"الاستشراق جنسياً": تذكير الأنا وتأنيث الآخر

-

يجهد الكاتب التركي إرفن جميل شك في كتابه اللافت «الاستشراق جنسياً»، والذي نقله الى العربية عدنان حسن وقدم له الشاعر الراحل ممدوح عدوان، في تظهير الرؤية الغربية الى الشرق في ملمح أساس من ملامح الاستشراق هو الملمح الجنسي. فعلى امتداد ما يقارب الأربعمئة صفحة ينبري جميل شك لفضح الدوافع السياسية والاستعمارية للثقافة الغربية التي استمات أربابها في ايجاد الذرائع الأخلاقية والسلوكية المسوغة لغزو الشرق والاستيلاء على ثرواته ومقدراته.

استنفر الغرب الأوروبي على وجه التحديد كل ما يمتلكه من وسائل وتقنيات علمية وفكرية متطورة من أجل التشديد على حقه في غزو «الآخر» الشرقي ما دام هذا الآخر متخلفاً وراكداً وغير قابل للتطور. كان لا بد تبعاً لذلك من اقامة كل أشكال التمييز بين الأنا الأوروبية والآخر الهمجي والبربري. وهو تميز يتصل بالحضارة والثقافة والقدرات العقلية كما يتصل بالجنس والجسد وما يحيط بهما من طقوس واستيهامات وأحلام. فكل ما هو خارج عن الفضاء الأوروبي يعتبر غريباً وغامضاً وينبغي استكشافه وسبر غوره. وهو غالباً ما يكون مأهولاً ببشرٍ غير أسوياء يحتاجون باستمرار الى من يعيد تأهيلهم وحملهم الى ركاب التطور حتى لو تم ذلك من طريق الغزو والسيطرة المباشرة.

على أن البعد الجنسي الايروتيكي لم يكن كل البعد عن منظور الرحالة الغربيين الذين خطوا الخطوة الأولى في مسيرة الألف ميل التوسعية. فقد لاحظت الباحثة أليسون بلنيت أن كتّاب الرحلات في القرن التاسع عشر استخدموا في أغلب الأحيان الصور والاستعارات الجنسية التي تعزز المنزلة الذكورية الفاقعة للمستكشفين الأوائل. فهؤلاء الأخيرون هم الذين تمكنوا من «فتح» و»اختراق» البلدان الخطيرة المجهولة التي توزع خصوبتها بالتساوي بين الأرض والنساء. فالأرض هناك «عذراء وشرسة» والمستعمر ذكر فحل وعاشق مرغوب بحماسة ومروض لجموح النساء الأصليات. أما الأصليون من الذكور فهم اما مغتصبون حيوانيون أو مخنثون غير مكتملي الرجولة، مما يحول الفاتح الغربي الى منقذ أو مخلّص. في حين يلاحظ الباحث ايريك ليد أن اقتصار الرحالة والمستكشفين الغربيين على الرجال من دون النساء هو الدلالة الأبرز على فحولة الغرب أو شعوره بذلك على الأقل، «فالأماكن الموطوءة تصبح امتصاصاً للغريب الشاب داخل أرض مؤنثة متأصلنة».

غير أن هذه النظرة الى الشرق لم تتولد من مجرد رغبة البلد «الفاتح» في تأنيث الآخر المفتوح، بل غذتها بقدر أو بآخر الجغرافيا المتصلة بالصحارى اللاهبة والأجساد السمر الملفوحة بوهج الشمس كما غذتها التراجم والمؤلفات الحافلة بالاثارة وروائح الشبق الحادة كما هو الحال في «ألف ليلة وليلة». ان كل تلك العوامل مجتمعة ساهمت، بحسب فوكو، في التمييز بين الهنا والهناك عن طريق الاختلافات المضخمة والمدفوعة الى حدودها القصوى بين أنا الغرب المتطاوس والمعجب بإنجازاته وتقدمه الفكري والتقني وبين آخر لا تترك له أية فرصة حقيقية لتقديم نفسه كما ينبغي بل يرى اليه بصفته عالم الحريم والمخصيين والراقصات والمحظيات والحمامات العامة وأسواق الرقيق والنخاسة. وكان كل ذلك يصب في خدمة الضرورات السياسية والايديولوجية.

لكن ما لم يشر اليه ارفن جميل شك في دراسته القيمة هو أن الشرق لم يقصر بدوره في رد التحية بمثلها للغرب المتباهي بفحولته. واذا كانت الذكورة الغربية تجد في حضورها المادي والجسدي المباشر في الشرق ما يغنيها عن استدراج الأدلة والبراهين الرمزية الأخرى، فإن الذكورة الشرقية المهيضة على المستويات السياسية والعسكرية والثقافية لا تجد ما يسعفها في معركة اثبات الوجود سوى فحولتها الجنسية والغرائزية الصرف.

ففي هذه المعركة بالذات يشعر الكتّاب المستشرقون بأن العناية الإلهية قد انحازت الى جانبهم حيث حقنت أجسادهم بالتوابل والبهارات وكل مثيرات الشهوة في جغرافيا الحضور الشمسي، في حين لم تترك لخصومهم الغربيين سوى أجساد مخنثة وباردة كالثلج الذي يحيق بهم من كل جانب. فكتاب جورج طرابيشي «شرق/ غرب، ذكورة وأنوثة» هو التعبير الأمثل عن انقلاب المعادلة وفق منظورها الشرقي. وفي روايته «موسم الهجرة الى الشمال» يحمل الطيب صالح بطله مصطفى سعيد على مقاومة شعوره بالهامشية والضعف ازاء الغرب من طريق فحولته المشرقية التي تحول الغرب الى موطوء أنثوي. وكذلك هو الأمر عند توفيق الحكيم في «عصفور من الشرق» وسهيل ادريس في «الحي اللاتيني».

المعركة اذاً كر وفر في ذلك الصراع الأبدي بين شقي الأرض المتناحرين ولا فضل لعربي على أعجمي، أو العكس، الا بالفحولة!


(شوقي بزيع)
"الحياة"

التعليقات