21/08/2017 - 20:53

لماذا يقتنع الناس بنظريات المؤامرة؟

كنتُ جالساً في القطار عندما دخلت مجموعة من مشجعي كرة القدم وقاموا باحتلال الكراسي الفارغة المحيطة بي بعدما انتهوا من مباراتهم، والتي يبدو أن فريقهم كان فائزاً فيها. أمسَكت إحداهن بصحيفة ورقية مهملة وضحكت باستهزاء وهي تقرأ عن "الحقائق البديلة"

لماذا يقتنع الناس بنظريات المؤامرة؟

(فيسبوك)

(ترجمة: عرب 48)

كنتُ جالساً في القطار عندما دخلت مجموعة من مشجعي كرة القدم وقاموا باحتلال الكراسي الفارغة المحيطة بي بعدما انتهوا من مباراتهم، والتي يبدو أن فريقهم كان فائزاً فيها. أمسَكت إحداهن بصحيفة ورقية مهملة وضحكت باستهزاء وهي تقرأ عن "الحقائق البديلة" الأخيرة التي روَّجها دونالد ترامب.

وبدأ الآخرون بمشاركة أفكارهم حول ولع رئيس الولايات المتحدة بنظريات المؤامرة. وانتقلت الثرثرة سريعاً إلى نظريات مؤامراتية أخرى واستمتعت بالتنصت عليهم عندما هزأت المجموعة بشكل فظ من الأشخاص الذين يؤمنون بكون الأرض مسطحة، ومن يعتقدون بأن مسارات الغيوم مصنوعة من مواد كيماوية ينشرها بعض العلماء، بالإضافة لآخر أفكار غوينيث بالترو.

ثم هدأ النقاش قليلاً، واستغل أحدهم الفرصة ليعبِّر قائلاً: "قد تكون هذه أفكاراً غير منطقية، ولكن لا تحاولوا إخباري بأنكم تثقون بما يغذَّى به عقولنا! خذوا الهبوط على القمر مثلاً، فقد كان مشهداً مزوراً بوضوح ولم يكن جيداً في ذلك أيضاً، وقد اطلعت على تدوينة قبل أيام تشير إلى عدم وجود أي نجم في الصورة أصلاً!"

واندهشت عندما شاركت المجموعة بتقديم "أدلة" أخرى تدعِّم أكذوبة الهبوط على القمر، مثل عدم تناسق الظلال في الصور، ورفرفة العلم مع عدم وجود غلاف جوي في القمر، والتساؤل عن كيفية تصوير نيل آرمسترونغ وهو يمشي على السطح بينما لم يكن هناك أحد يحمل الكاميرا.

فقبل دقيقة بدوا كأشخاص عقلانيين قادرين على تقييم الأدلة والوصول لخلاصات منطقية، ولكن انجرفت الأمور الآن إلى مساحة ساذجة. فأخذتُ نفساً عميقاً وقررت المشاركة.

"في الحقيقة يمكن تفسير كل ذلك بسهولة".

نظروا إلي بذعر لأنني شخص غريب حشر أنفه في حوارهم، وأكملت معارضتي لكلامهم، وألقيت عليهم وابلاً من الحقائق والتفسيرات العقلانية.

"لم يرفرف العلم بسبب الرياح، بل تحرك بحسب ما صممه المهندس باز ألدرين! وقد تم التقاط الصور خلال وقت النهار في القمر، وأنت لا تستطيع رؤية النجوم خلال النهار. والظلال الغريبة ظهرت بسبب العدسات ذات الزواية الواسعة التي استخدموها وهو ما تسبب بحرف الصور. ولم يأخذ أي أحدٌ لقطات لنيل وهو ينزل عن السلم، فقد كانت هناك كاميرةٌ معلقة في الخارج وهي التي صورت قفزته العملاقة. وإذا لم يكن كل ذلك كافياً فإن الدليل النهائي يأتي من سفينة الاستطلاع الفضائية التي تدور حول القمر والتي التقطت صوراً لموقع الهبوط حيث يمكن أن ترى بوضوح المسارات التي تركها رواد الفضاء عندما تجولوا على سطحه".

حدَّثت نفسي قائلاً: "يا لها من ردود قوية!"

ولكن يبدو أن المستمعين لم يقتنعوا بما قلت، فتوجهوا نحوي ورددوا المزيد والمزيد من الإدعاءات السخيفة. فستانلي كوبريك هو من ألَّف المشهد، وقد مات المؤدون بظروف غامضة، وهكذا ...

وقف القطار على أحد المحطات، لم تكن محطتي ولكني اغتنمت الفرصة للهرب، وبينما كنت أفكر في ذلك تعجبت لماذا فشلت الحقائق التي ذكرتها في تغيير عقولهم.

الإجابة البسيطة على ذلك هو أن الحقائق والحجج والعقلانية لا تفيد في تغيير معتقدات الناس، وهذا لأن أدمغتنا العقلانية مركَّبة على منظومة تطورية غير متطورة جداً. أحد أسباب تشكُّل نظريات المؤامرة هو رغبتنا بأن نفرض نظاماً على العالم وقدرتنا العجيبة على إدراك الأنماط. فبالتأكيد، أظهرت دراسة حديثة وجود علاقة بين حاجة الفرد للنظام وميله للاعتقاد بنظريات المؤامرة.

خذ هذا الرقم المتسلسل على سبيل المثال:

0 0 1 1 0 0 1 0 0 1 0 0 1 1

هل يمكنك رؤية النمط؟ تقريباً، ولست وحدك من يمكنه ذلك. فعبر استطلاع سريع على موقع تويتر (وهو تكرار لدراسة أكثر تماسكاً) أشار لوجود56 % من الناس يوافقون على وجود نمط، وذلك بالرغم من أني كتبت هذا الرقم المتسلسل عبر اللعب بعملة معدنية.

لكن يبدو أن حاجتنا للنظام ومهارتنا في إدراك الأنماط يمكن أن تصبح أمراً مبالغاً، مما يتسبب بحدوث ميل لرصد الأنماط – مثل الأبراج والغيوم التي تبدو بشكل معين والمطاعيم التي تسبب التوحد – بالرغم من عدم وجودها في الحقيقة.

من المرجَّح أن قدرتنا على رؤية الأنماط كانت إحدى سمات البقاء المفيدة لأسلافنا، فمن الأفضل أن تخطئ في رصد أثر الفريسة بدلاً من تجاهل وجود قطة كبيرة جائعة حقيقية. ولكن عند توجيه ذات هذا الميل إلى عالمنا المليء بالمعلومات فسنرى روابط غير موجودة بين السبب والنتيجة – نظريات المؤامرة – في كل مكان.

ضغط النظائر

هناك سبب آخر لحماستنا للإيمان بنظريات المؤامرة، وهو أننا كائنات اجتماعية وتهمنا مكانتنا الاجتماعية (من وجهة نظرٍ تطورية) أكثر من قول ما هو صواب. وكنتيجة لذلك نقوم باستمرار بمقارنة أفعالنا ومعتقداتنا بنظائرنا، ثم نغيرها كي تصبح أكثر انسجاماً معهم. يعني ذلك أنه لو اعتقدت الجماعة المحيطة بنا بشيء ما، فمن المرجح أن نسير مع القطيع.

تجلى هذا التأثير الاجتماعي على السلوك بشكل ممتاز في عام 1961 في تجارب الشارع، والتي كان يجريها عالم النفس الاجتماعي الأميركي ستانلي ملغرام (والذي يشتهر بعمله عن الانصياع لسلطة المشاهير) وزملاؤه. كانت التجربة بسيطة (وممتعة) بحيث يمكنك تكرارها. ما عليك إلا أن تقف على زاوية في شارع مكتظ وتحدق في السماء لمدة 60 ثانية.

من المرجح أن يقف عدد من المارة ليتفقدوا ما تراه. وجد ميلغرام في تجربته أن حوالي 4% من المارة شاركوه النظر. والآن اجلب معك بعض الأصدقاء ليشاركوك في هذا التحديق. سيزداد عدد المجموعة مع الوقت لتصبح 15 شخصاً، سيتوقف حوالي 40% ويرفعوا أعناقهم برفقتك. من المؤكد أنك شاهد ذات هذا التأثير بنفسك في الأسواق عندما تجد نفسك مندفعاً إلى أحد الرفوف لمجرد تجمهر الناس حولها.

وينطبق ذات المبدأ وبنفس القوة على الأفكار، فإذا ازداد عدد الناس الذين يقتنعون بمعلومة معينة، فمن المرجح أن نقبل بها كحقيقة. وفي حال تكرر ذلك عبر الجماعة فستصبح الفكرة جزءاً من رؤيتنا للعالم. ويعد هذا الإثبات الاجتماعي وسيلة أكثر إقناعاً من البراهين المثبتة الواضحة، ولهذا يعد ذلك أسلوب إقناعٍ مشهوراً في الإعلانات ("80% من الأمهات يوافقون").

يعد البرهان الاجتماعي واحداً من أبرز المغالطات المنطقية التي تتسبب أيضاً بتجاهل الأدلة. يرتبط ذلك أيضاً التحيز المسبق، وهو ميل الناس للبحث والاقتناع بالمعلومات التي تدعم تصوراتهم مع إغفال المعلومات التي تعارضها. جميعنا نعاني من ذلك، تذكر فقط آخر مرة استمعت فيها لجدال عبر الراديو أو التلفزيون، كيف ترى الحجة التي تعارض رؤيتك بالمقارنة مع تلك التي تتوافق معها؟

والاحتمالات القائمة لذلك، وبغض النظر عن مدى عقلانية كلا الطرفين، هو أنك ستتجاهل الحجج المعارضة وسترحب لتلك التي تتوافق معك. يعرَّف التحيز المسبق أيضاً بالميل لاختيار المعلومات من المصادر التي تتوافق مع رؤيتك (والتي من المرجح أن تأتي من الجماعات التي نرتبط بها). ومن هنا أيضاً تحدد قناعاتك السياسية في الغالب المنافذ الإعلامية التي تفضلها.

وبالتأكيد هناك نظام اعتقادي يدرك وجود المغالطات المنطقية مثل التحيز المسبق ويحاول أن يثبت تناقضها. فالعلم، ومن خلال تكرار المشاهدات، يقلب القصص المثيرة إلى معلومات، ويقلل من التحيز المسبق ويوافق على إمكانية تغير النظريات أمام البراهين. يعني هذا أنه يُبدي انفتاحاً في تصحيح نصوصه الأساسية، ومع ذلك، يصيبنا التحيز المسبق جميعاً. فلدى عالم الفيزياء ريتشارد فاينمان مثالٌ معروف في ذلك عندما تحدث في واحد من أدق المجالات في الفيزياء، فيزياء الجسيمات.

"قاس ميليكان شحنة إلكترون عن طريق إجراء تجربة على قطرات زيت متساقطة ووصل إلى نتيجة لا نعتقد بصحتها الآن. إنها نتيجة غريبة، لأنه لم يكن يمتلك قيمة صحيحة للزوجة الهواء. من المثير للاهتمام أن ننظر لتاريخ قياسات شحنة الإلكترون بعد ميليكان. فإذا وضعتها ضمن تسلسل زمني، فستجد أن إحداها أكبر بقليل من قياس ميليكان، والتي تليها أكبر بقليل من سابقتها، والتي تليها أكبر بقليل من سابقتها، إلى أن تصل إلى قيمة كبيرة".

"لماذا لم يكتشفوا قيمة الرقم الجديد الأكبر مباشرةً؟ إنه شيءٌ يخجل منه العلماء – في هذا التاريخ – لأنه يبدو أن الأمور قد سارت كالتالي: فعندما اكتشفوا رقماً أكبر بكثير من رقم ميليكان، اعتقدوا بوجود خطأ ما وأنه يتوجب عليهم البحث ليجدوا سبباً لهذا الخطأ، وعندما وصلوا لرقم أقرب لميليكان توقفوا عن البحث".

حوادث خرق الأساطير

قد تُبدي حماسةً لتستلم وسيلة إعلامية مشهورة عن طريق مواجهة المفاهيم الخاطئة ونظريات المؤامرة عبر أسلوب خرق الأساطير. يبدو أسلوب تسمية الأسطورة إلى جانب الحقيقة أسلوباً جيداً لمقارنة الحقيقة بالأكاذيب جنباً إلى جنب كي تتجلى منها الحقيقة. ولكن تبين لنا أن هذا توجه خاطئ، فهو يستخلص شيئاً بات يُعرف بالتأثير العكسي، أي تحول الأسطورة إلى شيءٌ أكثر بروزاً من الحقيقة.

ظهرت أغرب الأمثة على ذلك في دراسة لتقييم نشرة إعلامية عن "الأساطير والحقائق" المتعلقة بمطعوم الأنفلونزا. وبعد قراءة المنشور مباشرةً، تذكَّر المشاركون بدقة الحقائق كحقائق والأساطير كأساطير. لكن بعد 30 دقيقة فقط انقلبت الأمور على رأسها، فقد أصبحوا يتذكرون الأساطير باعتبار أنها هي "الحقائق".

بمجرد ذكر الأسطورة فإنك تساعد على تدعيمها، فالزمن سيمر وستنسى سياق سماعك للأسطورة – وفي هذه الحالة خلال محاولتك لكشف الحقيقة – ولن يبقى إلا ذكر الأسطورة ذاتها.

وليزداد الأمر سوءاً، من الممكن أن تتدعم العقائد الراسخة عبر تقديم المعلومات الأصح، وذلك بالرغم من أن المعلومات الجديدة تقوضها. فالدليل الجديد يخلق تناقضات في معتقداتنا مع شعور بعدم الارتياح النفسي، ولكن بدلاً من تعديل معتقداتنا نميل لذكر تبريرات ذاتية وتشكيل رفضٍ أقوى للنظريات المعارضة، وهو ما يزيد من التصاقنا بأفكارنا. وقد أصبح يُعرَف ذلك بـ"أثر البومرانغ"، وهي مشلكة كبيرة تمر بها عندما تحاول توجيه الناس نحو سلوكات أفضل.

فعلى سبيل المثال، أظهرت الدراسات أن رسائل المعلومات العامة التي تهدف لتقليل استهلاك الدخان والكحول والمخدرات تمتلك جميعها تأثيرات معاكسة.

بناء الصداقات

لذا إذا لم تكن قادراً على الاعتماد على الحقائق، فكيف يمكنك أن تقنع الناس بترك نظريات المؤامرة أو الأفكار الأخرى غير العقلانية؟

قد يساعد التفكير العلمي في ذلك على المدى الطويل. لا أعني في ذلك معرفة الحقائق والرموز والأساليب العلمية. فالمطلوب في المقابل هو القدرة على التفكير بطريقة علمية، كالتفكير التحليلي على سبيل المثال. فبالتأكيد ترتبط الدراسات التي ترفض نظريات المؤامرة باستخدام التفكير التحليلي. لن يشتغل معظم الناس بالعلم، ولكننا نمر عليه ونستخدمه في حياتنا اليومية وبالتالي يحتاج الناس لمهارات التقييم النقدي للادعاءات العلمية.

وبالتأكيد، لن يساعد تعديل المنهج الدراسي للدولة في نقاشي الدائر في القطار. ومن باب طرح توجه معتدل، من المهم أن ندرك أن وجودك ضمن مجموعة يساعد على ذلك كثيراً. ولكن قبل البدأ بنشر الرسالة، لنبحث عن بعض النقاط المشتركة.

وفي تلك الأثناء، وكي نتجنب التأثير العكسي، عليك تجاهل الأساطير، فلا تذكرها أو تصرح بها، فقط أذكر النقاط الرئيسية: اللقاحات آمنة وتقلل من فرص الإصابة بالأنفلونزا بنسبة 50% إلى 60%، نقطة. لا تذكر الأكاذيب، لأنها أمْيَل لأن يتم تذكُّرها.

ولا تقم بمواجهة الخصوم عن طريق تحدي رؤيتهم للعالم. وبدلاً من ذلك قدم التفسيرات التي تؤثر على معتقداته المسبقة. فعلى سبيل المثال، يميل منكرو التغير المناخي المحافظون عادةً إلى تغيير رؤاهم عندما يروا فرص عملٍ مناصرة للبيئة.

ثمة إقتراح إضافي أيضاً، استخدم القصص لتوضح وجهة نظرك، فالناس ينسجمون مع الروايات بشكل أكبر بدلاً من الجدال والنقاشات الوصفية. حيث تربط القصص بين السبب والنتيجة، مما يجعل الخلاصة التي تريد الوصول إليها واضحة بشكل أكبر.

وبالتأكيد لا يعني كل هذا عدم أهمية الحقائق والمواضعات العلمية، فهي مهمة جداً، ولكن تحصيل الوعي بالثغرات القائمة في تفكيرنا يمكِّنُك من تقديم وجهة نظرك بطريقة مقنعة أكثر.

من المهم أن نتحدى العقائد الجامدة، ولكن بدلاً من ربط النقاط غير المرتبطة وصياغة نظريات المؤامرة، نحتاج لأن نطلب الدليل من صناع القرار، وأن نطلب البيانات التي قد تدعم معتقدا ما والبحث عن المعلومات التي تختبرها. ويعد إدراك تحيزاتنا الأولى ومحدوديتنا ومغالطاتنا المنطقية جزءاً من هذه المهمة.

لذا كيف كان يمكن أن يسير معي النقاش في ذاك القطار إذا ما أصغيت لهذه النصائح التي كتبتها . . . لنعد إلى تلك اللحظة عندما شاهدت الأمور وهي تنحدر نحو تلك المساحة الساذجة. فالآن، سوف آخذ نفساً عميقاً وأقول:

"مرحباً، كانت نتيجةً رائعة في اللعبة، للأسف لم أحصل على تذكرة".

ثم سندخل أكثر في الحوار ونتناقش حول فرص الفريق في هذا الموسم. وبعد بضعة دقائق من الثرثرة سوف أدخل في نظرية المؤامرة التي تتعلق بالهبوط على القمر وأقول: "كنت أفكر في هذه الأمر الذي ذكرته عن الهبوط على القمر، ألم تكن الشمس موجودة في الصور؟".

سيهز رأسه.

"مما يعني أن الوقت كان نهاراً آنذاك، لذا وكما هو الحال مع الأرض فهل تتوقع أن ترى أية نجوم؟"

"هاه، أظن ذلك، لم أفكر في ذلك من قبل، ربما لم تكن تلك التدوينة محقةً بالكامل".

التعليقات