24/06/2017 - 20:50

لماذا ومتى بدأ الناس باستخدام العملة؟

قد تمر في بعض الأحيان على ورقة نقدية قذرة وممزقة تبدو وكأنها ألقيت على الطريق منذ الأزل. ولكن بالتأكيد لم تمكث الورقة مثل هذه المدة الطويلة، إلا أن تاريخ البشر في استعمال العملة النقدية يعود حقاً إلى وقت طويل جداً، إلى 40000 سنة.

لماذا ومتى بدأ الناس باستخدام العملة؟

(ترجمة خاصة: عرب ٤٨)

قد تمر في بعض الأحيان على ورقة نقدية قذرة وممزقة تبدو وكأنها ألقيت على الطريق منذ الأزل. ولكن بالتأكيد لم تمكث الورقة مثل هذه المدة الطويلة، إلا أن تاريخ البشر في استعمال العملة النقدية يعود حقاً إلى وقت طويل جداً، إلى 40000 سنة.

تتبع العلماء عمليات التبادل والجارة من خلال السجلات الأركيولوجية، وبدايةً بالعصر الحجري القديم عندما كانت مجموعات الصيادين تتاجر من أجل الحصول على أقوى الأسلحة وغيرها من الأدوات. كان البشر يتقايضون في البداية، حيث يقومون باتفاقات مباشرة بين طرفين للحصول على الأشياء المرغوبة.

وجاءت النقود بعد فترة من ذلك، وتطورت أشكالها عبر آلاف السنين، من استخدام المواد الطبيعية ومروراً بالعملات المعدنية والورق وانتهاءً بنسختها الرقمية. ولكن بِغَض النظر عن شكلها، فقد استعمل البشر العملة منذ مدة طويلة كوسيلة للمقايضة، وطريقة للدفع، وكقيمة معيارية، وكمخزن للثروة، وكوحدة حسابٍ أيضاً.

باعتباري عالم أنثروبولوجيا قام باكتشافات للعملات النقدية ميدانياً، فإني مهتم بكيفية تطور النقود في الحضارة الإنسانية، وبما تقوله لنا هذه الاكتشافات الأركيولوجية عن التجارة والتفاعل بين المجموعات المتباعدة.

لماذا يحتاج الناس للعملة؟

ثمة العديد من النظريات حول أصل النقود، وأحد أسباب ذلك هو أن للنقود وظائف عديدة: فهي تسهِّل عملية التبادل باعتبارها قيمة للقياس؛ كما توحِّد المجتمعات المتنوعة مع بعضها البعض من خلال تمكين القدرة على إعطاء الهدايا والتبادل؛ وهي تعزز التراتبية الاجتماعية؛ وأخيرها في أنها تعبِّر عن قوة الدولة. من الصعب أن نحدد بدقة تاريخ التفاعل باستخدام العملة بمختلف أشكالها، ولكن تشير الدلائل إلى أنها برزت من تبادل الهدايا وتسديد الديون.

 

نقود صينية من الصدف تعود لـ 3000 سنة.

إن المواد التي ظهرت بشكل نادر في الطبيعة والتي يمكن التحكم بعملية تداولها أصبحت تشكِّل وحدات للقيمة للتفاعلات والتبادل. وهذا يتضمن الصَدَف مثل أم اللآلئ التي كان يتم يتداولها بشكل واسع في الأمريكتين والصَدَف المتين الذي كان يُستَعمل في أفريقيا وأوروبا وآسيا وأستراليا. كما كانت مواد مثل النحاس الأصلي والحديد الأصلي أو المستخلص من النيازك والكهرمان  والخرز والنحاس والذهب والفضة وسبائك الرصاص جميعها تستخدم كعملة أيضاً. كما استعمل البشر الحيوانات الحية مثل الأبقار ولفترة متأخرة كشكل من أشكال العملة.

ظهر شيكل بلاد ما بين النهرين – وهو أول أشكال العملة المعروفة حالياً – قبل حوالي 5000 سنة. فهو أول عملة تُسَك بحسب ما هو معلوم، واستعملت بين 650 و600 ما قبل الميلاد في آسيا الصغرى، حيث استعملت النخبة الحاكمة في ليديا وإيونيا الفضة المختومة والنقود الذهبية لشراء الجيوش.

يشير اكتشاف مجموعات عملات الرصاص والنحاس والفضة والذهب عبر أرجاء العالم إلى أن سك العملة – خاصة في أوروبا وآسيا وشمال أفريقيا – كان معروفاً كوسيط للنقود السلعية (أي النقود التي تحمل قيمة في ذاتها بسبب مادتها المصنوعة) في بدايات الألفية الأولى بعد الميلاد. وإن تداول العملات الرومانية والإسلامية والهندية والصينية يشير إلى وجود التجارة ما قبل الحديثة (1250 قبل الميلاد – 1450 بعد الميلاد).

يعود نجاح سك العملة كنقود سلعية بشكل كبير لقابليتها للتنقل ومتانتها وقيمتها الذاتية. وبالإضافة إلى ذلك، يمكن للزعماء السياسيين أن يتحكموا بإنتاج النقود – عمليات التعدين والصهر والسك – وتداولها واستخدامها أيضاً. كما خدمت الأشكال الأخرى من الثورة والنقود، مثل الأبقار، المجتمعات الرعوية بشكل ناجح، ولكن لم يكن من السهل نقلها، وذلك عدا عن كونها سريعة التأثر بالكوارث البيئية.

وأصبحت النقود بعد ذلك أداةً للتحكم السياسي. حيث بات من الممكن استخراج الضرائب من أجل دعم النخبة الحاكمة وتوسيع الجيوش. ولكن يمكن أن تلعب النقود أيضاً دور القوة المثبِّتة للاستقرار التي تعزز من عملية التبادل السلمي للبضائع والمعلومات والخدمات بين الجماعات.

 عصي للحساب تعود للقرون الوسطى لتسجيل التبادلات والديون المالية. (مجلس متاحف مدينة ونشستر).

كانت النقود عبر التاريخ أداةً للحساب وتذكُّر التبادلات والتفاعلات. فعلى سبيل المثال، استعمل الأوروبيون في العصور الوسطى عصي للحساب بشكل واسع كدليل على تسجيل الديون.

تتبع النقود من أجل اكتشاف مسارات التبادل التجاري

في الماضي، كما اليوم، لم يكن هناك أي مجتمع يعيش في حالة من الاكتفاء الذاتي الكامل، وقد مكَّنت النقود الناس من التفاعل مع المجموعات الأخرى. كما استعمل الناس أشكالاً مختلفة من العملة من أجل حسب المصادر وتقليل المخاطر وصياغة التحالفات والصداقات كاستجابة للظروف الاجتماعية والسياسية المختلفة. إن الأدلة الكثيرة والعالمية حول حركة البضائع المحلية عبر المناطق المختلفة المأهولة بالسكان المستقلين عن بعضهم البعض – من الصيادين وحتى الرعاة، ومن المزارعين وحتى سكان المدينة – تشير إلى الدور المهم للعملة كوسيلة للتوحيد بين المجتمعات، فهي أشبه باللغة المشتركة التي يمكن أن يتحدث بها الجميع.

وعلى سبيل المثال، استعمل الأمريكيون الذين عاشوا من 1450 وحتى 500 قبل الميلاد حجر السبج (الزجاج البركاني) وصدف أم اللآلئ والحديد الخام ونوعان من الفخار كعملة للتجارة عبر الأمريكيتين، وهو ما يُعَد من أولى النماذج للتبادل التجاري الدولي الناجح. إن خط الحرير البحري التجاري، والذي بدأ بين 700 و1450 بعد الميلاد وصل بين الأوروبيين والآسيويين والأفارقة في تجارة دولية كانت تحويلية وتأسيسية في نفس الوقت.

 عملة صينية منذ بدايات الـ 1400 وجدت في كينيا من قِبَل الكاتب.

خلال أعمالي الحفرية الخاصة في عام 2012، استرجعت عملة "يونغل تونغباو" الصينية التي تعود لـ 600 عام من ميناء ماندا التجاري في كينيا القديمة، في المحيط الهندي. كانت النقود الصينية عبارة عن أقراص صغيرة مصنوعة من النحاس والفضة مثقوبة في المنتصف، ليتم ربطها بخيط على الأرجح. صدرت هذه العملة من قِبَل الإمبراطور يونغل من أسرة مينغ، وقد كان مهتماً في العمليات السياسية والتجارية للمناطق القابعة خلف بحر الصين الجنوبي وأرسل الأميرال "زينغ هي" للبحث في هذه الشواطئ، وذلك قبل حوالي الـ 80 عاماً من وصول "فاسكو دي غاما" للهند من البرتغال.

تشير مثل هذه الاكتشافات الأركيولوجية إلى مساهمة أفريقيا في التفاعلات التجارية في المحيط الهندي، كما تكشف عن دلائل وجود اقتصاديات السوق المبنية على القيمة النقدية في ذلك الوقت. في الساحل الأفريقي الشرقي، كان هناك التجارٌ المحليين وملوك السواحل المحليين الذين اتبعوا الإسلام ورسخوا هذه التفاعلات الخارجية مع تجار المحيط الهندي الآخرين. لقد أرادوا تسهيل عملية التبادل التجري، في حين كان للتجار من الشرق الأدنى وجنوب آسيا أجندتهم وعلاقاتهم التجارية الخاصة. لم تكن عملية سك العملة مسألة محلية وحسب بل كانت أيضاً طريقةً لتوزيع بطاقة اتصال وتوقيعٍ وعلامة رمزية للتفاعلات.

وكما بيَّن تاريخ النقود، فإن تأثير العملة ذو حدين: فهي تمكِّن حركة البضائع والخدمات، وتمكِّن أيضاً الهجرة والاستيطان من قِبَل الغرباء. وهي تأتي بالثروة للبعض، في حين تعجِّل التطورات الاجتماعية والاقتصاد وغيرها من الفروقات. وتتكشف مثل هذه الأنماط اليوم في العلاقات الحديثة بين الصين وأفريقيا، والتي أكثر تشابكاً الآن وبشكل غير متساوٍ في مقابل أول مرة جلب بها الأميرال "زينغ هي" العملات النقدية من الصين ضمن معاملات دبلوماسية، وكتوسيع رمزي للصداقات بين المسافات التي تفصل كلا المنطقتين.

في زماننا هذا، يعد امتلاك العملة النقدية أداةً للتمييزٍ بين الأغنياء والفقراء، بين المتطور والنامي، وبين شمال العالم وجنوبه. والنقود شأن شخصي وغير شخصي أيضاً، كما تتصل اللامساواة العالمية اليوم بإضفاء صفة الرسمية على النقود باعتبارها وسيلة لتحقيق الرفاهية الاجتماعية والاستدامة. وحتى مع استمرار تطور العملة في العصر الرقمي، فإن استعمالاتها اليوم ما زالت تشبه استعمالها بالنسبة لأسلافنا القدامى.

التعليقات