15/07/2017 - 13:39

ما الذي يحدث عندما لا تمتلك اللغة كلماتٍ خاصة بالأرقام

إن الأرقام غير موجودة في جميع الثقافات، فهناك جماعات من الصيادين التي لا تستخدم الأرقام وتسكن في أعماق مدينة أمازونيا، حيث تعيش بين أغصان الأشجار التي تنمو على أطراف أطول نهر في العالم. فبدلاً من استخدام كلمات تعبِّرُ عن الكميات

ما الذي يحدث عندما لا تمتلك اللغة كلماتٍ خاصة بالأرقام

(تويتر)

(ترجمة خاصة: عرب48)

إن الأرقام غير موجودة في جميع الثقافات، فهناك جماعات من الصيادين التي لا تستخدم الأرقام وتسكن في أعماق مدينة أمازونيا، حيث تعيش بين أغصان الأشجار التي تنمو على أطراف أطول نهر في العالم. فبدلا من استخدام كلمات تعبِّرُ عن الكميات بدقة، يعتمد هؤلاء تماما على تعبيرات مثل 'أقل من' و'بعض'.

وفي المقابل، تعتمد حياتنا بشكل كامل على الأرقام، فبينما تقرأ هذه المقالة، فمن المرجح أنك تعرف ما هي الساعة الآن، أو ما هو عمرك اليوم، كما تتفقد حسابك البنكي، وتكشف عن مقدار وزنك وهكذا. فإنها أرقام دقيقة (ومرهقة أيضا) تؤثر في نواحي حياتنا ابتداءً من جدولنا اليومي وانتهاءً بتقديرنا الذاتي.

ولكن من الناحية التاريخية، فإن طبيعة حياتنا اليوم القائمة على الأرقام هي التي تعدُّ استثناءً في التاريخ، فعبر تاريخ حياة الجنس البشري الذي تقدر بحوالي ٢٠٠٠٠٠ سنة، لم نكن نمتلك تعبيرات دقيقة حول الكميات. والأهم من ذلك هو أن الـ ٧٠٠٠ لغة الموجودة في العالم اليوم تتنوع كثيرا في طريقة تعاملها مع الأرقام.

إن حياة المتحدثين باللغات غير الرقمية، أو غير العددية، تقدِّم إطلالة على دور اختراع الأرقام في إعادة صياغة التجربة الإنسانية. في كتاب جديد لي، قمت باستكشاف طرق اختراع البشر للأرقام، وكيف لعبت الأرقام بعد ذلك دورا محوريا في معالم الحياة المختلفة، منذ مجيء الزراعة وحتى نشوء التدوين.

الثقافات غير العددية

تُعدُّ قبيلتا موندوروكو وبيراها في أمازونيا من الثقافات التي لا تستخدم الأرقام، أو تستخدم رقما أو رقمين محددين. كما درس الباحثون أيضاً بعض الراشدين من جمهورية نيكاراغوا الذين لم يتعلموا لغة الأرقام مطلقا.

من دون الأرقام، يستصعب الراشدون الأصحاء التمييز الدقيق وتذكر الكميات التي تقل عن أربعة. ففي إحدى التجارب، قام أحد الباحثين بوضع حبات فستق في علبة في دفعة واحدة، ثم عمل على إخراجها واحدةً تلو الأخرى، وسُئِلَ الشخص الذي يشاهد ذلك أن يتحدث عندما يتم إخراج جميع الحبات. وأشارت الاستجابات إلى أن الأشخاص غير الرقميين يواجهون بعض الصعوبات في تتبع كمية الحبات التي بقيت في العلبة، حتى لو تبقى منها أربعة أو خمس حبات.

تلاقت هذه التجربة مجتمعةً مع العديد من التجارب لتشير إلى نتيجة بسيطة: وهي أنه عندما لا يستعمل الناس كلمات للأرقام، فإنهم يواجهون صعوبة في عمل تقديرات كمية للأشياء والتي قد تبدو عاديةً لأشخاص مثلي ومثلك. وفي حين تنحصر اللغات غير الرقمية أو شبه الرقمية في مجموعة صغيرة من لغات العالم، إلا أنهم يظهورن أن لغة الأرقام ليست لغة بشرية.

ومن الضروري التأكيد على أن الأشخاص غير الرقميين هم طبيعيون من الناحية الإدراكية ومتكيفون مع البيئة التي استوطنوها منذ قرون. فباعتباري ابن لعائلة تبشيرية، فقد أمضيت بعض شبابي بين سكان أصليين غير رقميين، وهم قبيلة بيراها المذكورة سابقا والتي تعيش على أطراف نهر مايسي الأسود. ومثلي مثل باقي الأجانب، كنت أندهش باستمرار من قدرتهم المتفوقة على فهم البيئة النهرية والتي نعرفها نحن أيضا.

ولكن يواجه الناس غير الرقميين صعوبة في المهام التي تتطلب تفريقات دقيقة بين الكميات، وقد تكون هذه نتيجة غير مفاجئة. ففي كل الأحوال، كيف يمكن لأي شخص أن يخبرنا عن ما إذا كان هناك سبعة أو ثمانية حبات جوز الهند على شجرة ما من دون أن يقوم بالعد. فمثل هذه التفريقات البسيطة تصبح ضبابية أمام عيون غير الرقميين.

الأطفال والحيوانات

تتجلى هذه النتيجة عند العمل مع الأطفال غير الرقميين في المجتمعات الصناعية.

فقبل أن يتم تلقينهم كلمات الأرقام، لا يستطيع الأطفال أن يميزوا بين الأعداد التي تقل عن ثلاثة. حيث ينبغي أن نتلقَّى الأدوات الإدراكية للأرقام قبل أن نتمكن من إدراك الكميات الأكبر بسهولة واستمرار.

وفي الحقيقة، يُعدُّ تحصيل المعاني الدقيقة لكلمات الأرقام عمليةً مجهدةً تتطلب من الأطفال عدة سنوات. ففي البداية، يتعلم الأطفال الأرقام كما يتعلمون الحروف، ثم يدركون أن الأرقام مرتبة بشكل تسلسلي، ولكنهم يمتلكون وعيا قليلا حول ما يعنيه كل رقم بعينه، ومع مرور الوقت، يبدأون بفهم أن رقماً معيناً يمثل كمية أكبر بواحد من الرقم الذي يسبقه. وهذا 'المبدأ اللاحق' هو جزءٌ من تأسيس وعينا الرقمي، ولكنه يتطلب تدريبات مكثفة كي نفهمه بشكل حقيقي.

يعني هذا أنه ليس ثمة أي شخص يكون 'إنسانا رقميا'، فنحن لا نميل بطبيعتنا للتعامل مع الاختلافات الرقمية ببراعة. فإذا غابت التقاليد الثقافية التي تملأ حياتنا بالأرقام منذ ولادتنا، فمن المرجَّح أننا سنواجه صعوبة مع أبسط التمييزات الرقمية.

إن كلمات الأرقام والأعداد المكتوبة تغيُّر من وعينا الكمي بعد أن تصبح جزءا من خبرتنا الإدراكية بفضل عائلاتنا ونظرائنا ومعلمينا. وتبدو هذ العملية طبيعية جداً بحيث أننا نعتقد في بعض الأحيان أنها جزء طبيعي من نمونا، ولكن هذا غير صحيح. فالدماغ البشري يأتي محملا بغرائز كمية محددة تنضج مع تقدم العمر، ولكنها غرائز محدودة جدا، فعلى سبيل المثال، بإمكاننا أن نميز بين كميتين مختلفتين من الأشياء بعد الولادة، كأن نفرق بين ثمانية أشياء و١٦ شيئا.

ولكننا لسنا الكائنات الوحيدة القادرة على مثل هذه التجريدات، فبالمقارنة مع الشمبانزيات والقرود الأخرى، فإن غرائزنا الرقمية لا تختلف كثيراً كما يفترض ذلك الكثيرون. بل نحن نشترك ببعض الوعي الرقمي الغريزي الأساسي مع كائنات من غير الثديات أيضاً كالطيور. وقد تبين بعد العمل مع بعض الكائنات الأخرى – والببغاء من ضمنها – أنها قادرة أيضا على صقل وعيها الكمي في حال تعرفت على الأدوات الإدراكية التي ندعوها نحن بالأرقام.

كيف تمكنَّا إذاً من اختراع الأرقام 'غير الطبيعية'؟

الإجابة حرفيا تكمن في أصابع اليد، فمعظم لغات العالم تستخدم نظاما رقميا يقوم على العشرات أو العشرينات أو الخمسات، حيث تشكِّل هذه الأرقام الصغيرة الأساس الذي تقوم عليه الأرقام الكبيرة. تقوم اللغة الإنجليزية على العشرات أو اللغة العشرية، كما يظهر في كلمات رقم ١٤ ('أربعة' + '١٠') و ٣١ (ثلاثة x '١٠' + 'واحد').

نحن نتحدث لغة عشرية لأن لغة أسلافنا، الهندو أوروبية البدائية، كانت تقوم على نظام عشري، وقد كانت اللغة الهندو أوروبية البدائية تقوم على نظام عشري لأن – مثلها مثل الكثير من الثقافات – أيادي أسلافنا مثَّلت البوابة المنطقية لهم مثل 'خمسة أصابع في هذه اليد هي ذاتها الخمسة أصابع في اليد الأخرى'. تجلت مثل هذه الأفكار العابرة في الكلمات وانتقلت عبر الأجيال، وهذا هو سبب في أن كلمة 'خمسة' في العديد من اللغات استُمِدَّت من كلمة 'اليد'.

وبالتالي فإن غالبية الأنظمة الرقمية كانت نتيجةً ثانوية لعاملين أساسيين هما: القدرة اللغوية عند الإنسان وميلنا للتركيز على أيدينا وأصابعنا. هذا الترسيخ اليدوي – وهو نتيجة ثانوية وغير مباشرة لقدرتنا على السير على رجلتين بشكل مستقيم –ساعد على إدخال الأرقام في معظم الثقافات، ولكن ليس جميعها.

فالثقافات التي لا تستخدم الأرقام تقدِّم أيضاً إلهامات حول التأثير الإدراكي لمجموعة محددة من التقاليد اللغوية. فبِغَضِّ النظر عن الوقت، يحتكم يومك بالدقائق والثواني، ولكن هذه القياسات ليست حقيقية في الواقع المادي وليست معدومة كليا عن الناس غير الرقميين. فالدقائق والثواني هي البقايا الشفوية والمكتوبة لنظام ستيني غير شائع استعمله سكان بلاد الرافدين قبل آلاف السنين. وقد بقيت هذه الأنظمة الرقمية التي صنعها البشر في عقولنا والتي لا يرثها جميع الناس بشكل مجرد.

تُظهر البحوث في لغة الأرقام باستمرار أن أحد السمات الأساسية فينا نحن البشر هي التنوع اللغوي والإدراكي الهائل. فبالرغم من وجود مشتركات إدراكية عبر جميع البشر، إلا أن تنوعاتنتا الثقافية الواسعة تحتضن خبرات إدراكية عميقة ومختلفة. وإذا ما أردنا أن نفهم حقا درجة اختلاف إدراكاتنا عبر الثقافات، فينبغي علينا أن نغوص باستمرار في البحث عن التنوع اللغوي بيننا نحن البشر.

التعليقات