السلطان صلاح الدين: لمحات من حياته وصور من مآثره

السلطان صلاح الدين: لمحات من حياته وصور من مآثره
صدر في القاهرة كتاب عن أعمال ومآثر صلاح الدين الأيوبي تعد من عزمات الصديقين الذين يأتون كل فترة من الزمن، فيعيدون إليه إتزانه، ويصححون له ما اعوج منه. حول هذه الشخصية يقدم لنا مركز السيرة والسنة بالمجلس الأعلى للشئون الإسلامية، كتاب: «السلطان صلاح الدين، لمحات من حياته وصور من مآثره» التي شارك فيها كل من: رجب عبدالمنصف، وأمل خضيري، وسعاد عبدالستار. توضح الدراسة في البداية أن التطرق الى عصر صلاح الدين يدعونا الى ترديد مقولة: «ما أشبه الليلة بالبارحة».فمنطقتنا العربية في ذلك الوقت كانت مقسمة بين خلافة إسمية، لا تملك ضرا ولا نفعا، ودويلات هزيلة، وكيانات متخاذلة.


وليت الأمر اقتصر على هذا التجزؤ والتفتيت، وإنما كان الأمر أشد من ذلك وأنكى، فالأسرة الواحدة تتنازع فيما بينها وتتعدد زعاماتها بتعدد أفرادها، ويقع التطاحن بين الأخ وأخيه، والابن وأبيه، والعم وأبناء أخيه،


وهو ما يظهر بصورة واضحة لدى أبناء السلطان السلجوقي ملكشاه فضلا عن سائر الأتابكة.ومن هنا لم تجد الحملة الصليبية الأولى 491هـ - 1097م مقاومة منظمة توقف إندفاعها أو تعرقل سيرتها،


وهو الأمر الذي يصوره لنا المؤرخ البريطاني «مونتجمري وات» بقوله: «إنه في نهاية القرن الحادي عشر لم يكن هناك حاكم مسلم قوي واحد، في المناطق التي هاجمها الصليبيون، بل كان هناك عدد من الحكام المحليين الصغار الذي انفقوا الشطر الأول من وقتهم وطاقتهم في قتال جيرانهم، وقد جعل هذا من المستحيل عليهم أن يتحدوا ضد الغزاة».


أما بالنسبة الى الفاطميين فكان الأمر أشد وأقرب الى الخيانة، إن لم تكن هي ذاتها، وهو ما جعل ابن تغر بردي يتعجب من عدم مشاركة الفاطميين في المعركة «ولم ينهض الأفضل بإخراج عساكر مصر، وما أدري ما كان السبب في عدم اخراجه مع قدرته على المال والرجال».


غير أن ابن الأثير كان أكثر جراءة من ابن تغربردي فذكر أنه يقال: «إن أصحاب مصر من العلويين لما رأوا قوة الدولة السلجوقية، وتمكنها واستيلاءها على بلاد الشام حتى غزة، خافوا فأرسلوا الى الإفرنج يدعونهم الى الخروج الى الشام ليملكوها».


ونتيجة لهذا وذاك نجح الصليبيون في تأسيس اربع إمارات هي: إمارة الرها 1098م، وإمارة أنطاكية 1098م، ومملكة بيت المقدس 1099م، وإمارة طرابلس 1099م.


هكذا كان الوضع قبل أربعين عاما من ميلاد صلاح الدين، حيث أطلت الوحشية في أبشع صورها، ورأينا الهمجية المذرعة بالمسيح عليه السلام تحت إمرة باباوات الكنيسة الذين دعوا أتباعهم عام 1095 في مدينة كليرمونت الفرنسية «لتوحيد الجهود لاستخلاص الأراضي المقدسة من المسلمين مقابل أن يرعاهم الله ويبارك جهودهم ويغفر ذنوبهم».


وتحت عنوان: «أسرة صلاح الدين الأيوبي» تشير الدراسة الى إنتماء صلاح الدين الى أسرة كريمة تعد من أوسط الأكراد نسبا وعشيرة، ترجع في أصولها الى قرية تعرف بـ «دوين» وإن كانت قد ضربت في عرض البلاد وطولها، فأبوه نجم الدين ولد بشبختان وربي في الموصل، كما ولد صلاح الدين في تكريت.


وقد تميزت هذه الأسرة بصفات النجدة والشجاعة والشغف بالجهاد والهيام به.


وأول أعمدة هذه الأسرة هو نجم الدين أيوب والد الناصر صلاح الدين، والذي امتاز بحسن السياسة والكياسة، وقد عمل مع صاحب شرطة بغداد مجاهد الدين بن بهروز، ثم ولاه السلطان محمد بن ملكشاه قلعة تكريت، وفيها حسنت إدارته.


وكان من صور مروءته ونجدته والتي ورثها عنه بعد ذلك ابنه الناصر أن مد يد العون لعماد الدين زنكي عندما انهزم عند أسوار ولايته فأحسن اليه وأنقذه من الأسر أو القتل. فحفظ له زنكي هذه اليد وأبدله بها خيرا عندما زالت ولايته فخرج وأخوه أسد الدين شيركوه من تكريت ومعهما صلاح الدين الذي ولد في تلك الليلة،


فتوجهوا صوب زنكي الذي أكرم وفادتهم وبادلهم إحسانا بإحسان، وولى نجم الدين بعلبك وأقام بها الى أن اضطر للتنازل عنها لصاحب دمشق مقابل تمكينه من بعض قرى دمشق عندما اشتد الحصار على بعلبك ولم ينجده السلطان نور الدين، ثم عاد بعد ذلك الى نور الدين وسلم اليه دمشق عندما خشي أن يسلمها صاحبها الى الصليبيين، وقد أقره نور الدين بعد ذلك فآل اليه والى ولده النظر في أمورها.


أما ثاني أعمدة هذه الأسرة فهو أسد الدين شيركوه شقيق نجم الدين وعضده وساعده الأيمن وإن تميز كل منهما بصفة غلبت عليه، فإن كان المرجح في الرأي والمعمول عليه في المشورة عند السلطان نور الدين هو نجم الدين، فإن أسد الدين هو المقدم عند القتال المؤمل للظفر، ومن ثم فقد جعله السلطان في طليعة جيشه الممهد لملكه وأغدق عليه في بحبوحة العيش ورفاهيته ما جعله طوع أمره ورهن إشارته.


وتتحدث الدراسة عن علاقة صلاح الدين الوطيدة بالعلم مشيرة إلى أنها من الشمائل التي تميز بها وأعاد الى الأذهان من خلالها سيرة الخلفاء العلماء في الحرص على العلم والشغف به، وهو أمر لاتكاد تخطئه العين لمن تأمل سيرته أو درس تاريخه وأعماله،


ويمكن تتبع اهتمام صلاح الدين بالعلم من خلال رصد عدد من المظاهر الواضحة في سيرته وحياته:


ـ ثقافة صلاح الدين: حيث لم يشأ أن يترك نفسه لأعمال الفروسية وشئون الحرب والجهاد دون أن يصقلها بالمعرفة ويأخذها بالعلم، فأقبل على القرآن الكريم يحفظ ويدرس ويتدبر ويعمل،


فقد ذكر السبكي أنه حفظ القرآن الكريم، ثم اتجه بعد ذلك بكليته الى سماع الحديث بالأسانيد، وقد فسر لنا ابن شداد هيامه بالسماع فقال: «وكان شديد الرغبة في سماع الحديث، ومتى سمع عن شيخ ذي رواية عالية وسماع كثير، فإن كان ممن يحضر عنده استحضره وسمع عليه، وأسمع من يحضره في ذلك المكان من أولاده ومماليكه المختصين به، وكان يأمر الناس بالجلوس عند سماع الحديث إجلالا له، وإن كان الشيخ ممن لا يطرق أبواب السلاطين ويتجافى عن الحضور في مجالسهم سعى اليه وسمع عليه».


ـ علاقة صلاح الدين بالعلماء: فقد ظل حريصا على الاستزادة من العلم، معنيا بالتواصل المعرفي، من خلال علاقة وثيقة تربطه بالعلماء تمثلت من ناحية في استشارة الفقهاء فيما يجد من أمور.


وفي المقابل نجد حرص العلماء على تأليف الكتب وتقديمها اليه مثلما فعل قطب الدين النيسابوري حيث جمع له مسائل العقيدة في كتاب، وكان من شدة حرصه عليها يعلمها الصغار من أولاده حتى ترسخ في أذهانهم منذ الصغر، كما جمع ابن شداد كتابا عن أخبار الجهاد يشتمل على نصوص وآداب،


كما عمل له شيت بن ابراهيم المعروف بالحاج القناوي كتابا سماه: «تهذيب ذهن الداعي في إصلاح الرعية والراعي»، كما صنف له كذلك أبوالفضل عبدالرحمن كتابا سماه: «المنهج المسلوك في سياسة الملوك».


ـ اهتمام صلاح الدين بالعلماء: حيث أولى العلماء جل عنايته إذ عرف لهم قدرهم وأدرك منزلتهم وهو ما يظهر في قوله لجنوده: «لا تظنوا أني ملكت البلاد بسيوفكم بل بقلم القاضي الفاضل»، ولعل هذه الكلمة كانت سببا في تيه العماد الأصفهاني الذي يشيد بقلمه: «وقلمي من سيوفهم أضرى وأضرب، ومن رماحهم أخطى وأخطب، ومن سهامهم أنجى وأنجب».


وكان من آثار هذا العرفان كثرة نفقاته على العلم والعلماء حتى ذكر أبوشامة أنها تجاوزت مائتي ألف دينار، وربما كانت ثلاثمائة ألف، كما وقف كثيرا من الضياع والقرى على طلاب الشريعة.


وتستعرض الدراسة في النهاية صور جهاد صلاح الدين ومعاركه مؤكدة أن المتأمل لتاريخه العسكري يلاحظ تعدد الجهات التي خاض فيها حروبه وتعددت فيها معاركه، والتي بدأت بقدومه مصر جنديا مغوارا تحت امرة عمه أسد الدين شيركوه.


وكان أول عمل استقل به صلاح الدين هو الدفاع عن الاسكندرية فقد حاصره الفاطميون والصليبيون واشتد عليه الحصار ونجح في الدفاع عن المدينة، ولم يكن معه سوى ألف رجل حتى قدوم شيركوه من الصعيد وعندئذ تشجع الناس وقويت نفوسهم وصمدوا للقتال نحو 75 يوما،


الأمر الذي جعل آموري القائد الصليبي يدرك أنه لا فائدة من مواصلة القتال فدارت المفاوضات بشأن الصلح وبذل الفاطميون والصليبيون لشيركوه خمسين ألف دينار فأجابهم الى ذلك بشرط ألا يقيم الصليبيون بالبلاد فوافقوا على ذلك.


وتعد معركة حطين من أهم المعارك التي خاضها السلطان صلاح الدين، بل انها كانت مفتاح تحرير بيت المقدس ومقدمة له، فما كاد ينتهي صلاح الدين من معركة حطين التي انتصر فيها على الصليبيين في 25 ربيع الثاني 583 هجرية 1187 ميلادية حتى راح يفكر في تحرير بيت المقدس، وقد صار إليه من فوره يتبعه جيش مزيج من العرب والترك والكرد حقق به نصرا مبينا في يوم الجمعة 27 رجب 583 هجرية، 2 أكتوبر 1187 ميلادية.

(مصطفى علي محمود- "البيان)

التعليقات