ادوارد سعيد... عامان على الرحيل / صالح سليمان عبد العظيم

ادوارد سعيد... عامان على الرحيل / صالح سليمان عبد العظيم
في يوم 25 سبتمبر 2003، رحل عن عالمنا المفكر الأميركي، الفلسطيني المولد ادوارد سعيد، تاركًا وراءه تراثا ضخما من الكتابات التي اشتملت على العديد من الكتب منها كتابه الأول "جوزيف كونراد وتخييلات السيرة الذاتية" 1966، وهو في الأصل رسالته للدكتوراه في الأدب المقارن من جامعة هارفارد، وتلي ذلك "البدايات: الهدف والمنهج" 1975، "العالم والنص والناقد" 1982، "الاستشراق" 1978، "تغطية الإسلام" 1981، "الثقافة والامبريالية" 1993، "تمثيلات المثقف" 1994، "غزة أريحا: سلام أميركي" 1994 الصادر بالعربية في القاهرة، "خارج المكان" 1999، الذي يمثل سيرته الذاتية عن حياته الممتدة من فلسطين مرورا بمصر وصولا إلى أميركا.


هذا بالإضافة إلى العديد من المقالات التي اشتبكت مع التحولات السياسية العالمية مثل غزو العراق، والسياسة الخارجية الأميركية، والإعلام الأميركي المزيف والكاذب، وسلام أوسلو المزعوم مع إسرائيل، وواقع العالم العربي المعاصر. وعبر هذه الرحلة الإنسانية الطويلة التي امتدت 67 عاما، استند مشروع ادوارد سعيد، رغم التطورات الكثيرة التي مر بها، إلى العديد من الأسس والمرتكزات سواء في كتاباته النقدية أو في كتاباته السياسية، إذا جاز الفصل هنا بين سعيد الناقد وسعيد السياسي.

من أهم ملامح كتابات مشروع ادوارد سعيد الفكري، والتي ظهرت بشكل خاص من خلاله كتابه الأشهر "الاستشراق" تأكيده المستمر على عدم وجود معرفة إنسانية محايدة. فخلف كل معرفة تدعي الموضوعية والعلمية توجد قوة ما، توجد سلطة ما، تروم الهيمنة على الآخرين، واستعبادهم، وتنميطهم. وفي هذا السياق، كان كتاب "الاستشراق" محاولة جادة وجريئة لفضح ممارسات المعرفة الغربية المتشكلة خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الأوروبيين.

يكشف سعيد عبر "الاستشراق" أن هذه المعرفة الغربية كانت تهدف بالأساس إلى تنميط الآخر الشرقي وصناعته وتشكيله، ليس وفق ماهيته الحقيقية التي تؤكدها حقائق التاريخ وربما الجغرافيا، لكن وفق هوى الاستشراق الغربي المسلح بقوة المعرفة وقهرها للآخر، وقدرتها الهائلة على التزييف، مستفيدة في ذلك من ترسانة التفوق الغربي العسكري الامبريالي.

فالمستشرقون قد حملوا معهم رؤاهم المسبقة التي أسقطوها على الشرق بدون أي سند علمي، وبدون أية مقاربة إنسانية تقرب بينهم وبين الشعوب والثقافات الشرقية. من هنا يبدو "الاستشراق" هو صوت من لا صوت لهم، صوت المقهورين، في كل مكان، المقموعة حناجرهم، المسفهة تواريخهم، المبتذلة أحداثهم الحياتية اليومية. لم يتوقف هجوم سعيد فقط على استشراق القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، لكنه امتد أيضا إلى الواقع الأميركي المعاصر الساعي عبر معظم إعلامه المزيف إلى نفي الآخر الفلسطيني، والعمل المتواصل على تنميطه في مجموعة مبتذلة من التوصيفات مثل إرهابي، ولاجئ، وغير قادر على التكيف مع الحياة المدنية مثل الآخرين.. إلخ من قائمة هذه التنميطات الحقيرة المهيمنة على غالبية الإعلام الأميركي اليوم.

في القلب من ذلك، يأتي دور المثقف وقدرته على الفضح، وشجاعته في مواجهة كافة صور القهر والظلم والتنميط. فالمثقف هو القادر على تحدي السلطة، هو القادر على قول الحق والدفاع عنه، هو القادر أيضا والمستعد دوما لدفع ثمن كلماته وعدم مهادنة السلطة أيا كانت أنواعها، وأيا كانت ألوانها، وأيا كانت المزايا والعطايا والمنح التي تلوح بها.


كما أن المثقف أيضا، وفقا لسعيد، يجب ألا يهادن الجماهير إذا ما تعارضت أمزجتهم وأهواءهم مع طروحاته وقناعاته؛ فسلطة الجماهير وثقافة القطعان هي شكل آخر من أشكال السلطة يجب مقاومته وفضحه وعدم الخضوع لسلطانه. المثقف يجب أن يكون سيد نفسه وسيد قناعاته التي يجب أن تصب في النهاية من أجل العمل على فك أغلال العقل كما يقول سعيد. لقد كان سعيد عبر كتاباته المختلفة مثقفا نقديا مهاجما لكافة أشكال الظلم والقمع والقهر.

من هنا لم تقف كتابات سعيد فقط عند الدفاع عما يتعرض له الفلسطينيون من قهر وقمع إسرائيلي صهيوني يومي، بل تعداه إلى رفض ما يتعرض له الآخرون المقهورون في كل مكان بغض النظر عن هوياتهم وجنسياتهم وتوجهاتهم. ولعل ذلك هو ما صبغ منهجيته بالتوجه الإنساني الذي جعل كتاباته تبدو للكثيرين متعالية وغير ملامسة لحقيقة الأوضاع المعيشة.

يقول إدوارد سعيد بمناسبة مرور 25 عامًا على ظهور كتاب الاستشراق "أقصد بالإنسانية في الدرجة الأولى كل محاولات فك ما وصفه الشاعر الانجليزي وليام بليك بالأغلال التي يصنعها الذهن للتمكن من استعمال العقل في شكل تاريخي عقلاني، وصولاً إلى فهم تأملي. إضافة إلى ذلك فان النظرة الإنسانية هذه تتغذى من حسها الجمعي المتمثل بارتباطها بالباحثين الآخرين والمجتمعات والمراحل التاريخية الأخرى بحيث لا يمكن القول ان هناك باحثا إنسانيا منعزلا". هذا هو تصور سعيد الإنساني، وهو تصور رغم جمالياته الصياغية، ورغم تاريخيته وممارساته البادية أو المعلنة، يحملنا بعيدا عن تعقيدات الواقع الفعلية، إلى حيث صياغات المثقف الباحث عن حل يرضيه وهو خارج كل الأمكنة.

وفي رأيي أن سعيد الذي أبهرته كتابات ورؤى لوكاتش وجرامشي التاريخية الواقعية، المرتبطة والمتورطة سياسيا ومجتمعيا، وكتابات أدورنو الثقافية، والذي لم تعجبه كتابات دريدا المعتالية، المجاوزة للواقع وأحداثه، والذي اكتشف في مراحل متأخرة من حياته أنه خارج المكان، فلا هو ادوارد الغربي ولا هو سعيد الشرقي، أراد بتبنيه هذا التوجه الإنساني الذي بدا للبعض متعاليا، أن يحل مشكلة وجودية لنفسه بالأساس، قبل أن يحلها حتى على المستوى الفكري والأيديولوجي.

فسعيد في "الاستشراق" لم يكن يدافع عن العرب كما قد يظن البعض، كما أنه في "تغطية الإسلام" لم يكن يدافع عن الإسلام، قدر ما كان يدافع في الحالتين عن حالة ظلم فعلي واقع على تكتل بشري صادف أنه يشتمل على العرب والمسلمين. كما أن سعيد وهو يهاجم السياسة الأميركية الخارجية، كان يفعل ذلك وهو أحد منتجات الحضارة الغربية، الابن البار لها، المؤمن في ذات الوقت بقيمها الإنسانية ودورها في مسيرة التقدم الحضاري البشري.


من هنا فقد كان الحل بالنسبة لسعيد على المستوى الفردي والوجودي والمعرفي يتمثل في هذا النهج الإنساني المتمثل في الدفاع عن المظلومين والمقهورين أينما كانوا وأينما وجدوا. ولعل ذلك هو ما جعله يجاهر ويعلن رفضه للعمليات الاستشهادية التي يقوم بها الفلسطينيون ضد الانتهاكات الإسرائيلية!!

لقد كان سعيد مفكرا كبيرًا قد نختلف معه في بعض التوجهات والرؤى، لكننا لا نملك سوى الإعجاب به، ومحاولة تمثل خطاه. نعجب به حينما ندرك ماذا يعنيه الأمر حينما يختار المرء المواجهة مع اللوبي الصهيوني الأميركي، ومع سدنة الإعلام الأميركي من الكتاب المرتزقة الأميركيين والعرب على السواء. لقد اختار سعيد منذ البداية أن يوجه سهام نقده وهجومه الحاد على السياسة الخارجية الأميركية ورموزها والمدافعين عنها من أمثال توماس فريدمان وبرنارد لويس.

في الوقت نفسه الذي أطلق فيه كلماته الحادة الرصينة تجاه العرب الأميركيين، المتاجرين بالكلمة، الضيوف الدائمين على موائد البيت الأبيض ومراكز صنع القرار والأبحاث الأميركية من أمثال كنعان مكية وفؤاد عجمي وحديثا مأمون فندي. ويعجب المرء من روح سعيد المتدفقة المتألقة التي لا تعرف الكلل والملل في سعيها الدؤوب في نقد هؤلاء الكتاب وفضحهم وملاحقتهم. لم يكن سعيد يمتلك في هجومه المتواصل ضد هؤلاء الكتاب سوى وظيفته كأستاذ جامعي لامع، وسوى قلمه الذي حافظ على طهارته واستقلاليته شاهراً إياه في وجه رموز السياسة الأميركية من جانب، وفي وجه مرتزقة الكتابة سواء أكانوا من الكتاب الأميركيين أو من العرب الأميركيين من جانب آخر.

بقدر ما يجعلنا ادوارد سعيد في ذكراه الثانية نشعر بالإحباط مما آل إليه حال العالم العربي الآن، بقدر ما يمنحنا ذلك الإصرار على مقاومة الظلم أينما كان وأينما وجد. وبقدر ما يشعرنا بذلك القدر من اليأس مما آل إليه حال الكثير من المثقفين العرب المرتمين في أحضان السلطات العربية، المنتفعين بذهبها، بقدر ما يمنحنا الثقة في وجود الكثير من الأقلام الشريفة المقاومة الرافضة لشتى أشكال الابتذال والخضوع والمهانة. رحم الله سعيد في ذكراه الثانية!!


التعليقات