ماذا "تخرب" في الشخصية السورية؟

هذا موظف في الإدارة العامة لاستنهاض التراث العربي، انتظر منصب المدير العام حتى أعياه الانتظار، وأعياه شعور المدير القادم المخلص المطيع، والمغمور حتى اللحظة في الظل.

ماذا

هذا موظف في الإدارة العامة لاستنهاض التراث العربي، انتظر منصب المدير العام حتى أعياه الانتظار، وأعياه شعور المدير القادم المخلص المطيع، والمغمور حتى اللحظة في الظل.

إنه سميع، ذو التسعة والأربعين عاماً، والذي يقاسم صديقه عبد الهادي «بطولة» رواية خليل الرز «بالتساوي»، وبذلك يحق للرواية عنوانها، مثلما يحق لها باقتسام غيرهما لبطولة الرواية أيضاً، وبالتساوي.

بهذه القسمة (الضِيزى) نهض بنيان الرواية، بحيث يجيء السرد في سبيكة من العيار الثقيل، يخفف الحوار من ثقلها من حين إلى حين؛ ولكن ما سيهبها شرعيتها الفنية، أو ما سيهبها المعنى هو ما تمور به، وما يتلاطم فيه حد التفجر، فتقوم المعادلة الصعبة، وربما المستحيلة، بين أن يكون البنيان الروائي كتلة صماء وبين أن يكون متفجراً. والموران أو التلاطم حد التفجّر، بل لنقلْ: التفجر، يقوم في دخائل الشخصيات أولاً، أو غالباً، لكنه يقوم أيضاً في زمنها وفي فضاءاتها، كما في رواية خليل الرز «سلمون إرلندي» (2004) التي تفجّر فيها زمن حلب إبّان الصراع المسلح بين السلطة السورية والإخوان المسلمين وذراعهم المسلحة «الطليعة المقاتلة». وعلى نحو أدنى هو الأمر في رواية «بالتساوي».

بالعودة إلى شخصية سميع، ترسم الرواية أنه صار يحرص سلفاً على تنظيف رأسه من كل فكرة تفوح منها رائحة مختلفة عن الرائحة الموحدة للجميع، ليس فقط في الإدارة العامة لاستنهاض التراث العربي، حيث يعمل، بل وفي كل المؤسسات الحكومية الأخرى. ومن أجل ذلك ظل سميع يتسلح بالأفكار القومية الخالدة، ومنذ سنين طويلة، في افتتاحيات الصحف الرسمية، وفي أخبار القناة السورية دون غيرها، كما واظب سميع على «تنْكيه» آرائه النادرة أمام الموظفين بمعجزات الحكومة، حتى ولو كانت عن تحديث أداء الحمامات في الحدائق العامة.

إن ما يبدو في ما تقدم من السخرية هو «الديدن» الثاني لكتابة خليل الرز الروائية بعامة. وهذا أيضاً مما يهب كلمة «صمّاء» بصدد البنيان الروائي، شرعيتها الفنية، ومما يهبها المعنى.

في ما تقدم من رسوم شخصية سميع يجبه المرء ما خرّب في صميم الشخصية السورية هذا الذي تكوّن منه سميع خلال خمسة عقود، هي عمر الرجل، وهي عمر حكم حزب البعث لسورية.

وتعزز رواية «بالتساوي» هذا النظر إليها في سخريتها من الحزب الشيوعي المنخرط في الجبهة الوطنية التقدمية التي يهيمن عليها الحزب الحاكم (القائد). والطريف في الأمر أن هذه السخرية تنال شقوق الحزب الشيوعي السوري جميعاً، منذ السبعينات حين كان الشقّان (البكداشي نسبة الى الأمين العام المؤبد للراحل خالد بكداش) وما عرف بالمكتب السياسي أو جماعة رياض الترك، ثم بعد خروج هؤلاء من الجبهة، وصولاً إلى الانشقاق التالي «جماعة يوسف فيصل»). ففي رواية «بالتساوي» يستعيد سميع ذكرى المعسكر التثقيفي السري للحزب الشيوعي الجبهوي (بالإذن من أبي فراس الحمداني وأم كلثوم: أيّهم؟ فهم كثرُ). وقد أشرف على المعسكر الرفيق عضو المكتب السياسي ذو الشاربين المنسوخين من شاربي القائد الشيوعي البولوني الانشقاقي الشهير: ليشا فاليسا، وعلى رغم توصيات القيادة الحزبية باستبعاد مناقشة الأوضاع الساخنة في بولونيا وهذا ما يحدد زمن الذكرى (المعسكر)، فالشاربان يستدعيان في نفوس الرفاق أشباحاً مؤلمة توحي بفاليسا، وبتظاهرات عمال كراكوف، وبنقابة التضامن... وحتى بإعدام تشاوشيسكو بعد المعسكر التثقيفي بسنين.

وفق الرفيق عضو المكتب السياسي فالتاريخ قد أثبت صواب سياسة الحزب في الانخراط في الجبهة الوطنية التقدمية، فلولاها ما كان في المعسكر رفيق، والجبهة هي التي حمت الشباب المتحمسين من قصف أعمارهم، فالجـبهة أهون من الموت! أليس لقراءة الرواية أن تستطرد إلى الترحم على النموذج البعثي الشيوعي المدمّر بالدم للجبهة في العراق، والمدمّر بلا دم للجبهة في سورية، والتي - سبحان الله! - لا تزال قائمة حتى الآن.

برمزية رهيفة تتابع الرواية استغراق الرفيق عضو المكتب السياسي في صيد السمك. وفي المتابعة تشتبك الخيوط في دخيلة سميع ومونولوجاته، إذ إنه يرى ذلك الرفيق الصياد متمسكاً حتى النهاية بذيل قصبته التي تسحبه وراءها إلى قلب الماء العميق، فإذا بالسمكة الضخمة تصطاده بقصبته: أليست تلك أمنية سميع، وفي الآن نفسه أليست هي القراءة الروائية لمصير شيوعية كهذه؟

سندع سميع هنا يتطوح بين الرفاق الذين سيتهمونه بإغراق الرفيق، وبين طيف ابتسام التي تنبثق في عيد ميلاد سميع بعد سنين طويلة من بتر علاقتهما، وكذلك بين طيف المومس الفيليبينية والعجوز الست بهيجة صاحبة مسكن سميع، والمتعلقة به... سندع سميع هنا لنعود إلى صديقه عبد الهادي الذي يبدو أنه بطل القصة الأول. وقد بدأت الرواية بتغطية طفولة وفتوة عبد الهادي، ومنها بخاصة قراءة الشيخ لفاتحة زواجه من بديعة ابنة صديق والده، والعروسان طفلان. وإذ يتمرد عبد الهادي على أبيه التاجر الدمشقي، يعمل حمالاً، ثم يأخذ باقتراح سميع السفر إلى بيروت والعمل فيها، «كما يفعل معظم الأبطال القرويين في الكثير من الروايات السورية» وفق السخرية الروائية التي نقرأ.

تنكّرُ سميع لأبناء قريته من المسؤولين الكبار في العاصمة، وانصرافه للدراسة والعمل، هو ما كان قد مال بعبد الهادي إلى صديقه، لكنهما سيفترقان في بيروت، حيث يقيم سميع مع عدد من العمال السوريين في غرفة عارية في الأوزاعي، بينما يقيم عبد الهادي في عين المريسة، حيث يخفق في العمل، ويفلح في إنفاق فلوسه بشراء لوحة فنية. ولعل في الصور والعبارات المتعلقة بهذه اللوحة، ما يدّل على أسلوبية الرواية في واحد من مواطن تألقها. فاللوحة مسنودة على المقعد الخلفي للسيارة مثل أخت كبرى قبيحة سكرانة وسفيهة، وأمام غرفة سميع بدت اللوحة بين أولاد الزقاق مثل رجل مريض لا يقوى على المشي، وفي غرفة سميع، حيث يترك عبد الهادي اللوحة ويؤوب إلى دمشق، تبدو على الحائط مثل ميت من الذوات.

تتـــركز الروايـــة في ما يلي في حفل عقد قران بديعة علـــى عبد الهادي، وقد صارت صيدلانية وطال بها انتـظـــاره. لكـــن عبد الهادي يهرب قبل وصول القاضي. ومع سميع سيمضي زمن الكباريه الكثيف والعامر بالاسترجاع وبالمونولوجات والمشهديات وبالوقائع، وباستغراق عبد الهادي في عشق التونسية التي تعمل في الكباريه: أزهار.

هكذا تعري الرواية العالم الذي تتقاسمه - تعيشه شخصياتها «بالتساوي»، فيتناهبها الاضطراب والخيبة والهشاشة والقلق والرغبات المحمومة. وتكتفي الرواية بأقل القليل من تعليق ذلك كله على الخارج، لتتوّج أخيراً ككتلة صماء، كما هو ديدن خليل الرز منذ روايته الأولى (يوم آخر 1994)، وبخاصة منذ روايته الثانية (سولاويسي 1995). ولئن كان هذا الديدن قد تخلخل قليلاً في رواية خليل الرز الثالثة (وسواس الهواء - 1997) بفضل غلبة الحوار بين شخصياتها، فقد عاد الكاتب إلى لعبته الروائية الأثيرة والمميزة، وبخاصة كلما اتقدت مشهدياتها ومتناقضاتها، وكلما لفحتها الكافكاوية، كما تجلى في روايات الرز التالية «غيمة بيضاء في شباك جدتي» (1998) و «أين تقع صفد يا يوسف» ( 2008).

التعليقات