بين "الزمن الباقي" و "عجمي"../ راجي بطحيش

-

بين
بالصدفة، أو ليس بالصدفة، حضرت خلال أربعة أيام العروض الاحتفالية لأفلام "الزمن الباقي" لإيليا سليمان في الناصرة، و"عجمي" لإسكندر قبطي ويارون شاني في القدس.

وكنت قد قررت أن اكتب عن "الزمن الباقي" فقط وعلى حدة بما أنه كان الفيلم الأول الذي شاهدت، ولكن وقع "عجمي" كان مهولا وجعلني أفقد كل ما جهزته في رأسي عن "الزمن الباقي"، وهكذا تناثرت الكلمات في داخلي قبل أن تنطلق باتجاه الحاسوب..

إذا نحن أمام عملين كبيرين بكل ما تعنيه الكلمة من معنى.. عملان يحاولان سرد تشظيات الواقع الفلسطيني داخل مناطق 48 التي تدعى إسرائيل بدون خلط للأوراق وبدون محاولات عبثية لاستجداء شرعية من خلال إقحام قصص "إنتفاضاتية"... ولكن المميز والعظيم والمشترك بين العملين هو إنجازهما بطريقة تحويل المدينة (موضوع العمل) إلى ورشة عمل سينمائية جماعية بجدارة وعلى جميع المستويات الإنتاجية (بإستثناء التمويل بالطبع) مرورا بالفنيين، الممثلين وحتى أصحاب البيوت.

ففي "الزمن الباقي" يتصالح إيليا سليمان مع مدينته ومسقط رأسه الناصرة (والتي حسب رأيي صفعها بعنف بـ"يد إلهية" مراهنا على الانتفاضة الثانية ونتائجها، مقابل الفراغ المستشري داخل شخوص حيه النصراوي)... وهو إذ يتسامح مع تاريخها ويسرده بشيء من العذوبة الخجولة والتبرير لحيثيات تسليمها في العام 1948انقاذا لقاطنيها من التشريد الذي كان بمثابة مصيرا لسكان باقي المدن، يقدم فيلما عن المدينة، وبها بمعنى تسخير كافة معطياتها البنيوية والسكانية وأزقتها وشوارعها وملامحها المميزة لها في تشكيل الفيلم، بحيث يجلس المشاهد (وخاصة ابن المدينة) ويشعر أنه يستعيد مناما كان قد عايشه وصعقه عن الأزقة والحارات والجدات والعمات والآباء والأحياء والأموات والطفولة والمستقبل، كما يبقيك هذا العمل مع شعور غريب بأنك النصراوي الوحيد الذي لم يمثل فيه أو يشترك بأي شيء فيه، حتى لو كان ذلك بتضييف الماء لطاقم العمل..

إذا هي سينما المدينة التي تمثل نفسها من جديد وبكافة مقدراتها، وهذا ما يحدث في "عجمي" الذي يسخر صناعه كافة عناصر حي عجمي في يافا لتنفيذ الفيلم الذي يعتبر وبحق مشروعا حياتيا متكاملا لمخرجيه، والذي يرتكز على قصص شبه حقيقية – البطل في فيلم "عجمي" هو الحي نفسه. وتكمن روعة المشروع وغرائبيته في آن في أن الممثلين أو اللا ممثلين يتأرجحون طوال العمل بين تصديقهم وإيمانهم بأدوارهم التي تشبه حياتهم وبين ارتجالها، فيتأرجح المشاهد معهم بين شعوره بأنه يشاهد كاميرا خفية في متجر سيتم نهبه بعد قليل وبين مشاهدته لبرنامج تلفزيون الواقع خلال24 ساعة، فتتفاعل الحبكات ثم تتشعب ثم تتجمع بفسيفساء ممتعة تؤرخ لقتامة حاضر هذه الزاوية المعتمة والمنسية من بلادنا (والتي كانت في السابق قلبها النابض) فنخرج من فيلم هو مختبر غاية في الرقة والفظاظة، التجريبية والرشاقة والروح الشابة في آن..

"الزمن الباقي" حكاية وجود تحايل على ذاته مسددا ثمن بقائه، بينما "عجمي" حكاية أشلاء تدافع حتى الرمق الأخير عن أنفاسها المتبقية.. وما يجمع بينهم هو ذلك الوعي السينمائي الهائل لسكان عجمي- يافا والناصرة الذي لولاهما لما كان هذا المشهد السينمائي المشرق الذي بدأ في "كان" 2009 ومضى إلينا.

التعليقات