فينوس خوري غاتا، نسيرُ بسيقان مفتوحة كمنازل مبنيّة على النهر كمنازل مبنيّة على النهر

فينوس خوري غاتا، نسيرُ بسيقان مفتوحة إصدار شعري جديد لفينوس خوري غاتا) أنطوان جوكي (لبنان/باريس)

فينوس خوري غاتا، نسيرُ بسيقان مفتوحة  
كمنازل مبنيّة على النهر


كمنازل مبنيّة على النهر
صدر للشاعرة اللبنانية الفرانكفونية فينوس خوري غاتا مجلّدٌ شعري جديد لدى دار "مركور دو فرانس" يتضمّن قصائد ديوانين سابقين لها: الأول صدر عام 1999 تحت عنوان "تقول" (دار "بالان")، والآخر عام 2001 تحت عنوان "شفقة الحجارة" (دار "لا ديفيرانس")، إلى جانب مجموعة من القصائد الجديدة بينها قصيدة "المعتَّمون" الطويلة التي أهدتها للشاعر الفرنسي الراحل حديثاُ كلود إيستيبان وتتصدر هذا المجلد. ورغبتنا في ترجمة هذا النص دون غيره لا يبررها فقط وقعه العميق علينا لدى قراءته بل أيضاً عثورنا فيه على كل ما يشدّنا عادةً إلى قصائد فينوس ويميّز كتابتها الشعرية، أي طرافتها المتجدِّدة دوماً حتى في أصعب لحظات بَوحها، وصورها السرّيالية التي تظهر عفوياً تحت ريشتها لتلطّف مضمون خطابها القاتم ونظرتها إلى الكون المحرَّرة من الأوهام، إضافةً إلى استعانتها الدائمة بالطبيعة وأنسنتها.

المعتَّمون

أقصينا أنفسنا من فضاء الهواء الذي لا شكل له
لأجل أرضٍ هاجسها سد تجاويفها بالعِظام والخُرَق والعواء
فقدنا حركيّتنا الني كانت تجعل منا أشياء تُعرَف من غلافها
قادرة على الحياة بين أزوت وإسفلت
فقدنا ألواننا

نتساوى لدى توزيع المهمات، ولتفادي مَطالبنا حُزِمنا كحطبٍ
صامتٍ بدون تحديد الغابة التي كنّا ننتمي إليها وبدون إمكانية بلوغ أسمائنا
التي وُضعت أعلى منا، تقرأها الجدران الواقفة
على رجلها الوحيدة

مُشتتاً وَصَلَنا صخبُ المدينة
تتطلّب إعادة تشكيله بخطوطٍ مستقيمة مهارة ماسح أراضٍ

أعطونا علبةَ كبريت كي نختبئ فيها
وريقات زهورٍ كي نسدّ جوعنا
وليحكمَ العالمَ صرصارٌ

ننزلق، ننزلق مع الكوكب
نهزل لنغذي حواجز جسدنا الجائعة
لا أحد يملك ذراعاً طويلة كفايةً لفتح بابٍ للهواء الأرضي

لا أحد يملك القدرة على تحضير المرور بين موتٍ وحياة
لا أحد اكتشف الممر المحظور

نقلّم خشونتنا كي لا نثير ريبة أولئك الذين يظنون أننا آلاتٍ موسيقية يعزف عليها الفراغ
وينبعث منها الصوت العظمي ذاته

يعتقد البعض أننا ذئاب بينما نحن نتخبّط في عُلَبِنا
لا نتّهم أحداً بتقييد تحرّكاتنا
وبمنعنا من المغامرة خارج أنفسنا

التوّاقون إلى الماضي يبحثون عن شكلهم في ثيابهم المتبخّرة
متجاهلين أن الحزن لا يحفظ الكتّان
وأن البستانيين اليقظين يطوون الجلد والقشور في الاتجاه ذاته

الحالمون ينتظرون موسم القُطرب للتناسل
تصفيق أجنحة بالملايين يمحو الزوايا
اللاشيء يلاقح اللاشيء
نتداخل
نتظاهر بالمضاجعة
وليدفن الميّتون أنفسهم بأيديهم، على رغم أنهم مدفونون سلفاً وميّتون أكثر من غيرهم
غطاءٌ أم كفن، ما الفرق؟

الضيّقون يدّعون الخطو فوق الله والمحيطات
متناسين أنه تم إعادتهم بالقوة إلى غلافهم
ونعتوا بالفارّين
بالأشباح
لا يملكون سوى صوت النور
وظلّ الأصوات
وبابٍ مرسومٍ للمتأخّرين

القادمون الجدد يسألوننا عن الأشياء التي تركوها خلفهم
بدلاً من إرشادنا إلى ما نحن عليه
ومن قول بللنا أو جفافنا
غموضنا أو دقّتنا

يضحكون لدى رؤيتنا بهذه النحافة بينما يهزلون كلما انحنى الكوكب
وأصبح الأعلى أسفل
جارّاً خلفه الأفق والغسيل المنشور على حباله
غطاءٌ أم كفنٌ، ما الفرق؟

يقولون أشياء معقولة لا أحد يحفظها
حول الأقمار المشرومة والمظلات التي عاكستها الريح
لكنهم يتكتّمون عن تشرين الذي يغلق بابه بعد آخر زائر

يقولون إن جدراننا أُجِّرت إلى أشخاصٍ مُعتَّمين أكثر منا
سقوفنا تحوّلت إلى شوارع مخصصة للمشاة
ونحن المجنّحين نقفز كحجارةٍ على كتف الهواء

نلازم بيوتنا كالخيل
شرسون مثل طقسوس خرج من حجر
مظهرنا الجانبي محفورٌ على جذوعٍ
حركاتنا مستعارة من الأغصان
ندقّ على صدورنا حتى الأرض
حين تتدحرج حصاة على المنحدر
الضجيج ذو الأبعاد الثلاثة يتخطى إدراكنا
نفضّل الراكد والمستقيم
وأحياناً الدائري حين تحاصرنا الأصوات لمراقبتنا بشكلٍ أفضل

نصغي إليها بتبجيلٍ كبير
وكي لا نخدشها ندنو منها بشكلٍ مواربٍ
ننعتها بالماكرة بينما هي مسالمة
وثمّة مخادعون أكثر منها:
جدراننا الملفوفة في زوايا المدن كفُرش البؤساء

في ضيق أقفاصنا
نكتب بدون أن نحرّك اليد
كلماتٍ تنقصنا، نغرفها من كتبٍ مُبطَلة

نقول: مُت إن شئتَ ذلك، للذي يمحو غلافه
لكن نظِّف أرضك من شظايا عظمك
مُت لكن استيقِظ على الصياح العالي لهذا الديك
المارّة الذين يستأجروننا يشيرون إلى وجوهنا المغلقة على عدم رضا كبير
هم الذين يصرخون
ونحن الذين نستمع
غضبنا القصير الأمد يبقى بعدنا

نتبادل انطباعاتنا مع معتَّمين آخرين
تُقاسمنا آلة تسجيل الزلازل همومنا بخطوطٍ من حبرٍ وارتعاشٍ
البرد يشتعل لدى عبورنا
نسير بسيقانٍ مفتوحة كمنازل مبنية على النهر
كيف يمكن اللحاق بنا ونحن نسير برجلٍ في الماء وأخرى على الجُرف
ونُمنع من تسمية المناظر
ولا نميّز بين غطاءٍ وكفن؟

يقال إن المعتَّمين يعودون على قفا الطريق
ينقلون أشياء مألوفة
يسحبون الطاولات
يكدّسون الكراسي
يهزّون محتوى المرايا
ثم بصرخةٍ يعبرون البيوت التي سكنوها وتلك التي تسكنهم

لعل القمر شمسٌ ليلية، يرددون ليلاً بعد ليل
وظلّ شجر القَيقب امرأةٌ بذراعَين لا نهاية لهما
لعلنا أشجارٌ متمردة
غابةٌ طبشورية
وأولئك الذين يمسكون بالنهار معتَّمون

بحجرٍ على رأسنا
نلتقط ظلّنا مستعجلين بلوغ السور قبل أن نبطُل
حفيف الغطاء على حبل الغسيل يستدعي سريراً مخرَّباً
صراخ الماء في الدَست يتحدّث عن غسيلٍ مدعوكٍ
النسوة التي يعصرن الدموع والمخدّات يظنن أننا زغبٌ مُلقى في الهواء
هذا المساء
وقبل أن ينسكبن على الجدران
يفكّن تقليم أظافرنا على زجاجهن
ثم يقلن
بأنهن سيُظلِّلن ما ينعكس ويُسكَن وفقاً لمشيئته
لكنهن لن يمسّن شعرةً من شجرة الزان

الغاسلات على النهر يطرحن الأسئلة ذاتها
لماذا اقتلعتم شعرة الطقسوس البيضاء؟
لماذا تزوّجتم شجرةً واحدة بينما بإمكانكم الزواج من الغابة بأكملها؟
لماذا تمنحكم النساء اللواتي تفتحن لكم قشرتهن مكاناً بين الفأس والمَوقد؟
ولماذا تصرخ النسوة اللواتي يتعرّفن إليكم من تربتكم أسماءكم في زمن الثلج والتساؤلات؟

تحوّل الغاسلات جرارهنّ إلى ملجأ للماء والأطفال
حديقتهن معلّقة تحت قبّة إبطهنّ البنفسجية، وفي سلة خبزهن الموتى جائعون
الأشياء الضيّقة التي يحوكنّها لها صبر الصوف
وخضوع القطعان المنتجعة
لكن يكفي أن تتمزّق عقدةٌ كي يبدأن من جديد النار ذاتها
بدون تفرقة بين خبزٍ اختمر تحت القمر وآخر خُبز تحت الرماد

تقول الغاسلات أن الريحان منهكٌ والموتى بكامل حيويتهم
لا يمكن للريحان أن يوقف البحر
لا يعرف كيف يكتب اسمه
لا يعرف أن اسمه ريحان

تلمّ الغاسلات القطط عن حبل الغسيل عند نهاية الثلج والوحل المفتَّت
وتوزّعهنّ على جيوبهنّ كي تنقذهنّ من البئر
الزواج والترمّل يمنحانهنّ منزلاً يتركنه طوعاً للعابرين
ولا يحتفظن إلا ببركة الماء الضرورية للترائي
لا تفتح الغاسلات للمد الذي يجلد دمهنّ كلّما أكمل القمر دورته
ولا يقرأن كتابة الملح الغاضبة على زجاجهنّ
الأبجدية الشفافة ليست سوى حركات أمواجٍ على الطريق التي خطّها القمر
سبيلٍ مختصَر للموتى الذين يسيرون حفاةً نحو الأفق

فقط الموتى والمتزوّجون الشبّان يُحملون على الأكتاف، تقول الغاسلات
تعيش نساء المياه الراكدة بلا مبالاة الآبار
يمتد الثلم الدموي ذاته ورائحة الصمت الباردة ذاتها من بطونهنّ إلى حقولهنّ
بينما تشعر بناتهنّ اللواتي يمتطين الجبل بلا سرجٍ بالعاصفة التي تتدحرج على المنحدر
الكتب أطفال الحزن
قشور الغابة، يقلن
من الأفضل قراءة العرَق على طبل الكليتَين
وليصدي عدْوِ فرَسٍ صهباءٍ على الخاصرتين

تجهل البنات اللواتي يمتطين الجبل بلا سرجٍ أن الخطوط نفسها
تتشابك على نعوشنا وخبزهنّ
وأننا ندفع الظلمات كي تتغلغل رائحتهنّ العاصفة في تجاويفنا
وأنه بملاحقة أجسادنا نبكي أنفسنا فيهنّ بينما هنّ يعتقدن بأنهنّ يبكيننا

نستيقظ في أجساد البارحة كما لو أن الليل لم يكن، نجد أنفسنا شائخين فجأةً
يمنعنا النهار الذي يسد فتحاتنا من التفرّغ لمشاغلنا
نلجأ إلى خدعٍ لإبعاد جدراننا عنّا
نتظاهر بأننا مجرّد عابرين في ذاتنا
ثوبٌ يبقى واقفاً في حين أن المرأة غادرته
حواجزٌ تنتظم من جديد حول غياب رجُلٍ
سكّان البارحة عدلوا عن السكن
تقلق العتبات
تفقد مصداقيّتها حين لا يخطو فوقها أحد
تظنّ صمت الإسفلت بحراً
تدفُّق العابرين أمواجاً
والمصابين بحوادث سيرٍ مرتفعاتٍ من مرجان
لم تعد العتبات تعرف اللحاق بالطريق.

ترجمة: أ. ج.

المستقبل
الثلاثاء 10 حزيران 2008

التعليقات