محمد القيسي: المرأة بديل وعزاء موقت عن المكان المفقود

محمد القيسي: المرأة بديل وعزاء موقت عن المكان المفقود
الكتاب الذي ولد يتيما هذه السنة بعد عام من غياب والده الشاعر والكاتب الفلسطيني محمد القيسي وحمل عنوان "شرفة في قفص" ربما بدا للقارىء ..رغم وصفه بأنه رواية.. أقرب إلى شعر مكثف يروي بتوتر وحزن موحيين أفكارا وصورا مستعادة عن عالم حقيقي مفقود.

ومما يزيد المأساة ايلاما جارحا أن الشاعر الراوي في بحثه عن هذا المكان الذي لم يزل عالقا بالذاكرة منذ الطفولة والذي لم يستطيع العثور عليه في ترحاله إلى أنحاء عديدة نائية من العالم عجز أيضا عن استعادته حتى عندما عاد إليه فعلا.

في عودة بطل الرواية زائرا إلى فلسطين.. إلى غزة ورام الله من خلال ترخيص مؤقت يكتشف أن بيته الذي بنته له أمه في منطقة أحد المخيمات خلال غيابه في الخليج حيث كان يعمل ولم يعد يستطيع العودة بعد حرب 1967 حتى أن أمه اضطرت إلى لقائه في عمان لم يعد بيته إذ صادره الاقربون بعد أن صادر الاسرائيليون بيته الذي كان أبوه قد انشاه.

موضوع التفتيش عن "المكان" في سائر الأمكنة وعن المكان والملجأ في الجسد.. جسد المرأة يتردد عنده باستمرار. يقول وهو مع "صفية" احدى اللواتي احببهن وأحببنه "الجسد مكان وأنا مخطوف في غزة بالطاف صفية وأيامي تقل." إنه من هؤلاء الذين صاروا خارج المكان على حد تعبير ادوارد سعيد.

وحين تنقله بسيارتها التابعة للأمم المتحدة إلى عسقلان نجده يقول في حسرات لاهبة واصفا بعض بلاده التي لم يعد يعرفها "أين صرنا في العربة وعلى أي طريق. لا أعرف شيئا من شوارع بلادي أو علاماتها التي نمر... أين ترى يقع معتقل عسقلان الشهير الذي يرسف فيه المئات من أهلي... كيف حصل لنا كل هذا وعاقبنا التاريخ بجريرة التاريخ وسوى وكالة المنفى."

وفي رام الله يعود الاحساس بالفقد إليه فيقول "حين كنت أدب باحزاني على دوار المنارة في رام الله من جديد قادما من غزة... لابقى نهارا وليلة فيها راغبا في أن اتشربها كاملا... تأكد لي أنني لا زلت أبحث في المكان عن المكان وأبحث فيه عني كأن المكان نهر متغير وان هذا التغير ليس لصالح مكاني. هو رجوع عنه وعن تفاصيله ويكاد يكون مكانا غريبا علي. لم أجدني في المكان مثلما لم أجد المكان في. يتصادم في داخلي مكانان.. المكان الذي أرى الآن والمكان الذي كنت أحلم. ها هما يتصادما واراني حزينا لكل ما جرى ويجري."

وقد صدرت رواية القيسي في 327 صفحة متوسطة القطع عن دار الاداب في بيروت.

والقيسي يرسم ويروي بشعريته الحاضرة دائما والتي تعوض عن فقدان النص القصصي الصلب أحيانا بتقديم سرد وجداني دائم الحضور ودائم التجدد في ايحاءاته. روايته من الناحية القصصية خاصة من حيث الحدث الروائي المادي والذهني هي أحداث وصور مستعادة متكررة لكنه بتعبيره الشعري المتجدد دائما حتى في التعبير عن الحالة الواحدة أو الأحداث التي تكاد تكون واحدة يقدم الجديد للقارىء حتي تبدو الرواية كلها أقرب إلى قصيدة سردية أحيانا وذات لوحات متعددة هي حالات نفسية وجدانية محركة.

يكمل كلامه عن مسقط رأسه رام الله فيقول "يفرغ صدرك من الأحلام والفضة. تفرغ الأصابع من رسوماتها لأن الطير لا يغني ورام الله تفرغ منك وتعرف أن ماحفظت لها من حلل ظلت ساكنة فيك عقودا نهشتها الرياح مثلما الغياب وبددت الايام ملامحها ولم تعد رام الله في رام الله... أنت لم تجدها ولم تعثر على بيتك في المخيم. يفرغ صدرك من الأحلام والفضة وقد افضيت وحدك."

وينتقل إلى تذكر جملة قالها صديق له قبل الوداع. قال له "تقول إنهم اصدقاؤك. هم الذين لا يرغبون أن تبقى.. أفهم."

ويصف نفسه في النهاية قائلا "هذا أنا في نهاية اللعبة. ليس غير كلمات تنطفىء على هذه العتمة القديمة بينما تتأجج الذاكرة ولا يحف غير الغبار بي."

الرواية تحفل باشارت إلى مفكرين وشعراء وروائيين وفلاسفة قدامى ومحدثين كبار خاصة من الأجانب.. أوروبيين وأمريكيين وأمريكيين لاتينيين وآسيويين.

ومن قبيل الاستعمال الرمزي أو الربط بين تجارب الحاضر والماضي يقول لاحداهن واصفا حالة عجزه وشعوره بالاحباط "أنت ثقافتك فرنسية ولا بد أنه مر عليك ما قيل عن (الروائي الفرنسي جوستاف) فلوبير انه كان مسؤولا بشكل غير مباشر عن أعمال القمع التي تعرض لها ثوار الكومونة (في باريس) سنة 1871 لأنه لم يستطع وهو فلوبير أن يكتب سطرا واحدا ضد أعمال القمع." ترد عليه قائلة "لكل زمن مقولته." فيجيبها "ومع ذلك كلنا في القفص ذاته وتلك هي المشكلة."

إلا أن علاقاته تقع كما يقول في عالم اللاجدوى. وفي كلام "جذري" في محاكمة الذات والعالم يحدثها عن قول شاعر فرنسي "لقد افسدنا حياتنا لا حياتنا نحن الاثنين فقط بل حياتنا جميعا وكل شيء." وعندما تسأل يشرح لها قائلا إن الكلام من رواية كتبها الشاعر الفرنسي وقد قال الكلام عاشق أمام امراة احبها التقاها بعد ثمانية عشر عاما من البعد القسري "في ظرف مماثل لما نعيشه هنا." أما كيف التقيا فقد "كان هو جريحا ووصل في انسحابه مع فرقته إلى المكان الذي كانت المرأة تعيش فيه ..منذ افترقا.. على ذكراه. ثم يلتقيان."

يقول "كم كانت حياتي شاحبة من ورائي... هذه المناورة الطويلة الزائفة.. حياتي. كأنني مررت بجانب كل شيء. الا يجوز أن نبدأ من جديد. أن نعيد خلط ورق اللعب. أن نصيح ان في توزيعه غلطا." وقال "إننا نسعى إلى تبرير انفسنا أمام انفسنا ونطعن في السن. ولا يجوز لنا أن نفوت انشودتنا العاطفية."

يضيف بطل القيسي عنهما واصفا كيف تسحق الأحلام "لكن كل شيء كان قد فسد وفسد الحلم الوحيد حلمهما الخاص في ظلال هزيمة كانت تعم بلدهما آنذاك وكان العدو يتقدم. لهذا قالت محتدة.. وقع ما يكفي من القتلى بحيث لا يحق لنا أن نخونهم.. والا يكونون قد ماتوا من أجل لا شيء."

يخلص هنا إلى القول "لقد افسدت الهزيمة حتى الذكريات."

التعليقات