فصليّة "مشارف" الحيفاويّة تحثّ خطاها مستنيرةً بالأفكار الجديرة

فصليّة

رَصْدٌ في عين العاصفة

في عددها الجديد، الـ 25، صيف 2004، تُولي فصليّة "مشارف" الأدبيّة الحيفاويّة اهتمامها بالفكرة (كعادتها منذ انطلاقتها الأُولى) كسؤالٍ جديرٍ بالفحص والتأمل، كما ذكرت هيئة التحرير في كلمتها، إذ ركّزت على منهجيّتها في متابعة أدبيّة النّصّ الإبداعيّ وإعمالِهِ في المضامير الفنيّة وفقَ ما يليق بمستواها. وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ هذه المنهجيّة تبدو بارزةً في هذا العدد المتّسم بأناقته شكلاً ومضمونًا، والغنيّ بمحاوره على تنوّعها واختلافها. تعلو غلاف المجلّة صورةً لبوّابة بيت وشجيرة تُدعَى "المجنونة"، قام بالتقاطها الرّاحل محمّد حمزة غنايم، قبل وفاتِه مخلّفًا لنا صورةً وقصيدة:

"مجنونة تطاوِلُ الجدار، وترسمُ السِّياجَ في حدودِ الدّار".

أول المحاور التي تتصدّر العدد الـ 25 من فصليّة "مشارف" هي بوّابة الشِّعر التي تُشْرِعُ مصراعيها، في هذا العدد خصيصًا، أمام قصائدها "الشّبابيّة"، إن صَحَّ التّعبير. حيث تُدرَجُ في هذا الملفّ قصائد متعدّدة لثمانية شعراء، تميّزهم ثنائيّة الشبابيّة في السِّنِّ والأدبيّة.

تَمَحوَرَ ملفّ آخر من ملفّات العدد فيما يصدر عن الكاميرا الفنيّة بشأن القضيّة الفلسطينيّة، حيث كرّست المجلّة ثلاثة مقالات تحليليّة عن السينما الفلسطينيّة. ومن هنا تأتي أهميّة هذا الملفّ الذي تزامَنَ مع مهرجان الأفلام الفلسطينيّة في حيفا، أواخرَ الشّهر الفائِتِ (والذي حضره كلّ من المخرجين ميشيل خليفي وصبحي الزّبيدي وعمر القطّان وإيال سيفان) والذي كان تحت رعاية فصليّة "مشارف".

أما محور "غياب"، والذي يأخذ "شكلاً آخَرَ" هذه المرة لأنه "اختطف قطعة غالية" من هيئة التحرير، الزميل الشّاعر والأديب والمترجم محمد حمزة غنايم، الذي استلبه الموت في أوج عطائه وإبداعه الغزير. وهنا يأتي دور المجلّة في محاولتها منحَ الراحلَ حقّه حتى بعد رحيله، فتكرّمه بمقالات تحتفي بعطاءاته متعدّدة المجالات.

// // الشِّعرُ شابًا


احتوى الملفّ الأوّل، الخاصّ بالشِّعر، على باقة من الشعراء تؤكّد أسماؤهم ما ذكرته "مشارف" في افتتاحيتها، حيث أن "الفكرة الجديرة الأُولى تكمن في ما نوليه، عددًا عددًا، من اهتمام للنّصّ الجديد، نصّ الشّباب إذا شئتم، لا من حيث انتماء صاحبه العمريّ فحسب بل وأيضًا، وأساسًا، بما يتلاءَم مع رهاننا على أدبيّة النّصّ كبادرة توكيد على استمراريّة الإبداع". تدمج هيئة التحرير برهانها فيما بين السّنّ الشبابيّ لكتّابها والنّصّ المشحون بالأدبيّة الراقية، وبذا تقدّم نفسها لقرّائِها جودةً لامعةً. في ملفّ الشِّعر لهذا العدد يشترك كلّ من الشّعراء معتزّ أبو صالح في قصائده: الدرب / الشّاعِر / في السَّفحِ / شخصٌ ما / وأخيرًا في بيتِه / كم منكَ فيك / البنفسجيّ / أُمِّي / حاولتُ؛
"أُمي
تُطيلُ النَّظرَ في المرآة..
أُمي لا تبحثُ عن حُسنِها العتيق
أمي تبحثُ في وجهِهَا
عن بقعةٍ خاليةٍ من التجاعيد
كي تخَبِّئَ فيها فرحي".

والشّاعر وسام جبران في قصيدته "فراشة.. أو دائرة الوهم"؛
"رأيت أشلاء نجوم تسير في جنازة الوقت.
سمعتُ الضّوء يروي قصّة الظلام بأصوات يجهلها!
هكذا، من المستحيل، تُولدُ الحروفُ. ومن تقاطب الضّوء يولد صليبُ الصُّدْفَةِ.. ومن الجهل تاريخُ الحقائق، يتساقطُ بين فخذَي فضاء يحلمُ بكلمة أو بدء جديد".

والشّاعرة نوال نفّاع في قصيدتها "في ضوء الذاكرة"؛
والشّاعر بشير شَلَش في مجموعة قصائِده المُعَنْوَنَة بـ "مقايضة الألَم"،
"أين أذهبُ بها هذه الخساراتُ،
كيف أُسْقِطُها من رأسي وقد تلبّدت؟
كغُبارٍ على زجاج مزهريّة؟
من بيتٍ إلى آخرَ أحملُها معي
ومثل أصداف نادرة أفردُها أمامي،
أقلّبُها، أدقّق في التفاصيل
ثم أُرْجِعُها ثانيةً إلى الخزانةْ".



والشّاعر عثمان حسين في قصائده: قوسقزح / قول / ألَم / رِثاء / (...) / السّارِق / نكوص؛
"السّارق
اقتَرِب أيها البحر
ابذُر مزيدًا من الزّبَد
أيها الشّاهدُ الكذوب
والسّارق لازورد الكونْ".

والشّاعر ألطّيِّب غنايم في قصيدته "فضاءات التّجربة المستعادة من الهوّة"؛ والشّاعرة أرواد خاطر في قصيدتيها: لظلّكَ شُبّاك من سفر / ألمنفى؛ والشّاعر فادي معلوف في قصائده: شجر / عصفوران / نداء / "لمّا شبقتاني" / ومضات؛

والشّاعر أيمن اغباريّة في قصيدته "ملاقط الغسيل":
"الملقط الثالث عشر
لا تغرُّكَ تلكَ الأُلفة بين الأجنحة والجهات
فالعصفور بينهما "غريب الوجه واليد واللسان".

وفي ملفّ نصوص، الذي احتوى على مقاطع نثريّة للكاتب فؤاد سليمان، لامست حدود القصّة القصيرة والتصوير الفنّي الأدبيّ، إذ اعتمدت على سردٍ لعدسة شاخصة على لقطات محدّدة. كان عنوان هذه اللقطات القصصيّة: القاعة الفارغة؛ المرأة وراقصتها، عَبَدَة السّيّارة؛ الرّجل في الزّيّ الرّسميّ.

وفي استقراء "مشارف" لرؤاها، خصّصت في هذا العدد مساحتها لمقال بروفسور حنان حيفر، أستاذ النقد الأدبي في الجامعة العبريّة في القدس، والذي تناوَلَ ديوان الشّاعر سلمان مصالحة، الصّادر باللغة العبريّة عن دار "عام عوفيد"، عام 2004. طَرَح الكاتبُ الديوانَ من زاوية ثنائيّة اللغة، والمنطلق الذي منه شقّ الشّاعر لغةً ينحت بها، هي لغة ليست لغة أمّه. يشدّد الكاتب على أن "سلمان مصالحة يتحدّى العلاقة القائمة مع المكان، تلك التي تستند إلى هويّة قوميّة، ويتحدّى الادّعاء القائل بأن الهويّة القوميّة هي الوحيدة التي بوسعها أن تمنح الفرد الحريّة".


// عينٌ في مَهَبِّ الرّيح


ملفٌ غنيّ آخر ساهم في تنوّع الطروحات التي تسعى "مشارف" لبحثها، هو ملفٌّ خاصّ بالسينما الفلسطينيّة، أسمته: "سينما في عين العاصفة". احتوى الملفّ على ثلاثة مقالات، الأول للمخرج صبحي الزبيدي، بعنوان "شذرات من عالم قيد الولادة"، يحاول فيه أن يحلّل الخارطة السينمائيّة الفلسطينيّة مسترشدًا بأعمال الجيل الجديد من السينمائيين وعلاقتهم بالجيل السّابق وفاعليّة التطوّر في عمليّة التعبير التصويريّة. والثاني لعلاء حليحل، بعنوان "روميو فلسطين"، إذ يساهم في نقد فيلم "أولاد آرنا"، من تأليف وإخراج جوليانو مِر-خميس ودانيئيل دانيئيل. والثالث للمؤلفين نوريت جيرتس وجورج خليفي، بعنوان "طريق دون مخرج"، ويُعتَبَر هذا المقال المطوّل فصلاً من كتاب في نفس الموضوع، السينما الفلسطينيّة. يمكننا اعتماد هذا الفصل، دليلاً عامًا للسينما الفلسطينيّة، إذ يمنحنا مسردًا بيبليوجرافيًا تحليليًا لكلّ ما أنتجته السينما الفلسطينيةّ، حيث يتمّ تناول أفلام كل من المخرجين ميشيل خليفي، وعلي نصّار، ورشيد مشهراوي، وصبحي الزّبيدي، وإيليا سليمان، وما إلى هنالك من باقي قائمة المخرجين السينمائيين، وذلك في توظيف دورهم في رسم الخارطة السينمائيّة الجديدة، وإبراز إسهامهم في إثراء المشهد.

// حين يعصِفُ الرّحيل


في ملفّ "غياب"، حيث يُسْتَحْضَرُ الماضي بعيون حاضرة، يُوجعُ فصليّة "مشارف" في هذا العدد أن ترثي زميلها الذي استلبه القدر: الشّاعر والأديب والمترجم الشّاب محمّد حمزة غنايم. وهنا، على شرف ذكراه، تقدّم توثيقًا لمرحلةٍ مليئة بالغزارة والعطاء. تبدأ الملفّ مجموعة من أشعار محمّد حمزة غنايم، كتبها في فترة محنته، فترة صراعه مع المرض، تحت عنوان "إِسحَب غطائي إلى أعلى جسدي". يلي الأشعار مقالة تحليليّة، فيها من الدراسة المقارنة والرأي الشخصيّ، كتبها الشّاعر فوزي كريم، الذي قارن بين الأشعار الأخيرة للراحل وما فيها من موتيف المأساة، وبين ذلك في أشعار كلّ من الشّاعرين محمود البريكان وبدر شاكر السّياب. أَتَمَّ فوزي كريم المقارنة على أساس أن المأساة والمحنة تهيّج الروح الكامنة في الشّاعر، فتعلي قامتها وترفعها إلى أبعد حدود. الباحث بروفسور ساسون سوميخ، يقول بأن الراحل كان "شعلة من الحماس الإنساني"، ويسرد تجليات هذه النّار الإبداعيّة في جميع مراحل حياته، حتى في أسوأها، فترة المرض العضال. د. باسيليوس حنّا بواردي، قَدَّمَ دراسةً مفصّلة عن شعر محمّد حمزة غنايم وعن مركّبات مفهوم الثّورة والمرجعيّات الشّعريّة لديه، سابرًا غور ذلك التناقض الظاهريّ الذي يبدو لوهلةٍ أولى في أشعار محمّد حمزة غنايم، فكيف للسورياليّة أن تكون ملتزمة؟ وأين هربت القوميّة والانتماء؟ يشرح د. باسيليوس، اعتمادًا على المذاهب الأدبيّة التي تأثّر بها الراحل، مدى التوازن المتّئد بين التناقضات التي أجلسها بتناغم جنبًا إلى جنب، حتى صارت السّورياليّة ملتزمةً!.

في محورها الأخير، الثّقافة العبريّة، تقودنا المجلّة للتعرّف على عالَم الشّاعر الراحل يهودا عميحاي، عبر ترجمة لقصيدة مطوّلة من آخر دواوين الشّاعر. قام بهذه الترجمة، الراحل محمّد حمزة غنايم. حاولت "مشارف" عبر هذا الاستقصاء إبراز مساهمة غنايم في نهجه في التّرجمة، والتوكيد على عطائه البارز والغزير في هذا المجال أيضًا.

تتضافر هذه الملّفات والمحاور جميعًا لتؤكّد لقرائها المتميّزين مواصلتها درب البداية، التي شقّها مؤسّسها الأول، الراحل إميل حبيبي. فما زالت بصماته تقود الدرب، لدرجة أن المتتبّع لها منذ بداية صدورها يدرك أن المسار ما زال على نفس المنوال الذي ابتدأت به، بل زاد في التّسارعِ غزارةً ونشاطًا وإبداعًا.
_________________________________________________________
رئيسة تحرير "مشارف" سهام داوود، هيئة تحرير "مشارف" تضم الناقد أنطوان شلحت، دكتور سلمان مصالحة، دكتور محمود رجب غنايم، بروفيسور رمزي سليمان، الشاعر (الراحل) محمد حمزة غنايم وبروفيسور أنطون شمّاس. يصمّمها شريف واكد. المجلة من 248 صفحة.


عنوان المجلة الالكتروني:
masharef@netvision.net.il



العناوين البريدية والهاتفية:
P.O.Box 6370 Haifa 31063
Fax: 972-4-8233849
Phone: 972-4-8233478

التعليقات