اختراق الثقافة الوطنية../ د.ناديا خوست

-

اختراق الثقافة الوطنية../ د.ناديا خوست
نبشت السيدة سعاد جروس في الكفاح العربي، بجرأةِ إعلاميةٍ ذات رؤية واسعة، هموم الوضع الثقافي العربي. ورددت تساؤل المواطن: أين الأصوات التي صعدت على أكتاف القضية الوطنية والقضية الفلسطينية؟ وما أعجب أن يتزامن التساؤل مع الاحتفال بذكرى الشاعر الشابي، ونحن نستعيد قصيدته "إذا الشعب يوما أراد الحياة"!
مهما تميّزنا بالتفاؤل وبطيبة القلب، لانستطيع أن نتجاهل أن العدو يضع الاختراق الثقافي في أسس مشروعه السياسي. فلابد للتنازل السياسي من دعاة ينخرون الثوابت التي تؤسس البنية الروحية. واستبدال نخبة ثقافية "قديمة" ذات منظومة فكرية وطنية، بأخرى جديدة تحول المناخ العام من الاهتمام بمسائل كبرى إلى تفاصيل صغيرة. فهذا المناخ يمكن أن يُفقد السياسيين الوطنيين الظهر والسند.

تصاغ هذه النخبة الجديدة من مثقفين وكتاب معروفين ثبطهم الانهيار العالمي فشعروا بأنهم ضيعوا العمر في مسار لم يحمل لهم ربحا كبيرا. واندغموا في المشروع الجديد كي يظلوا في الصدارة. وقد ظهر بعضهم في الحفلة التي قاد فيها إسرائيلي الفرقة السيمفونية المصرية.

إلى ذلك، تصنّع مجموعة من مثقفين متوسطين يرغبون بالشهرة السريعة، ويعون بالحدس أن التمرد دون مشروع سياسي يناسب روح التجديد. فيقفزون إلى مؤتمرات عالمية ويجلسون إلى جانب شخصيات ثقافية مشهورة. وترتب لهم قراءات في مهرجانات الثقافة في الحانات والمطاعم والساحات، يمكن أن يخزنوا منها ذكريات ينشرونها في بلادهم. الثمن الذي يجب أن يدفعوه: أن يثبتوا أنهم بعيدون عن الصراع العربي الإسرائيلي. وأنهم يحادثون يهودا ليسوا من أعداء الصهيونية، ويذكرونهم في مذكراتهم عندما يسردونها مكتوبة. فيسجلون هنا وهناك أنهم صافحوا الأيدي التي رمت إخوتهم بالرصاص والقنابل، وجالسوا "أبناء عمنا".

أبناء عمنا، وهم مستوطنون مستوردون غرباء عن المنطقة؟! وهم يحاصرون غزة فيعيش أهلها بين أنقاض بيوتهم ولاماء للشرب؟! وممثلة اونروا، نفسها، ترسم صعوبة الحياة اليومية هناك، ومن أبسطها: لاأحذية للأطفال تلائم مقياس أقدامهم! وتقرير غولدستون يكشف أنواع الجرائم الإسرائيلية!

يختلق المشروع الاستعماري الغربي خرائط للمنطقة العربية يوطّن فيها إسرائيل، وينظّم الغزو والاغتيالات، ويسوق الخطاب الإعلامي العالمي والمؤسسات الدولية لتستر قهر الاحتلال وقصف الأحياء السكنية وفظائع السجون.

فهل يمكن فصل الفكر والفن عن معاناة الناس ومصائر الشعوب، أي عن محور الصراع المركزي؟ هل يُقبل أن يغيب المشروع الثقافي المتصل بالحاجات الروحية والوطنية؟ كأن رسوم أحمد معلا تعبّر، بالتجمعات الإنسانية التي تظهر ملامحها العامة فقط، عن انحسار المجموعات أو استبعادها.

في مستوى آخر يلاحظ في الفن التشكيلي الجديد الانصراف إلى التقنية، ومزج الألوان بمهارة، وابتكار الأشكال دون موضوعات كبرى. وتحتل الزهور مساحة واسعة. ويصبح الفن زينة جمالية. في هذا السياق يظهر الترفع على علاقة الفن بموضوعات الحياة الحارة، كأنها رؤية قديمة مهزومة. ويتقدم الانبهار بمصطلحات الحداثة ومابعد الحداثة. وتعلّق الأشكال الأدبية خارج ماتؤديه. وتظهر نساء يكتبن عن الجنس مع "رشة ملح" تذكر السياسة والمنظمات والحرب. ويمتزج ضرب الرجل المرأة بحريتها في خيانة المحبوب والزوج وحقها في تعدد العلاقات بالرجال. تسوّق الجرأة في كشف العلاقات الجنسية ونبش الأسرة الشرقية. في هذا الموكب نلوك في النقد الكتب التي هجرها الغرب، ونتزين بأسماء نقاد غربيين مهجورين، كي نظهر أننا نتابع الثقافة الغربية. ويصبح كونديرا أحد أنبيائنا المعاصرين.

وننساق في الضجة التي رفعته في الغرب بعد ردّته وهجرته من بلاده. ونحاول أن نكتب على طريقته فنمزج الجنس والتوافه اليومية بالسياسة لنحط من العمل السياسي. وكأننا نحقق بذلك كله مايراد لنا: ألا نصل التعبير الفكري بمسائلنا.

هل نتذكر أن البديل عن الصراع الاجتماعي والوطني، الذي أعلن في تسعينيات القرن الماضي، في خضم الانقلاب العالمي، هو الحريات الشخصية، حرية العلاقات الجنسية، حرية المرأة كحق فردي مقطوع عن الحقوق الاقتصادية وعن البنية الاجتماعية والإنسانية، البيئة دون علاقتها بالأنظمة الاقتصادية التي تبددها، حقوق القوميات كأنها ضد القوميات الأخرى، ونبش الأحقاد المذهبية.

أفادت الموضوعات البديلة من التوق الإنساني إلى الحرية، والرغبة في علاقات إنسانية رحبة، والحق في التمايز الثقافي القومي والفردي، والمسافة الواسعة بين الواقع والقوانين، والحاجة إلى التجدد. لكنها دفعت في دروب متعرجة وقاتلة! وليست المسألة استبعاد الموضوعات الحساسة في مجتمعات وهبتها الحضارات القديمة تنوع ألوان النسيج البشري. بل المسألة غياب الرؤية الواسعة التي تضعها في مكانها التاريخي، وغياب الأداء العلمي الذي يجب أن تتميز به الأبحاث. والانتباه إلى الزمن الذي توظف في سياقه.

يعتمد الإبداع الفني العمل الفردي، والصوت المتفرد. لكن الزمان والمكان يصوغ المبدع نفسه. وعندما يرتقي المبدع يعبّر عن جوهر الزمن ومحاور الحياة. وقد يكون محظوظا بأن يسنده مشروع ثقافي واسع وجذاب يقرأ الحاجات التاريخية والإنسانية.

فأي مشروع مؤهل لاحتضان الثقافة اليوم؟ ماهي معاييره ورموزه، ومن هم حمّالوه؟ هل يمكن أن يوجد مشروع سياسي وطني دون مشروع ثقافي وطني يسنده؟ يقول أنطونيو غالا: "الثقافة هي سيدة البيت وحاميته، الدين والاقتصاد والسياسة ليست إلا خدمها". (غرناطة بني نصر. ص86).

وفي ظروفنا العربية الثقافة هي الحصن والحصانة، هي المقاتلة التي تواجه الخطر الصهيوني، والمؤهلة لكشفه. فمهما تمنينا السلام وحلمنا بالأمان فنحن وسط عدوان على بلاد الثروات العربية والإسلامية. في واقع انفلتت فيه الوحوش دون قانون دولي يعقلها. واعتُمدت إسرائيل قاعدة عسكرية نووية يباح لها أن تمتد فوق فلسطين التاريخية، وأن تختال في الدماء العربية. داست خريطة الشرق الأوسط الدامية ملايين القتلى العراقيين واللبنانيين، ودمرت البنية التحتية وبنية الدولة، ونهبت شواهد التراث الوطني. فتقدم الصحفيون الميدانيون تحت القصف وسجلوا الجرائم والمجازر وبطولة المقاومة. لكننا لم نسمع شاعرا في مستوى الإعلام المرئي الميداني الذي رصد العدوان على لبنان وغزة.

فهل يجوز أن يغيب المشروع الثقافي عن ذلك الواقع؟ ولانعني المشروع الذي يملي، بل الذي يحتضن ويحاور ويسند، ويحمي الثقافة العامة. ويتفادى بالمحاور الكبرى مايشبه فوضى حمّام السوق. فهل يناسب واقعنا أن نغيب في الفرق بين الشعر المرسل والمنثور والموزون، وأن نمضغ موضوع التراث والمعاصرة! وأن يجهد كاتب عربي ليثبت أن "ألف ليلة وليلة" ألفها أحبار يهود، وأن شهرزاد يهودية والسندباد يهودي! وأن تستهوينا الكتابة عن صورة "الآخر" اليهودي! وأن يسجل كاتب عربي أنه قابل "أولاد عمنا" في مؤتمر شعري اوروبي! وأن ينقل لنا، دون أن يذكر المصدر التاريخي، أن بحرة السباع في قصر الحمراء نقلت من بيت يهودي! مع أن من يزر قصر الحمراء ومن يدرس علاقة عمارته بالماء يتبين أنها من بنية القصر المعمارية، متصلة بسواقيه ونظامه.

يقول أنطونيو غالا، الذي درس تفاصيل تاريخ الأندلس، إن الشكر لن يفي محمد الخامس قط حقه "لتزيينه الحمراء بالفناء الذي يحتوي في وسطه على فسقية الأسود، والمساكن المحيطة به". (غرناطة بني نصر ص 134).

هكذا تنساق مجموعة من النخبة، مخضرمة وجديدة، مبتعدة عن واقعنا الدامي في وهم: أنها في روح العصر الجديد الذي تجاوز الالتزام في الفن وعلاقة الفكر بالمجتمع!

أنها تحيط بالرائج في سوق المهرجانات العالمية كأبناء الغرب! أنها ترتفع فوق الواقع المحلي إلى آفاق العولمة، وتغتسل من الضيق الذي كان يصور لها أن الثقافة ذات صلة بالمشروع الوطني! وتنساب بتسامحها في تهويد التراث والفكر الذي تسعى فيه الصهيونية، فتعترف حتى بعمارة يهودية! وتصبح المسألة أن نعترف "للآخر اليهودي" بحضارته وعراقته، "وانتمائه إلى المنطقة"، هو المحتل الذي لايعترف بالشعب الفلسطيني والحقوق العربية! ويبيح هذا "التسامح" أن يشترك كاتب عربي في كتاب منشور مع إسرائيلي!

يقول عزمي بشارة: "وقد كثرت في صناعة الرأي العام نماذج الكتّاب الذين يصنعون لهم مكانة، أو ثروة، أو كلتيهما، من التعايش، أو من التسامح". (حب في منطقة الظل. ص 89). ويصح كلامه خارج الأرض المحتلة! فيوم صور الوهم أن التطبيع الشامل مع العدو حتمي، والشاطر من يسرع ليأخذ مكانا في الصدارة، أعلن كاتب عربي أنه التقى جنرالا إسرائيليا، من مجرمي الحرب، وعبّر عن سعادته لأن ذلك الجنرال كاتبه!

عندما يقدم موضوع "صورة الآخر"، بديلا عن صورتنا نحن، نتساءل: أي آخر؟ الإسرائيلي القاتل والعنصري؟ أم الغربي الذي حاصر العراق ومنع الدواء عن الأطفال المصابين بالسرطان، هبة الاورانيوم المنضب الأمريكي ـ الغربي؟ الآخر الذي سلم خرائط ملجأ العامرية كي يصيب القصف النساء والأطفال؟ الآخر الذي منع أقلام الرصاص عن أطفال العراق؟ الآخر الذي استقدم الموساد الإسرائيلي إلى العراق فقتل مئات العلماء العراقيين؟ الآخر الذي يتجاهل حصار غزة؟ الآخر الذي يطلب أن نعترف بأن إسرائيل كيان شرعي مع أنها مجتمع من المستوطنين يهاجم المزارعين الفلسطينيين ويمنعهم من قطف زيتونهم، ويرفع جدار الفصل، ويسرق الماء العربي، ويهدد المسجد الأقصى، ويحتل بيوت المقدسيين أو يهدمها؟

كم يلزمنا الانتباه كي نميز بين الرحابة الثقافية التي تتسع للتراث الإنساني، وبين إلغاء الثوابت التي تؤسس البنية الروحية العربية!

والمثل التالي شاهد على التباس الحدود بينهما: في إحدى الجرائد الوطنية نطالع تعليقا على المقالات الصهيونية المدسوسة في الصحافة العربية في الثلث الأول من القرن الماضي. لكننا نقرأ إلى جانبه مايشبه الفخر بترجمة قصص كاتب عربي إلى الايطالية. مع أن المقالة نفسها تبين أن الكاتب يتميز "بقدرته على التعرية ليسخر من كل شيء.. والتفاصيل التي تبدو في العادة مجتزأة من سياقات نصوص أو مايمكن أن نسميها المسكوت عنها فسلط الضوء عليها، وفي الوقت ذاته كسر الهالات وأطفأها عن الأمور التي تبدو في نظرنا أحيانا كبيرة".

أليس الهدف المعروف كسر المقدسات والمسائل الكبرى، على طريقة كونديرا الذي يخلط الجنس بالسياسة ويحتذيه كتّاب مغاربة؟ ألم تنبش بعض الروايات والأبحاث "المسكوت عنه" في الأسرة العربية المسلمة، والجنس عند العرب، والتعذيب في الإسلام، لتسفيه الإسلام وتسويغ مطاردة المسلمين والعرب؟ ربما يفسر الجهل التسرب الصهيوني إلى الصحف في بدايات القرن الماضي. لكن من يجهل اليوم المشروع الصهيوني العولمي وأزياءه الثقافية؟! أيكون المواطن العادي أكثر إحاطة به من كاتب عربي يزهو بلقاء "أبناء عمنا"، وكاتب عربي يجتمع مع إسرائيلي في منشور "متوسطي"؟!

تفكك البنية الروحية الأخلاقية بأسلوب يواكب كسر الثوابت في الموقف من العدو واستبعاد الجوهر الاجتماعي والوطني من الفن.

في الماضي وضعت "الروح" مقابل "مرجعية" العلاقات الاجتماعية والاقتصادية، كأن الروح ليست حياة المادة! واليوم يقدم الجسد والعلاقات الجنسية "مرجعية" للفن. ويتقدم إلى عناوين بعض الروايات مغريا بالشهرة والانتشار. أين الإبداع الجميل في فصل الحب عن الجسد، وفصل الأشواق والعواطف الإنسانية، موضوع الفن، عن الجنس؟ هل الجرأة في إعلان العلاقات الجنسية والمثلية والزهو بالفسق فضيلة في مجتمعات تُنهب وأوطان لاحرمة فيها لحق الحياة؟

بعد اجتياح لبنان أمس، قصدت بعض الروايات أن تصور تعدد الزوجات في جنوب لبنان. وشاهدنا الحفاوة العالمية بها. وبعد الانتصار على العدوان الإسرائيلي في تموز، بعد معرفتنا النساء اللواتي سندن المقاومة الوطنية وسحرننا بوعيهن وشجاعتهن، تقدم رواية "اسمه الغرام" نساء مشغولات بتفاصيل العلاقات الجنسية والعلاقات المثلية. وتسقط حتى قعر الانحطاط والابتذال. تقصد أن ترسم صورة بديلة عن نساء المقاومة اللبنانية فتظهر أن نساء الجنوب اللبناني مقموعات ومنافقات ومنحلات، وأن رجاله مستبدون ومتخلفون، وأن شيوخه انتهازيون.

ومع ذلك يعيّن لتلك الرواية مراسلون تطير مقالاتهم إلى جرائدنا ومجلاتنا، وتُطلب لها الجوائز، وتُرفع الكاتبة إلى لجنة تحكيم تقرر مايسقط وماينجح من إنتاج الشباب، لتؤثر في جيل جديد! وترشح الرواية، الضعيفة بلغتها وأدائها الفني، للترجمة. وينشر "كتاب في جريدة" رواية سابقة للكاتبة، في الروح نفسها والمستوى نفسه. فنتساءل من رشحها للانتشار في الوطن العربي ليسوّق فساد الذوق الأدبي والفساد الأخلاقي ويلمّع نمطا من الكتّاب! هل ينبهنا ذلك إلى نخبة عربية مهاجرة، أكثرها ليس سفيرا لبلاده، بل رسول التيارات الغربية إلى بلاده؟ نخبة مؤهلة لإدارة الاختراق الثقافي، تستند إلى صلاتها الغربية لتصطنع لها مريدين في بلدها الأصلي، وتروج التمرد على الثوابت الوطنية كأنه تمرد على التخلف، لاتحلل أسباب انهيار المشروع القومي والمنظمات المقاتلة اليسارية السابقة والردة العامة، ولا تصلها بنشاط عالمي ساهم في فشلها. بل تضع نفسها في مكان القاضي المترفع لا في مكان الكاتب الفاحص الراصد. فتظهر الانهيار ولا تريد أن ترى البطولة والمقاومة. وتستسلم لإغراء كشف العورات وتصغير العلاقات بين الرجل والمرأة. واستبعاد المثل الكبرى والمسائل التي حملها الأدب الإنساني. تقدّم هذه النخبة كفصيل تحف به الطبول.

ومن يتابع "كتاب في جريدة" يلاحظ أنه نشر نصا جميلا لشوقي الأمير عن بغداد تجاهل الاحتلال الأمريكي. ونشر رحلات كاتب أردني مغترب التقى بإسرائيليين. ثم نشر نص الكاتبة التي ذكرناها.

هل يسوّغ هذا الاختراقَ مناخُ انهيار اجتماعي وسياسي؟ لكن جوهر الواقع العميق: انهيار مشروع الحرب على أفغانستان والعراق، وانهيار الاقتصاد الأمريكي. وهزيمة عسكرية للجيش الأمريكي في العراق، هزت البنية الأمريكية وأنتجت لين اللغة الديبلوماسية. ومقاومة لبنانية شعبية مسلحة كسرت أسطورة الجيش الإسرائيلي. ومقاومة فلسطينية باسلة بالرغم من الحصار. وممانعة سورية سندت المقاومة الوطنية العربية في اللحظات الدقيقة. فهل يسدد الاختراق الثقافي في حرب مواكبة؟ ولماذا تبقى الثقافة دون تلك العلامات الكبرى؟! ألا يفسر لنا الظمأ العام، الجمهور الذي ملأ باحة قلعة دمشق ليستمع إلى جوليا بطرس ويردد معها أغاني المقاومة؟ نتذكر الزركلي وأمير الشعراء شوقي. نتذكر مسرحيات دريد لحام التي عجنت مسائل اجتماعية ووطنية وسياسية وأدّتها بفن جميل لايزال يطربنا. نتذكر "ياظلام السجن خيم" التي كانت نشيدا شعبيا وطنيا رددته بلاد الشام في ثلاثينيات القرن العشرين، وتنقّل في سورية وفلسطين. فنتمنى أن نسمع مثله اليوم من بغداد إلى فلسطين. فلا تظل بلادي لك حبي وفؤادي، نحن الشباب، موطني، سورية ياحبيبتي ومثيلاتها، قمة لايرقى إليها مايفترض أن توحي به الأحداث. ونتمنى أن ينتشر في الشعر السياسي مايرقى إلى قصائد نزار قباني. فهل السبب في هذا الفراغ أن لغة الوجدان العام لم تعد لغة واحدة بل أصبحت لهجات تعبر عن فئات؟ هل السبب مناخ استهلاكي يصور أن اللغة العربية نفسها متخلفة، وأننا "نتحضر" بمقدار مانشبه الغرب؟

لذلك تساءلت سعاد جروس عن مكان النخبة الثقافية الفارغ. ورسمت رغداء مارديني وحدة الكاتب الوطني. وتساءلت عفراء ميهوب هل أصبحت الثقافة مختزلة بدراما تلفزيونية. مع أن المسلسلات التلفزيونية تغرق في تفاصيل الحياة اليومية والرموز الاستهلاكية من أزياء وسيارات ومطاعم وهواتف نقالة وعلاقات حب عابرة. فيفتقر العرب إلى الاجتماع حول أعمال كبرى تستنهض الروح وتوسع المعرفة. ويمر في طيات العتمة مسلسل "الاجتياح".
وبعد، لابد من عبق وطني في الفن كي يلامس الوجدان. وإلا كان كسائل كيميائي ملون، أو كألعاب الضوء. موضة لاتشهد على زمان ومكان وبشر. قد تثبط الفنان قوة الحدث الواقعي فيشعر أمامه بالتهيب. وهذا الامتحان الفني شرعي، ولامهرب منه. لكن تواضع التعبير الأدبي غير التنصل من الهموم العامة، والبعد عن جوهر الأحداث!

ربما يبدو من يحمل في الفن قضايا كبرى تملأ وجدانه، كمن يسبح عكس التيار. ولكن هل يُبقي الزمن غير هؤلاء؟ مع ذلك لايسوّغ الايمان بالمستقبل تجاهل مسؤولية المؤسسات في أن تعيد للثقافة مكانتها. ومتى كان المشروع السياسي الوطني ممكنا دون رديف ثقافي متصل بتربية روحية تحصن المواطن، ودون رموز ثقافية ذات سمعة ومكانة!

يقول أنطونيو غالا: "الثقافة هي المفهوم الوحيد الذي يمكن أن يتأسس وينمو على قاعدته مفهوم الوطن". فهل نبالغ إذا أكدنا ضرورة الثقافة لأية مهنة! ألا تنقل الثقافة حتى الحرفة اليدوية التي تتكئ على معلومات إلى فضاء الإبداع؟

وتسكب الشعر وتجلو روح الظاهر المحدود! وتكسر الحجب عن الثروات الروحية والفكرية! وتصون الموهبة من التكرار والنقل. كم الحياة ضيقة دون الثقافة وكم البصر دونها حسير!

التعليقات