23/06/2017 - 20:39

ترامب التقليدي!

تخيل لو خرج محللان للسياسة الخارجية الأميركية من مراكز أبحاثهم في واشنطن ومكثوا في جزرٍ صحراوية، حيث أُخرِج الأول قبل إعلان دونالد ترامب عن ترشحه للرئاسة، بينما أُخرِج الثاني قبل انتخابات عام 2016. وبعد الانتخابات، تم إخبارهم بأن المرشح

ترامب التقليدي!

ترجمة خاصة: عرب 48

تخيل لو خرج محللان للسياسة الخارجية الأميركية من مراكز أبحاثهم في واشنطن ومكثوا في جزرٍ صحراوية، حيث أُخرِج الأول قبل إعلان دونالد ترامب عن ترشحه للرئاسة، بينما أُخرِج الثاني قبل انتخابات عام 2016. وبعد الانتخابات، تم إخبارهم بأن المرشح الجمهوري قد فاز وطُلِبَ منهم أن ينتبؤا بطبيعة السياسة الخارجية للإدارة الجديدة. فمن سيكون صاحب التنبؤ الأدق من بينهما؟

بحلول فصل الربيع، سيكون تنبؤ المحلل الثاني أكثر دقة. فسيكون تنبؤه لنتائج ما بعد الانتخابات مبنياً على طبيعة التحول وواقع الأسابيع الأولى للإدارة الجديدة كاستمرارية منطقية للحملة الانتخابية. فالطابع القومي الصارخ للخطاب الافتتاحي لترامب، وتغريدات ترامب المفاجئة، وإقالة أول مستشار أمني وطني لترامب، مايكل فلين، بعد 25 يوم فقط من تعيينه، وغيرها الكثير من التطورات، كل ذلك سيعزز من إنطباع الكثير من المتخصصين بأن ترامب سوف يقطع بشكل دراماتيكي مع التقاليد السائدة والسياسات السابقة. ولكن مع مرور الأشهر، سيتبين أن تنبؤات المحللين قد شطَّت كثيراً بحكم أن السياسة الخارجية للإدارة الجديدة أصبحت تقليدية أكثر.

وفي هذه الأثناء، لن يكون اللاجئ الثاني في الصحراء مطَّلعاً على الصعود المفاجئ لترامب والحملة الانتخابية الغريبة التي تبعت ذلك، وبالتالي فمن المرجَّح أن يتنبأ بأنه أياً كان الرجل الذي سيفوز من الحزب الجمهوري وعلى الرغم من أي توجه خاص سيبرز خلال فترة الانتخابات، فإن وقائع الحكم وتسلم القيادة في عالم معقَّد سينتج بالتأكيد توجهاً جمهورياً مألوفاً في السياسة الخارجية. وفي النهاية سيكون هذا المحلل هو الذي على حق.

مضى على إدارة ترامب أقل من ستة أشهر، وما زالت معظم المناصب القائمة دون مجلس المستشارين فارغةً حتى الآن، لذا ينبغي على المرء أن يتريث قبل إصدار أحكام على الإدارة أو تنبؤات حول مستقبلها. ولكن قد أصبح من الواضح الآن أن هذه ليست إدارة ثورية، فالخطوط الرئيسية لسياساتها تتلائم بسهولة مع تلك التي كانت في العقود القليلة السابقة. قد لا يكون ترامب رئيساً تقليدياً، ولكن بدت سياسته الخارجية حتى الآن عادية جداً وبشكل ملحوظ.

رئاسة بريتبارت؟

وهذا أمر مختلفٌ جداً عن ما توقعه المراقبون (وما كان البعض قلقاً منه): وهو تحول راديكالي عن التقاليد وبروز ما يمكن تسميته بإدارة بانونية، نسبة لستيف بانون، الشعبوي القومي المتحمس الذي ترأَّس حملة ترامب وتم تسميته لاحقاً بالمسؤول الاستراتيجي للبيت الأبيض. قبل التحاقه بفريق ترامب، أدار بانون موقع بريتبارت الصحفي، وهي شركة ناشرة إلكترونية يصفها بأنها 'منصة لليمين البديل' والتي تقف في وجه 'العولميين' داخل مؤسسة السياسة الخارجية.

هناك سبب وجيد للاعتقاد بأن ترامب سيتيح المجال لبانون ليساعده في تشكيل توجهه. فبعد تنصيب ترامب، حصل بانون على مقعد في مجلس الأمن القومي، وهو منصب غير مسبوق بالنسبة لمستشار سياسي. وخلال فترة ترشحه ومع مرحلة الانتقال الرئاسي والأشهر القليلة الأولى من إدارته، أظهر ترامب استعداداً كاملاً ليقطع مع التقاليد السائدة في السياسات الخارجية، فقد وصف حلف الناتوا بأنه حلف 'عفا عليه الزمن'، محذِّراً أن الولايات المتحدة لم تكن 'عقلانية في تسديد النفقات الهائلة على حماية هذه الدول الضخمة ذات الثروات الهائلة... سوف أكون جاهزاً لأخبر هذه البلاد ‘مبارك لكم، عليكم الآن أن تحموا أنفسكم لوحدكم‘'. وقد أغضب الصين عندما أصبح أول رئيس أميركي، منذ أربعة عقود، يقوم بالتواصل مباشرة مع الرئيس التايواني ويقول بأنه قد لا يدعم سياسة 'الصين الواحدة'،والتي اتبعتها واشنطن منذ بدايات السبعينات. كما احتفى باستمرار بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين وأوقف الانتقادات الموجهة لسجل بوتين البائس في حقوق الإنسان. فعلى سبيل المثال رد بحسم قائلاً 'ماذا، هل تظنون أن بلادنا بريئةٌ جداً؟' وقد جعل ترامب من التحالفات الأميركية والشراكات التجارية في حالة من التوتر بعد التهديد بسحب اتفاقية التجارة الحرة لكوريا الشمالية (نافتا) وبـ'إنهاء' اتفاقية التجارة بين الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية.

من المفهوم أن يستنتج أي أحد ممن اطلع على مثل هذه التصريحات أو قرأ التغريدات التي كتبها ترامب أن الإدارة الجديدة سوف تقطع بشكل كبير مع التقاليد، ولكن ترامب لم ينحرف فعلياً عن هذه التقاليد. ففي شباط/ فبراير، أكَّد ترامب سياسة 'الصين الواحدة' وترك خطته الداعية لوسم الصين كمتلاعبة بالعملة. وبعد تعهُّده بإنهاء بنك الاستيراد والتصدير، غيَّر ترامب رأيه. كما فشل في تحقيق تهديده بـ'تمزيق' الاتفاقية الأميركية النووية مع إيران. وبعد توجيه الذم المستمر لحلف الناتو، تراجع ترامب عن ذلك في اجتماعه مع الأمين العام للحلف جينز ستولتينبرغ في نيسان/ أبريل، وأعلن ترامب الآن أن الحلف 'لم يعف عنه الزمن'. ولعل الضربة القاضية بين هذه الأمور، هي أنه بالرغم من قوله عدة مرات برغبته في تحسين العلاقات مع روسيا وأنه سيستعمل القوة العسكرية فقط عندما يريد حماية المصالح الأميركية، إلا أن ترامب أطلق ضربة صاروخية على سورية (والتي يتلقى نظامها الدكتاتوري دعماً كبيراً من روسيا) كرد على استخدام النظام السوري لغاز الساري، وهي جريمة بحق الإنسانية لا تهدد الولايات المتحدة بشكل مباشر.

إذا حاول الكرملين دعم حملة ترامب بشكل خفي (بحسب ما استنتجته الاستخبارات الأميركية) وكان فرحاً في البداية من فوز ترامب، فيبدو أن بتوين وحلفاءه يشعرون بالندم الآن. وعندما يأتي الأمر لروسيا، فقد تبنت إدارة ترامب نبرة سلبية اتجاهها، وكانت تُظهر عداءً واضحاً اتجاهها أحياناً. سألت سفيرة واشنطن بالأمم المتحدة نيكي هالي بعد ضربة السارين في سورية: 'كم ينبغي أن يموت المزيد من الأطفال قبل أن تبالي روسيا؟' لم يرفع البيت الأبيض العقوبات المفروضة على روسيا التي سنَّتها إدارة أوباما كاستجابة لاستيلاء موسكو على شبه جزيرة القرم وتدخلهم في الحملة. وأُجبِر فلين – وهو مستشار الأمن القومي الأول لترامب، والذي يعتبر مناصراً لتقوية العلاقات مع روسيا – على الاستقالة بعد تقديمه لمعلومات تضليلية لنائب الرئيس مايك بينس حول مناقشات أجراها مع السفير الروسي في الولايات المتحدة. كما رثى المتحدث الرسمي باسم بتوين ديمتري بيسكوف في آخر آذار/ مارس العلاقات الأميركية الروسية قائلاً أنها 'في أخفض نقطة ممكنة. وعبَّرت زيارة وزير الخارجية الأميركية ريسك تيليرسون في نيسان/ أبريل إلى موسكو عن الصدع العميق بين كلا الدولتين وكشف عن ما أطلق عليه تيليرسون 'درجة متدنية من الثقة'.

عودة هجمات المؤسسة

إن أولئك الذين توقعوا حدوث تغيرات سياسية أساسية – عن أمل أو خوف – قد بدأت تراودهم الشكوك مع إكتمال أعضاء فريق الأمن القومي الخاص بترامب. حيث عيَّن ترامب جنرالات متقاعدة رفيعة ليقوموا برئاسة البنتاغون ووزارة الأمن الداخلي (جيمس ماتيس وجون كيلي على التوالي)، وجنرال كمستشارٍ للأمن القومي (هربرت ماكماستر)، والمدير التنفيذي لشركة ExxonMobil كوزير خارجية (تيليرسون)، وعضو في الكونغرس بشهادات من أكاديمية ويست بوينت العسكرية وكلية هارفرد للحقوق كمدير لوكالة المخابرات المركزية (مايك بومبيو). يمثل فريق الأمن القومي الخاص بترامب 'المؤسسة' بقدر تمثيل جون كينيدي دوايت أيزنهاور لها. تشير هذه التعيينات – على الأقل من ناحية السياسة الخارجية –أن ترامب يريد أشخاصاً يُعتَمَدُ عليهم وقادرين على إعطاءه نصائح رزينة غير ملطَّخةٍ بالأيديولوجيا. (في بدايات نيسان/ أبريل، تم فصل بانون من مجلس الأمن القومي، وهو مؤشرٌ على الابتعاد عن شعبوية 'اليمين البديل' في حملة ترامب).  ثمة بعض أيديولوجيي 'أميركا أولاً' ضمن أعضاء البيت الأبيض، ولكنهم غائبون عن المشهد، وتأثيرهم ضئيل جداً. وما زالت تصورات السياسة الخارجية الخاصة بجاريد كوشنر – صهر الرئيس ومستشار مؤثر في البيت الأبيض – مجهولة كثيراً، ولكن ليست هناك دلائل على ابتعادها عن المألوف. لذا فعلى صعيد السياسة الخارجية، تبدو إدارة ترامب جمهورية تقليدية أكثر فأكثر.

وما هو أكثر من ذلك بطء الإدارة الملحوظ في ملئ المناصب الفرعية، بمعنى أنه ابتداءً من المستشارين الرئيسيين وانتهاءً بكبار المسؤولين هم ليسوا جمهوريين سياسياً بل هم ممن قدموا الخدمة المدنية والتي يرفضها مناصروا ترامب باعتبارها تمثل 'الحكومة الدائمة' أو 'الدولة العميقة'. عمل الجناح البانوني (نسبة لبانون) على إبعاد الكثير من المسؤولين الذين كانوا في الإدارات الجمهورية السابقة (بما فيهم أنا، بعد أن تم ترشيحي من قِبَل تيليرسون لكي أكون نائب وزير الخارجية)، ويبدو أن ذلك يعود لنقدهم لترامب خلال حملته الانتخابية. ولكن كان لهذه الإجراءات نتائج عكسية على الجناح البانوني، فحتى هذه اللحظة، امتلأت هذه المناصب بدلاً من ذلك بعاملي الخدمة المدنية الميالين للديمقراطيين. وسيتغير ذلك خلال الأشهر القادمة بعد اختيار هؤلاء الأعضاء لنوابهم. ولكن سيكون من المفاجئ إذا لم يختاروا أشخاصاً مشابهين لهم، أي متمرسين وتقليديين. وإذا تم تعيين موظفين تقليديين، فمن المرجح أن تكون إدارة ترامب أقل تدميرية بكثير مما كان متخيلاً ومتوقعاً.

مفاجأة سورية

كانت الطريقة الأخرى التي برز ترامب فيها قريباً من إحداث تغير دراماتيكي هي عندما كان في حالة من عدم الارتياح اتجاه الدور التقليدي لـ 'زعيم العالم الحر'. بالنسبة لترامب، فإن لعب هذا الدور سيستتبع الكثير من الالتزامات نحو أمور تجريدية، كـ 'المجتمع الدولي' على سبيل المثال. إن الرئيس باراك أوباما، وبالرغم من إشاراته الخطابية أحياناً، حاول أن يتحاشى هذا الدور أيضاً، مما أورث الشكوك حيال التزام الولايات المتحدة بالديمقراطية وحقوق الإنسان، خاصة في الشرق الأوسط. ففي عام 2009، استجاب أوباما بشكل هزيل للقمع الإيراني العنيف للحركة الخضراء الليبرالية، كما كان دوره ضعيفاً في إيقاف حملة القتل الجماعي التي ينفذها الديكتاتور السوري بشار الأسد. وبناء على ذلك فقد كان من المنطقي توقُّع أن يسير ترامب على خطى أوباما، وكان من المرجَّح أن يُظهِر المزيد من اللامبالاة أو العداء للسياسات المبنية على قيم غير ملموسة كالقيادة الدولية والأخلاقية وحقوق الإنسان.

وهذا هو ما جعل قرار ترامب بضرب سورية كحدثٍ مفاجئ. وخرج ترامب للشعب ليعلن ويوضِّح طبيعة هذه الضربات وانتهى بالقول: 'ما دامت تقف أميركا مع العدالة، فسيعم السلام والانسجام'. وعندما تحدث تيليرسون لاحقاً عن الضربات في مؤتمر صحفي، أشار إلى التهديد الذي يشكله وقوع الأسلحة النووية في أيدي من يمكن أن يستعملوها ضد الأميركيين، ولكنه قال أيضاً أنه 'من الضروري أن نتخذ القرار باسم المجتمع الدولي للتأكيد على أن استعمال الأسلحة الكيماوية ما زال يمثِّل اعتداءً على المعايير الدولية'. لذا وبعد بضعة أشهر من تسلمه للمنصب، قامت إدار 'أميركا أولاً' باستخدام أسلحة الولايات المتحدة العسكرية من أجل العدالة والمجتمع الدولي والمعايير الدولية.

إن ضربة صاروخية واحدة لا تعرِّفُ السياسة الخارجية لأي رئيس.،ولكن ترامب أراد بشكل واضح صياغة سلطة ومصداقية أميركية بأسلوب تقليدي تماماً. وذلك بالرغم من عدم قيام أوباما بمثل هذه الأشياء، في مقابل باقي الرؤساء الحديثين، وذلك بعد رفضه لـ 'قواعد لعبة واشنطن'.ولكن ترامب تحرَّك على الأقل ليؤكد على القيادة الأخلاقية الأميركية، حيث قال: 'حتى الأطفال الجميلون يُقتَلون بشكلٍ بشع في هذا الهجوم البربري'، مشيراً لاستخدام نظام الأسد للسارين، وأضاف قائلاً 'لا يبنغي لأي طفل لله أن يعاني مثل هذا الرعب'.

افعل الشيء الصحيح

كانت ضربات ترامب على سورية دفاعاً عن حقوق الإنسان لا الديمقراطية، ولم تمثل مقدمةً لنمط 'بناء الدول' الذي سخر منه ترامب خلال حملته الانتخابية. حيث أعلن في آب/ أغسطس 2016: 'إذا أصبحت رئيساً، فإن حقبة بناء الدول سيتم إنهاءها بسرعة وعلى نحو حاسم'. من المستحيل الجزم بالكيفية التي سيتعامل بها ترامب ومساعدوه مع التوتر القائم بين هذه العواطف والتحديات التي ستواجهها الولايات المتحدة في السنوات القادمة. ففي النهاية، وعندما استلم جورج بوش الرئاسة، كان ينتقد فكرة بناء الدول بنفس الطريقة، ولكنه وجد استحالة تجنب ذلك بعد الغزو الذي تزعَّمته الولايات المتحدة على أفغانستان والعراق. قد يجد ترامب أن فكرة بناء الدول ستكون ضرورية وجوهرية في تحقيق الاستقرار في سورية.

وبشكل عام، لا زال من غير الواضح كيف ستنسجم أهداف حماية حقوق الإنسان وتعزيز الديمقراطية مع سياسة ترامب الخارجية، فلا يحظى كلا الهدفين بالتفضيل لدى مستشاريه. في آذار/ مارس، عندما قامت 11 دولة، من بينها حلفاء مقربون من الولايات المتحدة مثل كندا والمملكة المتحدة، بإرسال رسالة صريحة للصين تعبر عن القلق حيال تعامل بكين مع حالة حقوق الإنسان الصينية للناشطين والمحامين، رفضت إدارة ترامب المشاركة في الرسالة. وعندما زار الرئيس الصيني شي جينبينغ البيت الأبيض في نيسان/ أبريل، لم يصدر البيت الأبيض أي تصريحات عامة حول حقوق الإنسان. وفي نفس الوقت، يبدو ترامب أقل ميلاً، في مقابل أسلافه السابقين، للاعتراض على الممارسات القمعية للزعماء الأقوياء والمستبدين. فعلى سبيل المثال، أشاد ترامب بالرئيس المصري عبد الفتاح السياسي ووصفه بـ'الرجل العظيم'، والسيسي – مثل شي – لم يحصل على أي نقد عام اتجاه سجله الرهيب في حقوق الإنسان عندما زار البيت الابيض في آذار/ مارس. وعندما فاز رئيس تركيا رجب طيب إردوغان في النتيجة غير العادلة للاستفتاء الذي أعطاه المزيد من القوة، جاء ترامب ليبارك له قبل أن يتم تأكيد النتائج من قِبَل السلطات التركية. كما دعا ترامب الرئيس الفلبيني رودريغو دوتيرتي لزيارة البيت الأبيض على الرغم من سجل حكومة دوتيرتي في القتل خارج النطاق القضائي.

ولكن من الجدير بالذكر أن الرؤساء الآخرين قد اتخذوا مواقف مشابهة في بدايات إدارتهم، إلى أن يغيروا الوجهة بعد فترة. فعندما قام الدكتاتور الفلبيني فرديناند ماركوس بزيارة لواشنطن في عام 1982، لم تُذكر كلمة 'حقوق الإنسان' أثناء حضوره، ولكن بعد أربعة سنوات، طالب الرئيس رونالد ريغان ورتَّب عملية استقالة ماركوس. تسلم كل من ريغان وجورج بوش الإدارة وهم يحملون انتقادات للسياسة الخارجية لأسلافهم الديمقراطيين بطريقة أخلاقية ساذجة تفتقد للواقعية، ولكن استنتج كلاهما لاحقاً أن رفع راية حقوق الإنسان يعزز من هيبة الولايات المتحدة وتأثيرها على العالم. كما جاء كلاهما وهم يرون فكرة بناء الدول كطريقة لتجنب أو تقليل التدخل العسكري الأميركي. لذا لا ينبغي لأحد أن يتفاجئ إذا ما اتجهت إدارة ترامب بنفس الاتجاه.

قديمة ولكنها جيدة

هناك بعض الأمور الجديدة في توجه ترامب نحو السياسة الخارجية. فالإدارة تسعى لهزيمة الدولة الإسلامية 'داعش' بشكل أنشط مما فعله أوباما، واستثمرت المزيد من المصادر لمساعدة القوات العراقية في استرداد مدينة الموصل ووضعت المزيد من الأميركيين على الأراضي السورية. وتحت رئاسة ترامب، باتت واشنطن تدفع أكثر ضد العنف والتخريب الإيراني، وتنشط أكثر في مراقبة مداخل قناة السويس في مضيق باب المندب (بين شبه الجزيرة العربية والقرن الأفريقي) كما تقدم مساعدة أكبر للتحالف الذي 'تتزعمه السعودية لقتال وكلاء إيران في اليمن'.

وعلى الصعيد التجاري، فمن المرجَّح أن يتبنى ترامب رؤية أضيق على مستوى الاتفاقيات متعددة الأطراف أكثر من أي رئيس مضى في العقود السابقة. لن يتهور ترامب في النهاية ويقطع مع الاتفاقيات القائمة، كما أن المقترحات التي قدمتها إدارته لمراجعة اتفاقية نافتا ليست جذرية بالكامل. ولكن بالنسبة للمفاوضات التجارية، فإن ترامب يعطي أولوية واضحة لأمن الوظائف الأميركية ويقلل من أهمية القيود البيئية.

من المرجَّح أن تستمر إدارة ترامب في رفع قضايا حقوق الإنسان على نحو خاص فقط، ويبدو أن هذه هي الخطوة الصحيحة. ولكن يستعمل البيت الأبيض أحياناً خيار النقد الخاص حتى عندما يبدو الضغط العام ضرورياً ومبرَّراً. وفي بعض الأحيان، لن تقوم الإدارة بذكر الموضوع من أساسه، حتى وإن كان ينبغي ذلك. حيث يبدو أن الرئيس يمتلك نفوراً عميقاً لإخبار الحكومات المستبدة الصديقة عن كيفية إدارة بلادهم، ومن الصعب زحزحة هذه الرؤية. وإذا تغير ذلك، فإنه سيكون بسبب أن ترامب قد رأى في انتهاكات حقوق الإنسان نوعاً من اللا إنسانية الواضحة وليس كفكرة تجريدية، كما حصل عندما شاهد قتل أطفال سوريا بغاز السارين. ومثال آخر على ذلك هو عندما لم يقل ترامب شيئاً عن قمع المعارضة في فنزويلا إلى حين لقاءه بزوجة القائد المعارض المسجون ليوبولدو لوبيز، فقد جعل هذا الاجتماع من القضية مسألة شخصية بالنسبة لترامب، فهذه المرأة وزوجها هم رجال شجعان، والحكومة الفنزويلية تسيء معاملتهم. وبنفس الطريقة، لم يقم ترامب بالضغط على الرئيس المصري السيسي لإطلاق سراح الناشطة آية حجازي من السجن فحسب، بل دعاها أيضاً للبيت الأبيض ليجتمع بها بشكل شخصي وجهاً لوجه.

تشير أفعال ترامب المبكرة إلى القليل من الأدلة – وبعض الإشارات المتضاربة – عن كيفية استجابته لبعض أصعب الاختبارات التي من المرجح أن يواجهها. ففي كوريا الشمالة، ندب تيليرسون محقاً '20 عاماً من التعامل الفاشل'، ولكن حتى الآن يبدو أن استراتيجيته تقوم على الطلب من الصين بأن تقوم بفعل المزيد. كما لم تلغي الإدارة اتفاقية النووي الإيرانية وكشفت عن القليل فيما يتعلق بكيفية تغييرها لمسار التهديد النووي الإيراني، وكشفت أقل من ذلك فيما يتعلق بالسياسة العامة نحو إيران. وأخيراً، ليس ثمة طريقة لمعرفة كيف سيستجيب ترامب نحو تصعيد الصين في توسعها في بحر الصين الجنوبي. ولكن جميع هذه الأمور لن تكون واضحة في ظل حكم أي رئيس، فالسياسة المتبعة نحو مثل هذه القضايا الحساسة ليست مؤكدة بعد بضعة أشهر فقط، خاصة مع تسلم الموظفين لمناصبهم للتو أو مع عدم تأكيدهم بعد.

إن جميع سياسات الإدارة تكون مزيجاً بين القديم والجديد. وفي حالة ترامب، فإن الاستثناء هي أن المزيج ذاته قد يتغير، فهناك المزيد من السياسات الجديدة ورفض واسع للسياسات الخارجية التي تبعها أسلاف ترامب. وهذا هو الانطباع الأكيد الذي يتركنا معه خطاب ترامب. ولكن سياسته الخارجية وأعضاء مجلس الأمن القومي أشارت حتى الآن إلى توجهات تقليدية في معظمها. ومن الممكن أن يتغير ذلك بالتأكيد، ولكن بناءً على الانطباعات المبكرة، فإن حقبة ترامب ستنزع أكثر نحو المزيد من الالتزام بالمواقف التقليدية للسياسات الخارجية للولايات المتحدة بدلاً من انحرافها عنها.

التعليقات