط اللغة الأميرية في الإشارة للمستقبل إلى الخلف).

يستعمل متحدثي اللغة المندرينية الصينية محورًا زمنيًا عموديًا جنبًا إلى جنب مع المحور الأفقي، حيث تُستعمل كلمة xià (أسفل) للحديث عن الأحداث المستقبلية، لذا عند الإشارة لـ'الأسبوع القادم' فإن المتحدث باللغة المندرينية الصينية سيقول حرفيا 'الأسبوع السفلي'، بينما تُستعمل كلمة shàng (أعلى) للحديث عن الماضي، لذا فإن 'الأسبوع الماضي' تصبح 'الأسبوع الأعلى'. وهذا يؤثر على طريقة رؤية المُشاهد للتضمينات المكانية لعملية التقدم بالعمر.                                                                                                                                            

ففي إحدى الدراسات، سُئِل متحدثون باللغتين الصينية والإنجليزية أن يرتِّبوا صورًا لبرات بيت وجيت لي تتضمن صورهم وهم صغارٌ وشبابٌ وكبار. فقاموا بترتيب صور برات بيت بشكل أفقي، حيث يكون برات بيت الصغير على اليسار وبراد بيت الكبير على اليمين. ولكن قام ذات الأشخاص بترتيب صور جيت لي بشكل عمودي، حيث كان جيت لي الصغير في الأعلى بينما وضِعَ جيت لي الكبير في الأسفل. يبدو أن الثقافة والمعنى تشكِّلُ رابطةً قويةً مع هذا الاختلاف في السلوك بناءً على طبيعة المضمون.

تُظهر دراستنا أن هذه الاختلافات اللغوية تتضمن تأثيرات نفسية - جسدية على عقول ثنائيي اللغة، فهي تؤثر على تجربة الفرد مع مسار الزمن بناءً على السياق اللغوي الذي يتعاملون معه. فعلى سبيل مثال، يعبِّر المتحدثين بالسويدية والإنجليزية عن مرور الأحداث من خلال الإشارة للمسافة المادية، مثل استعمال تعابير فاصل قصير أو حفلة طويلة وهكذا. ولكن يميل المتحدثين بالإسبانية واليونانية للتعبير عن الزمان بإشارات مادية كمِّية، مثل استعمال تعابير فاصل صغير أو حفلة كبيرة. يرى المتحدثون بالإنجليزية والسويدية الزمان كخط أفقي، مثل قطع المسافات، ولكن يراه المتحدثون بالإسبانية واليونانية ككميات، وكأنه حجم يملأ المكان.

وكنتيجة لذلك، يقدِّر المتحدثون بإحدى اللغتين الإنجليزية أو الإسبانية كمية الوقت المطلوبة للخطوط لتمتد على شاشة حاسوب بناء على مدى إمكانية امتداد الخطوط، فإذا امتد خطَّان لمسافتين مختلفتين خلال فترة متساوية من الوقت، فإن المشاركين سيحكمون بأن الخط الأقصر قد قطع المسافة في وقت أقصر وأن الخط الأطول قد تحرَّك في وقت أطول.

وفي المقابل يتأثر المتحدثون بإحدى اللغين الإسبانية أو اليونانية بطريقة تقديرهم للزمن وذلك بناءً على الكمية المادية، أي كمية إمتلاء الإناء بالسائل، فإذا امتلأ كلا الإنائين بمستويين مختلفين خلال فترة متساوية من الوقت، فإن المشاركين سيحكمون بأن الإناء ذو الكمية الأقل قد امتلأ بوقت أقل والعكس بالعكس.

مرونة ثنائيي اللغة

ولكن من يتقنون اللغتين الإسبانية والسويدية يتَّصفون بالمرونة. فعندما طُلِب منهم من خلال الكلمة السويدية التي تشير للمدة الزمنية (tid)، قاموا بتقدير الوقت باستخدام طول الخط، ولم يتأثروا بحجم الإناء. وعندما طُلِب منهم ذلك من خلال الكلمة الإسبانية للمدة الزمنية (duración)، قاموا بتقدير الوقت بناءً على حجم الإناء، ولم يتأثروا بطول الخط. فيبدو أنه مع استعمال لغةٍ جديدة، فإنك تصبح متناغمًا وبسرعة مع الأبعاد الإدراكية التي لم تكن تعيها في السابق.

إن قدرة ثنائيي اللغة على التنقل بسهولة ومن غير وعي بين الطرق المختلفة في تقدير الوقت تتلائم مع الأدلة المتزايدة التي تُظهر سهولة تأثير اللغة على أبسط إحساساتنا بالأشياء، ومن ضمنها المشاعر وإدراكنا البصري والزمني أيضًا، بحسب ما تبين مع هذه الدراسات.

ولكنه يُظهر أيضًا أن ثنائيي اللغة يفكرون بمرونة أكثر، وهناك دلائل تشير إلى أن التنقل الذهني بين اللغات المختلفة في الحياة اليومية يمنح فوائدا لقدرتنا على التعلم والقيام بمهام متعددة، بل إن لها فوائد طويلة المدى تتمثل بالحفاظ على صحتنا الذهنية.

اقرأ/ي أيضًا | دماغك كآلة زمنية

لذا عودةً (أو تقدمًا!؟) إلى فيلم Arrival، لم يفت الأوان بعد لتعلم لغةٍ ثانية. لا تتأمل أن تطَّلع على المستقبل، ولكنك بالتأكيد سوف ترى الأشياء بطريقة مختلفة.

التعليقات