22/07/2017 - 13:24

مجموعة العشرين البائدة...

كان المشهد في قمة مجموعة العشرين في مدينة هابورغ مدهشاً للجميع. فمن جهة وقفت الولايات المتحدة، ومن جهة أخرى وقفت 18 دولة والاتحاد الأوروبي. ففي حين كانت اتفاقية التغير المناخي هي محط الخلاف، إلا أن ذلك كان يرمز إلى شيء

مجموعة العشرين البائدة...

(أ.ف.ب)

(ترجمة خاصة: عرب 48)

كان المشهد في قمة مجموعة العشرين في مدينة هابورغ مدهشاً للجميع. فمن جهة وقفت الولايات المتحدة، ومن جهة أخرى وقفت 18 دولة والاتحاد الأوروبي. ففي حين كانت اتفاقية التغير المناخي هي محط الخلاف، إلا أن ذلك كان يرمز إلى شيء أكبر من ذلك في وجهة نظر الكثيرين. في أحد الفيديوهات التي لاقت انتشاراً واسعاً، قال كريس أوهلمان من هيئة الإذاعة الأسترالية وبكل قوة: "لقد أصبحت مجموعة العشرين مجموعة الـ 19 زائد واحد". فقد تنازلت الولايات المتحدة عن دورها في الزعامة العالمية بينما يقف باقي العالم مذعوراً وكأنه يقف في صفٍّ واحد.

إنها صورة ملفتة، ولكنها تخفي من الأمور أكثر مما تظهر. فليس ثمة مجموعة الـ 19، وما من جبهة موحدة. صحيح أن ترامب قد انعزل عن قضية التغير المناخي، وصحيح أيضاً أن الولايات المتحدة باتت تُسائِل منجزات النظام العالمي الذي صنعته ولا زالت تستفيد منه، إلا أن الانقسامات القائمة في مجموعة العشرين أعمق بكثير من مجرد الخيبة من ترامب، فالهيكل بأكمله يمثل بقايا لعالم لم يعد موجوداً.

إن الاعتبار الذي قامت عليه مجموعة التي انطلقت في نهاية التسعينات هو صياغةُ تعاونٍ بين جميع القوى الكبرى والالتفاف حول نموذج واحد من النظام الدولي الليبرالي. حيث اعتقدوا بأنهم عندما يتفاعلون ويتجارون فيما بينهم سيصبحون "أصحاب مصالح ذو مسؤولية" في هذا النظام، مما يعني مشاركة التحديات وتقليل الاختلافات الجيو سياسية. ومع مرور الوقت، سيعملون على لبرلة أنظمتهم السياسية والاقتصادية، حتى لو قصَّر البعض في بناء الديمقراطية الليبرالية.

وصل أوج هذا التعاون في أواخر عام ٢٠٠٨. فمع انتكاس العالم بعد أسوأ أزمة اقتصادية منذ الثلاثينات، استضافت الولايات المتحدة أول قمة لزعماء مجموعة العشرين، مدركةً بأن جميع أعضاء الدول يمتلكون مصلحة مشتركة في تفادي الكارثة الاقتصادية. كانت الآمال عالية بأن تقوم مجموعة العشرين بتوسيع مخصصاتها نحو الأمن الدولي والتحديات العالمية.

ومنذ ذلك الوقت، أصبح الواقع الجيو سياسية يدور حول انحلال هذا التجمع الدولي، واستُبدِلَ التعاون بالتنافر. ففي السنوات الأخيرة، بدأت روسيا والصين الصاعدتان برؤية النظام الليبرالية كتهديد بالنسبة لها ودفعت ضده على الصعيدين المحلي والدولي. كما تحولت العولمة من وعودها بتحقيق الازدهار للجميع إلى حالة من الركود والاستعانة بالمصادر الخارجية، كما تلاشت آمال الإصلاح في الشرق الأوسط بعد حرب العراق وفشل الصحوة العربية. ومع بداية حكم أوباما، بدأ الأمريكان يتسائلون عن ما إذا كان ينبغي عليهم حمل عبء الزعامة العالمية.

أ.ف.ب

لقد عم الحديث مؤخراً حول انقسام العالم اليوم إلى ثلاثة معكسرات، بين وضمن القوى الكبرى. المعسكر الأول هم الإصلاحيون، والذين يريدون عودة الأمور لما كانت عليه في السابق، فهم يريدون للولايات المتحدة أن تستعيد عباءة الزعامة العالمية مرة أخرى، وأن تتوحد الدول الأوروبية بشكل أكبر، كما يؤمنون بالعولمة والتعاون متعدد الأطراف. وعادة ما يقفون ضمن تيار يسار الوسط ويمين الوسط في الدول الغربية، ويُعدُّ إمانويل ماكرون وأنجيلا ميركل وشينزو أبه ممثلين عن هذا المعسكر.

أما المعسكر الثاني فهم المعارضون، الذين يرغبون بإسقاط النظام القديم باستبداله بنمط جديد. فيريد الروس أن يروا أجواء القوة العظمى في القرن التاسع العشر القائم على مجالات التأثير، كما يشتهي الصينيون تحصيل مجال تأثير إقليمي، ولكنهم يمتلكون مصلحة – على عكس الروس – في الحفاظ على النظام الاقتصادي الدولي. وهناك مجموعة منهم في الغرب تقع في أقصى اليمين وأقصى اليسار ممن يريدون إنهاء العولمة وحل نظام التحالف الذي تتزعمه الولايات المتحدة.

ويقف الشعبويون في المعسكر الثالث، وهم لا يريدون أن يبذلوا جهداً في دعم النظام الدولي ويركزون أكثر على المصالح القومية الضيقة. كما يميلون إلى لوم الدول الأخرى على مشاكلهم، ويبدون مرتاحين لزوال العديد من عناصر هذا النظام – كالاتفاقيات الاقتصادية والالتزامات الأمنية – ولكنهم لا يسعون لاسبتدال ذلك بنمط آخر. إن راكبي موجة التعاطف القومي يريدون أن يفعلوا القليل ويكسبوا الكثير. يتضمن هذا المعكسر ترامب، والسياسيون البريطانيون المناصرون للخروج من الاتحاد الأوروبي، وتركيا التي تنزع نحو السلطوية، بالإضافة للعديد من الرموز الأخرى ضمن المجتمعات الغربية مثل بيرني ساندرز من اليسار وتيد كروز من اليمين.

بدأ العالم بالانقسام على طول هذه الخطوط قبل تاريخ الثامن من تشرين الثاني/ نوفمبر ٢٠١٦. فحتى قبل الانتخابات الرئاسية الأمريكية، كانت الشراكة العظمى العابرة للمحيط الهادئ والتجارة العابرة للمحيط الأطلسي والشراكة الاستثمارية كلها في ورطة، حيث كانت تسعى الصين لتوسيع تأثيرها في بحر الصين الجنوبي، واستولت روسيا على القرم، كما كان الاتحاد الأوروبي يواجه أزمة وجودية، بينما كانت تنحدر الولايات المتحدة، وإن بشكل غير كبير، ولكنها كانت في حالة من الانحدار. كما سعى أوباما لفرض تكاليف على بوتين روسيا، وعزز التجارة الحرة، وتحدث ضد مجالات التأثير. وكل ذلك انتهى بشكل كبير مع انتخاب ترامب، حيث سعى لمصادقة روسيا، والضغط على حلفاء الولايات المتحدة، وهدد بإطلاق حرب تجارية، كل ذلك باستثناء أن يقول أن أيام الزعامة الأمريكية للنظام الدولي قد ولَّت.

أ.ف.ب

أكد انتخاب ترامب نهاية حقبة التعاون، والعالم يحاول الآن معرفة مدى ضعف أو مرونة النظام الدولي. فهُم يدركون أن ترامب هو شخص ناقد ولكنهم يدركون أيضاً أنه مقيد بتيار واسع ضمن إدارته وبمجموعة من المعاهدات والتوزيعات العسكرية. إنهم يعتقدون أن الوضع الراهن غير مستقر، ولكنهم لا يعرفون كيف يمكن أن ينتهي. فالمعارضون لا يريدون التحرك قبل الوقت المناسب لأنهم غير قادرين على تحمل مخاطر العزلة ورد الفعل والفشل، فينبغي أن تكون الخطوة الأولى حذرةً جداً مع رئيس الولايات المتحدة المتقلب والغامض، ومع ذلك بدأت الانكشافات الأولى بشكل جدي.

لقد قدمت قمة مجموعة العشرين في هامبورغ لمحة سريعة عن المستقبل. فبشكل مفاجئ، مضت الأيام التي كنا نرى فيها قمة المجموعة كاجتماع مملٍ جداً. ففي هذه المرة، تناقش الزعماء في قضايا جوهرية تدور حول ضرورة بقاء الاقتصاد الدولي مفتوحاً أم يتم إغلاقه، كما تجادلوا في التغير المناخي. وشاهدوا ترامب بغضب وهو يحاول تشكيل علاقته مع بوتين. وفي حين حاول رئيس الصين شي جينبينغ أن يضع بلاده في موقع مسؤولية أكبر من الولايات المتحدة كان يتصدر بوتين مركز الساحة. وحاول الأوروبيون في تلك الأثناء الحفاظ على بعض مظاهر الوحدة العابرة للمحيط الأطلسي.

كانت أكثر العناصر الصادمة في القمة هو الشعور بوصول أمريكا لحالة من الضعف في هذه المرحلة من حكم ترامب. لقد تم الحديث كثيراً حول فشل تعيين مسؤولين خبراء في وزارة الخارجية والبنتاغون، وعن حالة الاختلال الوظيفي ضمن البيت الأبيض، و ما زال التوتر مستمراً. لقد مارست إدارة ترامب العديد من الأخطاء الصغيرة والكبيرة في ألمانيا والتي عززت شكوكاً حقيقية حول كفاءتها. وكان اللقاء مع بوتين هو الأكثر فظاعة، وذلك عندما وافق ترامب على بناء قوات أمريكية روسية مشتركة في حماية الإنترنت، وهي فكرة لم تستمر لأكثر من ٢٤ ساعة. إن قراءة وزير الخارجية ريكس تيلرسون لمضمون المباحثات كانت فاضحة لها بشكل غير مقصود، فقد ذكر كيف أن الولايات المتحدة وروسيا تشتركان بالأهداف نفسها، وكيف أنهم يريدون تجاوز ماضي اختراق الانتخابات ليركزوا على المستقبل، وكيف أن بوتين يحمل الحل الأفضل لنهاية الحرب في سوريا. يمتلك ترامب وتيلرسون عدة خبراء في الشأن الروسي وشخصيات متمرسة في الأمن القومي، ولكنهم لم يحضورهم إلى هذا الاجتماع لأسباب غير مفهومة.

لم يكن هناك أي تصريح من القمة حول التهديدات والممارسات العدائية المتزايدة من قبل كوريا الشمالية. فإذا دفع ترامب نحو شيءٍ اتجاهها، فمن المرجح أنه سيعمل على صياغة اتفاقية لاحتواء نظام كيم، ولكن بدلاً من ذلك، وافق ترامب وبدون جدال على اعتراضات روسيا والصين التي تقول بأنه لا ينبغي لمجموعة العشرين التعامل مع القضايا الأمنية.

كما يوجد أيضاً مشاكل ضمن مستويات أقل، مثل الصحفية التي خلطت بين الصين (جمهورية الصين الشعبية رسمياً) وتايوان (جمهورية الصين)، أو جلوس إيفانكا ترامب مكان والدها في طاولة مجموعة العشرين، وهو ما يدعِّم السردية القائلة بأن إدارة ترامب قد أصبحت شأناً عائلياً. والأمر الذي له دلالة هو كسر ترامب للتقاليد وعدم عقده لمؤتمر صحفي بعد القمة، وأحد التفسيرات الراجحة لذلك هي قلق فريقه مما يمكن أن يقوله، خاصة فيما يتعلق باجتماعه مع بوتين.

إن رسالة هامبورغ – كما هو الحال مع زيارة ترامب للمملكة العربية السعودية – هي أنه من الممكن التلاعب برئيس ساذج، فكل اجتماع معه يمثل فرصة استراتيجية، وهذه هي اللعبة التي تلعبها الدول الأخرى الآن.

أ.ف.ب

خلال السنوات الخمس القادمة، سيكون التركيز على سمة وإيقاع هذه الحقبة الجديدة من التنافس الاستراتيجي. وعلى عكس الاعتقاد السائد، من غير المرجح قيام صراع كبير بين القوى العظمى، فلا تمتلك روسيا والصين أية نية في قتال الولايات المتحدة بشكل مباشر – وفي الحقيقة أنها تسعى لعكس ذلك – فالتكلفة ستكون عالية. وبدلاً من ذلك، سوف نرى الدول وهي تتنافس فيما بينها بكل الأساليب لتحقيق أهدافها من دون أن تصل للحرب، بما في ذلك الوسائل الاقتصادية كالعقوبات والتعريفات الجمركية والاتفاقات التجارية، والحروب الإلكترونية كتلك التي تستخدمها روسيا والصين، والحروب بالوكالة كما هو الحال مع الحرب الأهلية السورية، والتحالفات الرسمية وغير الرسمية، والدبلوماسية القسرية، والقوة الناعمة. كما أن واقع تداخل العالم اليوم يجعل الكثير من هذه الأسلحة أكثر فاعلية من السابق.

تمتلك كل من المعسكرات الثلاث قرارات أساسية ليتخذها، فينبغي للحكومات الإصلاحية أن تقرر ما إذا كانوا سيملؤون الفراغ الذي تركته إدارة أوباما أم لا، ولكن سيكون ذلك حملاً ثقيلاً بلا شك، خاص في أوروبا التي ما زالت عالقة في انقسامات عميقة حول المستقبل الذي تريده. وفي الولايات المتحدة، سيضطر السياسيون الإصلاحيون ومستشاروا السياسة الخارجية لاقناع الشعب الأمريكي بضرورة عودة البلاد للتقاليد الدولية للسياسات الخارجية، ولن يكون ذلك أمراً سهلاً. فالقضية تكمن فيما إذا كان بمقدورهم استعادة الرئاسة الأمريكية وهل سيكون بمقدورهم تصحيح المسار في حال نجاحهم. سيحتاج الإصلاحيون ليراجعوا الخيارات التي كان ينبغي اتخاذها بطريقة مختلفة خلال العقد الماضي، وكيف يمكن للرئيس المسقبلي أن يعكس مسار ضعف النظام الدولي، وكيف يمكن للانفتاح أن ينفع الجميع بطريقة ملموسة، وليس النخبة فقط.

على المعارضين أن يقرروا إلى أي درجة سيختبرون إصرار أمريكا. فهناك اعتقاد سائد بأن شي سيلعب بحذر إلى حين اقتراب موعد مؤتمر الحزب التاسع عشر، ولكن قد يصبح أكثر حزماً بحلول عام ٢٠١٨. ولكن سيبقى نظام التحالف مع الولايات المتحدة في آسيا كما هو وجود اندفاعات قوية ضد الصين داخل البيت الأبيض. قد تؤدي أي خطوة صينية كبيرة إلى نتائج عكسية. ولكن تبقى علامة السؤال الكبرى موجهة نحو بوتين، ففي حين تمكن من تحقيق أهدافه في هابورغ، إلا أن تحقيق شراكة حقيقية مع الولايات المتحدة لا زال صعب المنال، ليس بسبب تشكك ترامب منه، ولكن لأنه أضعف من أن يحقق ذلك. وبمجرد إبعاد عملية إعادة انتخابه في عام 2018، سيضطر بوتين لاتخاذ قرار حول ما إذا كان سيستفيد من خطوات ترامب الغامضة اتجاه النظام الدولي، ليتقدم بخطوة أكبر نحو تحقيق شيء لا يمكن الرجوع عنه من قِبَل أي رئيس مستقبلي للولايات المتحدة، مثل كسر حلف الناتو.

أ.ف.ب

وثمة خيارات أيضاً للشعبويين. فهم يريدون الحصول على حصتهم وتناولها – من دون بذل جهد، ولكن من دون المعاناة من ضرائب ذلك – إلا أن الحياة لا تسير بهذه الطريقة. ففي حال تمكن ترامب من فرض رؤية أميركا أولاً على السياسة الخارجية للولايات المتحدة، فسيواجه قرارات مروعة متتالية وهو يشاهد انشقاق النظام الدولي. قد يكون المسار الأسهل هو الاستماع لوزير الدفاع ومستشار الأمن القومي والمستشارين الاقتصاديين، والتوقف ضمن حدود ذلك. كما عليهم أيضاً أن يروا روسيا كما هي – أي باعتبارها منافساً جيوسياسياً للولايات المتحدة – أو الاستمرار بمتابعة الشارة المنذرة الداعية للشراكة. في لحظة معينة، سيُواجَه ترامب أيضاً بحقيقة قاسية في الجبهة الاقتصادية، وهي أنه يستحيل وجود اقتصاد وطني صحي من دون اقتصادٍ دولي صحي في القرن الواحد والعشرين. فسياسات التسول على الجيران لن تعمل، خاصة في عند مجيء الأزمة الاقتصادية.

فوق كل ذلك، يحتاج الأمريكان ليفهموا أن حقبة ما بعد الحرب الباردة قد انتهت. فالمشكلة ليست في قومية ترامب، بل هي أن فكرة التعاون نفسها التي جسدتها مجموعة العشرين قد انسحقت تحت ضغوطات الركود الاقتصادي، وفشل الصحوة العربية، والمعارضات الروسية والصينية، والشعبوية الغربية. لقد عادت الآن أسئلة رئيسية حول مستقبل النظام الدولي. فما زالت الدول العظمى في حاجة للتعاون ولكن ذلك سيكون أصعب من ذي قبل، ولم تكن الأحداث في هامبورغ إلا لمحةٌ عن ما هو قادم في المستقبل.

التعليقات