15/02/2022 - 23:38

كيف تمكّنت روسيا من دفع أوروبا للاعتماد عليها في النفط والغاز؟

بدأت عواقب الاعتماد على الطاقة في روسيا تتجلى بعد انهيار الاتحاد السوفييتي في عام 1991، وصعود فلاديمير بوتين بعد عقد من الزمان، إذ أظهر بوتين استعداده لدمج الأهداف الاقتصادية والجيوسياسية في سياسة الطاقة الروسية وممارسة ضغوط على الجيران.

كيف تمكّنت روسيا من دفع أوروبا للاعتماد عليها في النفط والغاز؟

خط للغاز الطبيعي يُخطَّط ربطه بخط "North Stream" مع أوروبا ("أ ب")

في ما يلي ترجمة بتصرّف، خاصّة بموقع "عرب 48" لمقال الكاتب ريان حدّاد، الباحث في مركز "إد سنايدر" للمؤسسات والأسواق بجامعة "ميريلاند" في الولايات المتحدة.


تأمل إدارة بايدن أن يؤدي تهديدها بـ"العواقب الاقتصادية الوخيمة" إلى ردع روسيا، ودفعها للتراجع عن غزو أوكرانيا، وهو أمرٌ يقول المسؤولون الأميركيون إنه قد يكون وشيكًا. وهددت الولايات المتحدّة ردًا على ذلك بأنها قد تحظر صادرات الرقائق الإلكترونية الدقيقة وغيرها من التقنيات والقطاعات مثل الذكاء الاصطناعي والفضاء، وحتى بتجميد أصول الرئيس الروسيّ، فلاديمير بوتين، من بين عقوبات أخرى. كما ويُعِدّ مجلس الشيوخ في غضون ذلك "عقوبات كاسحة" أخرى ليفرضها على البنوك الروسية والديون الحكومية، والتي يمكن أن تدخل حيّز التنفيذ، حتى لو تراجع بوتين في نهاية المطاف عن المواجهة العسكرية.

أكدت الولايات المتحدة وحلفاؤها اتفاقهم على معاقبة روسيا في حالة غزوها أوكرانيا، وهذا من نتائج اجتماع الرئيس جو بايدن في 7 شباط/ فبراير الجاري مع المستشار الألماني، أولاف شولتس. إلا أن لدى روسيا ما يقوّض هذا الاتفاق، إذ تعتمد مجموعة من الدول الأوروبية، وألمانيا على وجه الخصوص، عليها في صادرات الطاقة، وبخاصة الغاز الطبيعي، وهو ما قد يجعل تلك الدول الأوروبية مترددة في دعم العقوبات الأميركية الشديدة.

خلال مدّ خط أنابيب "نورد ستريم" ("أ ب")

ولكن اعتماد هذه الدول على روسيا ليس وليد اللحظة، فكما تعلمت أثناء عملي على كتابٍ عن الحرب الاقتصادية الأميركية ضد الاتحاد السوفييتي خلال الحرب الباردة، تميل هذه القضية إلى تقسيم أميركا وحلفائها، ويرجع ذلك جزئيًا إلى الطريقة التي استغلت بها روسيا غموض نواياها.

قلق منذ الحرب الباردة

تكهنت الولايات المتحدة دائمًا استعداد روسيا لاستخدام التجارة في لَيّ أذرع الدول الأخرى، وهو قلق يعود إلى الأيام الأولى من الحرب الباردة، فقد حاول كل من الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة، على سبيل المثال، في وقت تنافسهما في أواخر الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، التأثير على البلدان التي لا تتوافق رسميًا مع أي من القوتين العظميين لكسب فرَص الهيمنة بعد انتهاء الحرب. حذّر بعض المحللين الأميركيين من "هجوم اقتصادي سوفييتي". وشمل ذلك الجهود السوفييتية لاستخدام الصفقات التجارية المواتية والمساعدات الاقتصادية الأخرى لدول حلف "وارسو" والدول المحايدة مثل فنلندا والجمهورية العربية المتحدة، والهند، بطريقة خلقت اعتمادًا مستدامًا على موسكو، مما قد يمكّن من وجود قوة مستقبلية في يد الكرملين.

منشآت خط أنابيب الغاز "نورد ستريم 2" شمال ألمانيا ("أ ب")

واختلف محللون آخرون، واعتقدوا أن التجارة السوفييتية كانت مدفوعة إلى حد كبير بحركة الاقتصاد الطبيعية. وكذلك صدّق حلفاء أميركا، وبخاصة بريطانيا، وقاوموا الدعوات الأميركية لتقييد التجارة الإستراتيجية مع الكتلة السوفييتية والجهود الأخرى للحد من آفاق التجارة السوفييتية. توضح وجهات النظر المختلفة هذه غموض النوايا السوفييتية. لم تكن دوافع موسكو واضحة بالنظر إلى التنافس في الحرب الباردة ووضع الاتحاد السوفييتي كاقتصاد مركزي تديره الدولة.

جون كينيدي يحارب خط أنابيب النفط

عندما بدأ الاتحاد السوفييتي في تطوير خطوط أنابيب النفط والغاز إلى أوروبا، صار اعتماد الطاقة الأوروبية على روسيا مصدر قلق لواشنطن، فقد كانت أوروبا الغربية في الستينيات تستورد 6٪ فقط من نفطها من الكتلة السوفييتية، لكن خط أنابيب نفط جديد مخطط له يمتدّ على طول الطريق من الشرق الأقصى الروسي عبر عدة دول أوروبية، بما في ذلك أوكرانيا وبولندا، وينتهي في ألمانيا؛ أشار إلى أن السوفييت كانوا يأملون في تغيير تلك الحقيقة. وضرَب احتمال زيادة الاعتماد على روسيا، فضلا عن المخاوف الإستراتيجية الأخرى، أجراس الإنذار في واشنطن.

الرئيس الروسيّ، بوتين ("أ ب")

حاولت إدارة كينيدي في عام 1963 وقف بناء خط أنابيب النفط "دروغبا" أو خط "الصداقة"، من خلال فرض حظر على تصدير الأنابيب ذات القُطْر العريض على الدول المتحالفة مع الاتحاد السوفييتي، مع العلم أنه لم يكن بمقدور الإجراء أن يوقِف المشروع وحده، فقد ضغطت الولايات المُتحدة على الحلفاء، وبخاصة ألمانيا الغربية، المُصدِّر الرئيسي للأنابيب، للانضمام إلى هذا الحظر. وافقت ألمانيا الغربية على مضَض للسماح بفرض حظر جزئي على حلف شمال الأطلسي "ناتو"، بينما رفضت بريطانيا. ومع ذلك، تم الانتهاء من خط الأنابيب بعد عام مع تأخيرات طفيفة فقط.

أشعلت مناورة ريغان الغازية شرارة الأزمة

واجهت إدارة ريغان بعد نحو عقدين من الزمن معضلة مماثلة، إذ كان الاتحاد السوفييتي في عام 1981 يبني خط أنابيب للغاز الطبيعي من سيبيريا إلى أوروبا الغربية، وحاولت إدارة ريغان إقناع الحلفاء الأوروبيين مثل فرنسا وألمانيا بالانضمام إلى الحظر الذي تفرضه ليس فقط على معدات خط الأنابيب للمشروع، بل وللتمويل أيضًا، إذ نظرت إليه على أنه تهديد آخر. رفض الحلفاء، وردّت الولايات المتحدة بعقوبات تهدف إلى منع الشركات الأوروبية من توفير الأموال أو المعدات للمشروع. أشعلت المناورة أزمة داخل الغرب وزرعت الانقسام بين الولايات المتحدة وأوروبا، وأدى ذلك إلى تراجُع عن العقوبات بعد بضعة أشهر فقط، واكتمل بناء خط الأنابيب في عام 1984.

استخدام الاعتماد على الطاقة كسلاح

بدأت عواقب الاعتماد على الطاقة في روسيا تتجلى بعد انهيار الاتحاد السوفييتي في عام 1991، وصعود فلاديمير بوتين بعد عقد من الزمان، إذ أظهر بوتين استعداده لدمج الأهداف الاقتصادية والجيوسياسية في سياسة الطاقة الروسية وممارسة ضغوط في الوقت المناسب على الجيران، وهو ما يبرره بشروط السوق، وذلك خلافًا لأسلافه الذين امتنعوا عن إيقاف صادرات الطاقة.

خريطة مرسومة لخطّ أنابيب "نورد ستريم 2" من روسيا إلى ألمانيا ("أ ب")

في منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين على سبيل المثال، كانت أوكرانيا لا تزال تتلقى شحنات الغاز المدعومة بقوة من روسيا، استمرارًا للوضع الذي كانت فيه أوكرانيا جزءًا من الاتحاد السوفييتي. وقبل عدة سنوات أدت "ثورة البرتقال" في نهاية عام 2004 إلى الإطاحة بالزعيم الموالي للكرملين، واستبداله بشخص يسعى إلى توطيد أواصر العلاقات مع الغرب، وعندها طالبت شركة "غازبروم" أوكرانيا، بدفع أسعار السوق بالكامل مقابل غازها بعد ذلك بعام.

عندما رفضت أوكرانيا الدفع، قيَّدت روسيا تدفُّق الغاز عبر خطوط الأنابيب، ولم تترُك من الغاز سوى ما يكفي للوفاء بعقودها مع الدول في أوروبا الغربية. بدت هذه الخطوة للعديد من المراقبين على أنها تهدف إلى زعزعة استقرار الحكومة الموالية للغرب في كييف، كما استخدمت الخُطوة لاحقًا كأساس للادعاءات بأن أوكرانيا كانت دولة عبور غاز غير موثوق بها، ممّا ساعد في بناء الدعم لخط أنابيب جديد يسمى "نورد ستريم" لنقل الغاز مباشرة من روسيا إلى ألمانيا.

آليات عسكرية روسية في شبه جزيرة القرم ("أ ب")

افتُتح الخط في عام 2011 وأسفر عن خسارة سنوية لأوكرانيا قدرها 720 مليون دولار أميركي من رسوم العبور، كما رفع "نورد ستريم" بشكل كبير، من اعتماد ألمانيا على الطاقة الروسية، والتي صار بحلول عام 2020 يقدَّر بنحو 50٪- 75٪ من غازها الطبيعي، مرتفعًا من 35٪ في عام 2015. لا يُستخدم الغاز الطبيعي في صناعة الطاقة فحسب، بل يستخدم أيضًا للتدفئة وتوليد الكهرباء في ألمانيا.

اقرأ/ي أيضًا | حيرة بوتين

صار خط الأنابيب هذا مسؤولا الآن عن ثُلث إجمالي صادرات الغاز الروسي إلى أوروبا. ووصلت صادرات الغاز الروسي إلى أوروبا نتيجة لذلك إلى مستوى قياسي في عام 2021 على الرغم من جهود الولايات المتحدة في رفع صادراتها من الغاز الطبيعي المُسال إلى أوروبا.

تلقّت أوروبا لَمْحة عن العواقب المحتَمَلة لهذا الاعتماد في كانون الأول/ ديسمبر 2021، عندما خفّضت روسيا صادراتها من الغاز إلى أوروبا مع اشتداد حدة الأزمة الأوكرانية. وعلى الرغم من أن روسيا لا تزال تفي بعقودها من الناحية الفنية، فإنها توقفت عن بيع أي غاز إضافي كما كانت تفعل في الماضي، وهو ما حدا بوكالة الطاقة الدولية في الشهر التالي، لاتهام روسيا بزعزعة استقرار أمن الطاقة الأوروبي.

هل سيفعلها بوتين مرّة أُخرى؟

بحسب ما ورد، فقد حشدت روسيا حوالي 130 ألف جندي على حدودها مع أوكرانيا التي تحيط بالبلاد من ثلاث جهات. وفي حين ما تزال نوايا بوتين غير واضحة، تقود الولايات المتحدة الجهود لردع الغزو المحتمل من خلال إظهار أن حلفاءها الغربيين على استعداد لفرض عقوبات مدمرة، بما في ذلك وعد بايدن بإحباط خط أنابيب جديد يمتد من روسيا إلى ألمانيا بقيمة 11 مليار دولار يُعرف باسم "نورد ستريم 2"، لكن اعتماد أوروبا، وعلى وجه التحديد ألمانيا، الكبير على روسيا في مصادر الطاقة، يجعلها عُرضَة للخطر نظرًا لتاريخ روسيا في التهديد بقطع إمدادات الغاز عن جيرانها، وفي بعض الأحيان تنفيذها لتلك التهديدات، وقد يقوِّض هذا قدرَة الغرب على تنفيذ حملة عقوبات منسَّقة.

بوتين وشولتس في موسكو، الثلاثاء ("أ ب")

وقد تكون أزمة الطاقة في الشتاء كارثية لألمانيا مثلًا، وقد يؤدي الخوف من هذه الكارثة إلى إضعاف استعداد ألمانيا للعمل ضد روسيا، ويمكن رؤية مثال حديث على المرونة الألمانية المحتَملة تجاه روسيا في فشل المستشار الألماني، أولاف شولتس في تأييد إيقاف خط أنابيب "نورد ستريم 2" كعقوبة محتَمَلة ضد الغزو.

يعطي استخدام روسيا للتجارة والطاقة، لخلق التبعيات للكرملين؛ يدًا قوية وورقة رابحة. ورقة لا تملك الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون إلا خيارات محدودة لمواجهتها.

التعليقات