في الطريق إلى الوطن.. هذا بعض ما يحدث!../ رشاد أبوشاور

-

في الطريق إلى الوطن.. هذا بعض ما يحدث!../ رشاد أبوشاور
تحت العنوان الكبير للكتاب الجديد للدكتور فايز رشيد (في الطريق إلى الوطن)، عنوان بخّط أقّل بروزا، هو: شذرات من وقائع حياتيّة.
بالعنوان الفرعي تملّص فايز رشيد من تصنيف كتابه، فلا هو قصص قصيرة كقصص مجموعته ( وداعا أيها الليلك)، ولا هو مقالات سياسيّة تعليميّة، ولكنه مزيج من حكايات وقعت وصاغها الكاتب ( حكائيّا) متحرّرا من شروط القّص.

هذا الكتاب ( في الطريق إلى الوطن)، يضّم حكايات وقعت، وحكايات ممكنة الوقوع فلسطينيّا.
ما هو إذا هذا الكتاب، وكيف يمكن أن يصنّف أدبيا؟

يبدو أن هذا السؤال لم يشغل بال الدكتور فايز رشيد، الكاتب الذي ينشر مقالاته في عديد الصحف العربيّة، والباحث الذي صدرت له دراسات لافتة، والمحاور الذي يجمع كبار المناضلين، والمفكرين، في الإجابة على أسئلة، ومحاور فكريّة، راهنة ومصيريّة، ويقدّم رؤيتهم للقارئ العربي المتابع لأحوال القضيّة الفلسطينيّة، والنضال الوطني الفلسطيني.

فايز رشيد طبيب، مختّص بالعلاج الطبيعي، والوخز بالإبر الصينيّة، التي تغرس في الأعصاب لتوقظها، وتنشطها، لتحفيز الجسد على استعادة حيويته.
هو لم يترك مهنة الطّب كما فعل الكاتب الكبير الراحل يوسف إدريس، الذي بعدما اختار الكتابة مهنة، اتخذ من عيادته مكتبا يقرأ ويكتب فيه، ويلتقي بأصدقائه، فإن زاره مريض، جذبته القارمة التي تعلن عن العيادة، فإنه كان يشير له إلى عيادة طبيب في البناء المقابل.

لا أفاجأ عندما أزور صديقي فايز بأن أرى باب العيادة مفتوحا، ومن ضلفة الباب الموارب ألمحه جالسا وراء طاولة مكوّم عليها كتب، وصحف، ومجلاّت، ومراجع، وهو منهمك في القراءة، والكتابة، وإرسال مقالاته على الفاكس المجاور لمقعده، وشاشة الكمبيوتر تلمع أمامه.

هذا لا يعني أنه اختار الكتابة وأدار ظهره لمهنة الطّب، فهو بين فقرة وفقرة، يندفع من وراء الطاولة ليواصل علاج مريضة، أو مريض، بالإبر، و بالكهرباء، وبأشعة الليزر.
من عادتي شخصيّا أن أجيب من يسألني إن كنت أعيش من كتاباتي الأدبيّة:
_ أنا اثنان، أديب، وصحفي، والصحفي هو الذي يساعدني في نفقات حياتي...
صديقي فايز رشيد، ينفق على الطبيب من كتاباته الصحفيّة!، لأنه غالبا يعالج ببلاش، أو بمبالغ رمزيّة بالكاد تسّد نفقات أجرة العيادة، والكهرباء، والهاتف، والماء...
هو بالطّب، والكتابة، يعالج، يقوم بدوره عن وعي، وانتماء، وبرضى، ودون تأفف، وإلاّ لاختار طريقا آخر يعود عليه بالمال الكثير، فهو طبيب متميّز، وصاحب اختصاص نادر.

في كتاب فايز رشيد الجديد، شذرات، التي بعض أبطالها مضوا شهداءً، أو ما زالوا يقبعون في سجون الاحتلال، ومنهم شخصيات معروفة كبيرة الحضور في مسيرة نضالنا الوطني، كأبي علي مصطفى الأمين العام للجبهة الشعبيّة الذي اغتاله الاحتلال، أو كبرت بالحدث الذي وقع لها كالفتى الشهيد محمد الدرّة، والفتاة ( هدى غالية)، أوعرفت بما اجترحته من بطولات كالمناضلة الكبيرة ليلى خالد، التي هي رفيقة، وزوجة صديقنا فايز.

يضع فايز تنبيها في مدخل الكتاب، لا أتفق معه، هو: الأحداث والشخصيات في بعض من هذه الشذرات هي من صنع الخيال، وأي تشابه بينها وبين الواقع ، هو محض صدفة.
لماذا أختلف مع هذا التنبيه، أو التنويه، أو محاولة اللعب الفنّي؟
لأن الشذرات_ كما يصف الحكايات في الكتاب_تحكي، غالبا، عن شخصيات معروفة، ولا يمكن إخفاء حقيقتها لفرط واقعيتها، فمثلاً حكاية ( اغتيال القائد) تسرد عودة الشهيد الكبير أبي علي مصطفى. و( الرّد) هي عن انتقام الجبهة الشعبيّة وقتلها للوزير الصهيوني (رحبعام زئيفي)، ثارا لأبي علي. و( الاختطاف) إعادة لحكاية تسليم أمين عام الجبهة الشعبيّة، بعد رحيل أبي علي، المناضل أحمد سعدات، بخديعة من قائد جهاز أمني فلسطيني.

هذه شخصيات، ووقائع ، لا يمكن الحديث عنها بالرموز، أو بتبديل الأسماء...
لو أن فايز أشار إلى الأسماء مباشرة، لقدّم حكايات، أو شذرات تسجيليّة، تسندها الحقائق، وتبقيها ماثلةً في الأذهان، وتطرح أسئلةً ، وتشير إلى خراب، وفساد...
في حكاية ( المشهد) _ لا وافق على وصفها بالشذرة_ قرأت حكاية تحدث يوميّا مع الفلسطينيين، في بلاد العرب، وعبر كّل الحدود.

حنان سيّدة فلسطينيّة مناضلة، مدعوة إلى بلد عربي من جهة ( شعبيّة) لتقديم محاضرة. تصل مطار ذلك البلد، ومعها فيزا على جواز سفرها، ولكنها توقف في المطار، ثمّ يماطلها المسؤول في المطار بحجّة الاتصال بجهات عليا، وفي النهاية تبلّغ برفض دخولها البلد رغم أن سفارة ذلك البلد منحتها الفيزا.
لا يكتفي مسؤول المطار بهذا، بل يبلغها بأن عليها أن تدفع ثمن تذكرة تسفيرها على البلد الذي ستحملها إليه أوّل طائرة!.

السيدة حنان، لا تخفى شخصيتها على المتابع للشأن الفلسطيني، ولذا نتعرّف فيها فها للمناضلة ليلى خالد، من الإشارات إلى وقائع معروفة في حياتها النضاليّة، يعززها حوارها مع المضيفة التي أبلغتها بأن قائد الطائرة يدعوها للدخول إلى كابينة القيادة:
_في وقت لاحق سيأتي للسلام عليك، ولربما ينتابك الحنين إلى أيّام ماضية.. تستطيعين دخول قمرة الطيّار متى شئت. ( ص 101)
الحوار مع جاريها في الطائرة، وهما زوج وزوجة من البلد الذي حرمها الدخول، وإعجابهما بها كمناضلة، وأسفهما لما حدث لها، يضيء الشخصيّة ، ويؤكّد معرفتنا بها...

في هذه الحكاية يفصل فايز، وهذا صحيح، بين سلطات تعادي الفلسطيني وتضيّق عليه، وجماهير عربيّة تتعاطف معه، وتحترم نضالاته، ومعاناته.
الحكاية وإن كنّا نسمع عن كثير تشبهها، حكاية واقعيّة، مؤثّرة، ومكتوبة بسلاسة، رغم الاستطراد في كلام السياسة، والذي ربّما له ما يبرره، كون الحكاية سياسيّة بامتياز.
لو أن فايز وضع اسم ليلى بدلاً من اسم حنان، ربّما كان وقع وتأثير الحكاية أبلغ في نفس المتلقّي.
العنوان الفرعي ( شذرات)، لا ينطبق على حكاية ( انتظار) ، المكتوبة بتكثيف، وبراعية، والتي هي حكاية حياتين، وانتماء...

حسني فتى لبناني، يهاجر والده اللبناني هاجر من صور إلى حيفا، عندما كان حسني في التاسعة.
يكبر حسني في حيفا، ويتعرّف بالشيخ عز الدين القسّام، الذي يوجهه لتعلّم مهنة التمريض.
يكبر حسني، ويتعرّف بممرضة ألمانية اسمها ( إيفا)، يتحّابا ، و..يتزوجان. تختار ( إيفا) لنفسها اسم (حوّاء). يهجّران من حيفا مع ألوف الفلسطينيين. يقيمان في لبنان فترة، ولكنهما يختاران العيش في الأردن. يكافحان، ويواجهان مشّاق الحياة، الزوجة تعود لممارسة مهنة الخياطة لمواجهة مشاق الحياة. من بعد يجد الزوج حسني عملاً بنكيا وتصلح أحوالهما. هما لا ينجبان، ولكن هذه المشكلة لا تؤثّرعلى حياتهما، فهما يتفقان أن يجيب كّل واحد منهما عندما يسأل بأن المشكلة عنده. يكبران وهما يخشيان أن يرحل واحدهما قبل الآخر، لأنه لا يريد أن يكابد فاجعة افتقاده.

تموت الزوجة ، ويبقى حسني وحيدا، منتظرا..ماذا؟!
الموت! ربّما. العودة لفلسطين، هو اللبناني الذي نشأ، وارتبط بها حياةً، وقضيةً، وانتماءً؟!
هذه الحكاية مكتوبة ببراعة، وسلاسة ، تفصح عن عمق إنساني، وقومي، بدون قسر، أو مباشرة، وبعيدا عن التعليميّة الثقيلة.
هذه حكاية شخصين عاديين، من أمتين مختلفتين، جمعتهما فلسطين التي ألفا العيش فيها. إنها حكاية حياة، تتداخل بسيرة شعب، وتطورات وتعقيدات قضيّة، بكّل جوانبها، وتشعباتها، ورحابتها الإنسانيّة.

مصطلح (شذرات) يمكن أن ينطبق على حكاية ( الحكيم)، التي هي رغم ما فيها من غزارة معلومات تبقى مجرّد مقتطفات من سيرة الحكيم جورج حبش، الذي يسرد فايز أجزاء من حياته الممتدّة الغنيّة، من طفولته في مدينة ( الّلد)، إلى رحيل أسرته إلى ( حيفا) وعمل والده في التجارة، إلى دراسته، ومن ثمّ رحيله إلى بيروت لدراسة الطّب في الجامعة الأمريكيّة، وتفتّح وعيه على النكبة الفلسطينيّة، وإيمانه بأن التنظيم هو السبيل لتحرير طاقات الأمّة.
( الحكيم) صفحات قليلة مكتوبة بحّب، وإعجاب، واحترام لسيرة رجل كبير على المستوى الوطني الفلسطيني، والقومي العربي، والعالمي.

في هذه السيرة المختصرة، نتعرّف إلى جوانب من سيرته الفكريّة، من تأسيس ( العروة الوثقى) أيّام الجامعة، إلى( كتائب الفداء العربي) ردّا على النكبة، إلى تتويج المسيرة بتأسيس حركة القوميين العرب التي انتشرت في أقطار عربيّة كثيرة، وقادت ثورات في بعضها، ووصلت إلى الحكم في اليمن الجنوبي بعد طرد الإنكليز.

لا يغفل فايز عن الجانب الحياتي الاجتماعي للحكيم، فيمّر على سيرة زواجه من ابنة عمّه التي ارتبط معها بقصّة حّب، والتي تشرّدت معه، والتي برز دورها في حياته، عندما تصدّت للمحاولة الفرنسيّة بالتحقيق معه عندما كان يتعالج في أحد المستشفيات الفرنسيّة، وهي الواقعة التي تناقلتها فضائيات عربيّة وعالميّة، والصحافة، ووكالات الأنباء، والتي أجمعت على دور زوجة الحكيم في التصدي للمؤامرة التي كانت تهدف إلى اعتقاله رغم مرضه!.

فايز رشيد درس في الاتحاد السوفييتي، وهناك تعرّف بيهود، وتابع أساليب تضليلهم، واستدراجهم ( للهجرة) على الكيان الصهيوني.
حكاية ( المهاجرة) تروي مراحل العلاقة بين شاب فلسطيني( بسّام) ، وفتاة يهوديّة( لودميلا)، وفشل العلاقة بسبب الصراع مع الحركة الصهيونيّة...
(نادر) سيرة مدهشة لشاب فلسطيني، رياضي، يتطوّر وعيه من تجاربه في السجن، ويصقل التعذيب روحه، فيزداد عنادا، وابتكارا أساليب النضال...
هي حكاية طويلة عن الإنسان الفلسطيني المجهول، الذي لا تقدّمه الفضائيات، والذي لا تعرفه الجماهير إلاّ في أضيق نطاق.

ربّما تكون ( نادر) هي سيرة العقليّة الصهيونيّة المتوحّشة، وبشاعتها في ابتكار أساليب تعذيب لا تخطر على بال البشر. وفايز الذي خبر السجون الصهيونيّة، مرّ في بعض هذه التجارب، وعايش من تعرّضوا لها، وصمدوا لها، أو انكسروا في لحظات ضعف إنساني.

هذه الحكاية _ نادر_ تعيد الاعتبار للمناضل الفلسطيني البسيط، وتسلّح الفلسطيني الذي يتعرّض للتحقيق، والتعذيب، البدني، والنفسي، لمعرفة تحميه، وتصون روحه ن من تلك الأساليب، والممارسات.
حكاية ( هدى) هي حكاية ( هدى غالية) التي قتل العدو عائلتها، والتي ستبقى صرختها وهي تتمرّغ على رمال شاطئ غزّة، في عقل وروح كل فلسطيني، وعربي، وإنسان، رأى المشهد، وسمع تلك الصرخة.

كتب فايز الحكاية ببراعة، وابتعد عن التفجّع، والحكاية فيها نهايتان، إحداهما أتت منسجمة مع النّص، وهي: وبدت وكأنها تعاني كابوسا في نومها، لكن صوت سيّارات الإسعاف والحشود الكثيرة من البشر التي هرعت على صوت انفجارات الصورايخ، نبهتها إلى حقيقة ما حصل، وهي حقيقة أنها أصبحت وحيدة بلا عائلة منذ اليوم.

النهاية الثانية الزائدة في ختام الحكاية تقول: ثمة طيور في أفق بدا يلبس جلالاً قاتما، كانت تحلّق بعيدا نحو الجبل البعيد، هربت بعد إدراكها لحقيقة ناصعة، وهي أن الشاطئ أيضا يقصفه ( الإسرائيليّون ).( ص149)
هذه الشذرات هي أجزاء من ملحمة شعب، يموت وينهض من الموت، يقاوم بكّافة الأساليب، يعاني بعضه تحت الاحتلال، وفي الشتات _ العراق مثلاً حيث يقتل الفلسطيني، ويلوذ بالصحراء العربيّة ولا من منقذ (المحنة)_ يرّد الموت اليومي بالتشبّث بالحياة، ويلملم ( شذرات) أيّامه ليبني منها ملحمته، في طريق عودته المظفّرة إلى وطنه.. ولكّل واحد من هذا الشعب أن يسرد (شذراته) بطريقته الخّاصة، والمهّم أن تكون صادقة، حميمة، تضيف ( للملحمة) تفاصيل تغنيها، إذ لا أحد قادر على كتابة هذه الملحمة وحده، لأنها ملحمة شعب بملايينه، على مدى زمن ممتّد، مفتوح ، يضيف ناسه تفاصيل إنسانيّة جديدة، تغني، وتلهم، وتنتظر من يكتبونها حتى لا تضيع...

__________________
* في الطريق إلى الوطن: شذرات من وقائع حياتيّة ، للدكتور فايز رشيد ، صدر عن منشورات ( رياض الريّس للكتب والنشر) بيروت_ 2008.

التعليقات