المسألة نسبية، إلاّ في حالة../ سليم البيك

-

المسألة نسبية، إلاّ في حالة../ سليم البيك
إذا فجأة صارت إشارة المرور حمراء، أقف. وهي عادةً تصير حمراء فجأة، وكثيرا ما تنتظرني أنا شخصيا أن أقترب إليها لتباغتني بأحمرها الفاقع فأنحصر لحظتها مضطرّا إلى أن أدعس على الفرامل بتلقائية وبكل جسدي المتجمّع لحظتئذن في قدمي اليمنى وأصابعها الخمسة المحشورة في حذائي. إذا فتحت الإشارة، أي أطلّت بنورها الأخضر البهي، لا أتحرّك فورا، أنظر حولي أقول في نفسي لسائقي السيارات على جانبَي: يلا.. امشي.. شو مستنّي؟ ولا أرفع قدمي عن الفرامل قبل أن يتحرّك أحدهم.

المشكلة هنا، عندي على الأقل، في أني لا أصدّق بأن الإشارة أصبحت خضراء تماما، أتساءل: ماذا لو كان يشوبها بعض الاحمرار، أو الاصفرار، نتيجة تعرّض تاريخي لأشعة الشمس اللئيمة؟ أقرر أن يبادر أحدهم للمشي قبلي و"تجاوز" الإشارة الخضراء، فإن مرّ بسلام أمشي خلفه. أصلا مجرّد مروره يؤكّد لي بأن الإشارة خضراء بما يكفي، وإن شابها بعض الاحمرار أو "البرتقال" فإن ذلك لن يسبب لي بمخالفة "أخرى". وقد يقف شرطيّ عند كل إشارة أمرّ "حضرة جنابي" بها ليقسم لي بأن الإشارة خضراء وأني أستطيع المرور، ويضع دفتر المخالفات جانبا إلى أن أبتعد بسيارتي عنه، لكني استبعدت ذلك كون الاحتمال ليس واقعيا أو عمليا، وذلك لأن الإشارة قد تسترجع أحمرها بينما هو يحاول إقناعي بأن الإشارة خضراء أو زرقاء أو تركواز أو حتى ما تحت الحمراء ولكنها بالتأكيد ليست حمراء. ولكني دائما أفكّر بأن المسألة نسبية، ما ذنبي أنا إذن إن كانت المسألة بحق.. نسبية؟

وإن صار وقدّر الله واقتنعتُ بأن الإشارة خضراء لحظتئذن، مع تأكيد الضجيج الذي سببته أوركيسترا رتل كامل من السيارات خلفي بأن الإشارة خضرااااااء، توكلت ومشيت. فإذا مشيت بدأت أفكّر: لماذا لا تمشي إذن بقية السيارات الواقفة عند الإشارات الأخرى؟ الإشارات الثلاث الأخرى في هذا التقاطع، ولكني قلت بأن المسألة هنا أيضا نسبية، فإن كانت الإشارة خضراء عندي، فليس بالضرورة أن تكون خضراء عندهم، بل من الضروري جدا أن تكون حمراء. أما إن كانت خضراء ومشت جميع سيارات الإشارات الأربع عند التقاطع، لعمّت الفوضى و"فاتت" السيارات ببعضها. فما عدت بعد ذلك أسأل نفسي مستنكرا بلادة السيارات عند الإشارات الأخرى: طيب ليش هدول واقفين طالما الإشارة "خضرا"؟

وفجأة، وبقدرة قادر، خطرت على بالي حماس وفتح، كل منهما يريد إشارته الخاصة خضراء- وإن كان هنالك تحفظ فتحاوي على كلمة خضراء- إلى أن تقوم الساعة، وبدون تناوب بين إشارات التقاطع كلها. وغير ربك لا يقنع أحدهما بأن الإشارة يا إخوان يجب أن تكون خضراء بمكان ما، وحمراء بمكان آخر- وإن كان هنالك تحفظ حمساوي على كلمة حمراء- وأن الأخضر، أو الأحمر، يا إخوان لا يجب أن يكون مصير إشارة ما إلى يوم الدين، وأن الحياة والقضية وفلسطين لا يمكن أن يسيروا إن كانت الإشارة خضراء عند كل منكما، وأنها يجب أن تحمرّ عند طرف إن اخضرّت عند الآخر، وأن هنالك إشارات وأطراف أخرى غيركما.

كما أن الطرفين لم- وعلى ما يبدو "لن"- يفهما بأن مسألة "السلطة" نسبية، وأن هنالك الرئاسة والحكومة والبرلمان والبلديات والمنظمات الأهلية والثقل الشعبي والعمل الجماهيري والكفاحي والإعلامي، والمكانة التاريخية والسياسية...الخ، وأن كل ذلك سيحول دون أن تخضرّ إشارة أحدهم تماما بنسبة 100%، وتحمرّ تماما بنسبة 100% عند الآخرين من أحزاب ومؤسسات، بما فيها فتح أو/و حماس.
الحل الأسلم هنا هو أن تتم مخالفة الطرفين، فتح وحماس، الذين "فاتا" ببعضيهما وارتكبا وسبّبا لعدة حوادث دموية وأليمة، بل وتسببا في عطل وشلل في الحراك السياسي والتداول الديمقراطي لنتف السلطة الشكلية في الضفة وغزة- ولا يستهين أحدنا بهذه النتف الهشة التي أراق كل من فتح وحماس دماءً فلسطينية زكيّة أجرةً لها. والمُخالِف المعاقِب هنا هو الشعب، ففي أي انتخابات قادمة- مثلا- من الصحّي والآمن للقضية أن يتجنّب الناسُ كلاً من فتح وحماس إلى أن يقتنع أحدهما، وهذا ليس بالأمر السهل ولا المتوقع أبدا، بأن هنالك من الفلسطينيين من هم من فتح ومن هم من حماس وأن هنالك أيضا وخصوصا، الأكثر من كليهما مجتمعين، وهم من قرفوا تماما من ممارسات الفصيلين الدموية والإقصائية والمقززة بالكامل، ودون نسبيّة هذه المرة. وقد اجتاز هذا القرف في هذه الحالة حتى نسبة 100%.

كاتب فلسطيني
www.horria.org

التعليقات