"الآباء من جزيرة العرب" حري أن يدرس في الجامعات الفلسطينية والعربية../ د.سميح شبيب

-

عن دار عناة للطباعة والنشر، صدر كتاب الباحث في الشؤون الإسرائيلية، عبد الحفيظ محارب، بعنوان "الآباء من جزيرة العرب".

يعالج الكتاب موضوع اليهودية وانتشارها، وفقا لروايات تاريخية مقارنة، تستند إلى مراجع معظمها كتبت باللغة العبرية، سبق لها وأن عالجت هذا الموضوع.

ينطلق هذا البحث المعمق، من قاعدة التفريق الحاسم، بين ما هو أسطوري/ ميثولوجي، وبين ما هو تاريخي بالمعنى العلمي المقارن.

انطلقت التوراة من أساطير الأولين، وتم اعتمادها كحقائق تاريخية. وما سبق أن ورد في التوراة هو شبيه بما تناقلته الحضارات القديمة ومنها حضارات: ما بين النهرين، الفرعونية، اليونانية، من قصص أسطورية، عالجت مفهوم الروح والموت والقوة والخلق.

لكن تلك الأساطير لم تكتسب البعد المقدس، مثل أسطورة جلجامش في حضارة ما بين النهرين، وغيرها من الأساطير. ووصف بعض القادة، كالإسكندر المقدوني، بأوصاف تفوق القدرة البشرية، وقيام حضارات قديمة، بتعليل انتصاراتها، بقدرة أبطالها الأسطوريين.

ما ورد في التوراة شيء، وما جرى بشريا وميدانيا شيء آخر.
قامت الحركة الصهيونية منذ مؤتمر بازل، بمحاولة الإفادة من الأساطير التوراتية، وتوظيفها سياسيا في حشد اليهود، عبر مشروعها. وللأسف، ورغم دعوتنا لمحاربة الصهيونية، والتصدي لأبعادها الإيديولوجية، إلا انه لم يتيسر لنا بحث عميق وجاد حول نشوء اليهودية ومفهوم العبرانية، رغم بروز بعض الأبحاث التي عالجت الموضوع، ولكنها لم تتناول لب الموضوع وجوهره. ما قام به الباحث عبد الحفيظ محارب، هو تناول هذا الموضوع بعيدا عن "المسلمات" التي هي في الأساس، ميثولوجيا ليس إلا.

قسم المؤلف بحثه إلى أربعة فصول، تناول الأول منها: "من الجزيرة العربية إلى الهلال الخصيب"، أما الثاني، فتناول "الأنوية الثلاث" يهودا، أدوميا، يطور. وتناول الثالث، "الانتشار الواسع (لليهودية)، انتشار فكرة وليس شتات جنس"، أما الرابع والأخير، فتناول "مملكة يهودية على ضفاف الفولغا".

الكتاب يقع في 256 صفحة من القطع المتوسط، وهو وإن كان يعالج هذا الموضوع بلغة مكثفة، إلا أنه امتاز بالتكثيف غير المخل بالمعنى، وكانت كل جملة فيه تأخذ بيد ما قبلها وما بعدها، بحرفية قل نظيرها.

في الفصل الأول، يدرس الكتاب، وعبر أربعين صفحة، التاريخ المتخيل، كموش ويهوه وصكوك حيازة الأراضي، وتقديس آلهة الغير، ومفهوم العبري، عبيرو خبيرو/ شاسو، ونماذج من الرسائل حول الخبيرو، وأثر الروايتين: التوراتية والتاريخية، والأسباط العشرة المفقودون.

وفي الفصل الثاني، الأنوية الثلاث، يعالج الباحث تأثير الحضارة اليونانية ومقاطعة يهودا " يودايا"، والثورة الحشمونية، وعهد يوحنان هوركنوس 135-104 ق.م وخلفه عهد ألكسندر وألكسندرا – يناي وشالوم تسيون، ومقاطعة أدوميا – عرابيا، والعلاقة بين أدوميا ويهودا، هل هو تهود بالإكراه أم عن طيب خاطر؟! وأفول نجم الحشمونيين وعلو شأن الأدوميين. ويتناول هذا الفصل، وبشيء من التفصيل عهد الملك هيرودوس، واليطوريين وانتماءهم، وكيانهم شمال دمشق.

ويدرس الفصل الثالث، وبمعلومات دقيقة وجديدة على القارئ، انتشار اليهودية الواسع، ويتساءل، هل كان ذلك انتشارا لفكرة، أم شتاتا لجنس؟!. انتشرت اليهودية في العالم القديم، وفرضت طقوسها، ومنها طقس الختان، ويستعرض هذا الفصل، أثر ظهور المسيحية على اليهودية، ودور اليهودية في الحواضر الرئيسة في العام القديم، ومنها شمال إفريقيا وبلاد ما بين النهرين والجزيرة العربية.

ويتناول الفصل الرابع "مملكة يهودية على ضفاف الفولغا"، ويستهل الفصل، بطلب ملك البلغار دعم الخلافة في بغداد، ودور أحمد بن فضلان، والعلاقات الخزرية البيزنطية، ومن ثم الانتشار في أوروبا الشرقية، وأبرزها بولونيا وروسيا.

اعتمد الباحث، وبشكل أساسي، على مراجع عبرية، كتبها مؤرخون يهود، إضافة لمراجع دينية، منها التوراة والإنجيل، إضافة لكتب أساسية عربية، منها رسالة بن فضلان، وياقوت الحموي، أبو عبد الله البكري، والمسعودي، وابن النديم، وشمس الدين الدمشقي. قام الباحث بتوظيف هذه المراجع، على نحو نقدي، وفي سياق أحاط بالموضوع، من جوانبه كافة.

ما قدمه عبد الحفيظ محارب في كتابه هذا، هو رؤية متكاملة، موثقة، فيما يتعلق بموضوع اليهودية، بروزها وانتشارها، بعيدا عن الرؤية الميثولوجية، التي سبق للحركة الصهيونية، أن وظفتها في سياق مشروعها الإحلالي العدواني، مع ما يحمله هذا المشروع من عدوانية، ونزعات عنصرية خطرة.

لم يخصص الباحث خاتمة للاستنتاجات، معتمدا بذلك على قدرة القارئ على التوصل إليها، وذلك من خلال عرض شامل ودقيق وعميق، وهو في معظمه جديد على القارئ العربي.

في الختام، يمكن القول إن كتاب عبد الحفيظ محارب، كتاب جديد على المكتبة العربية، إجمالا، لما احتواه من حقائق، تدحض الرواية الصهيونية لتاريخ الشرق الأدنى القديم، وانتشار اليهودية، وأبعادها التاريخية، وهو كتاب حري به أن يدرس في الجامعات الفلسطينية والعربية إجمالا، في نطاق الشرق الأدنى القديم، وهو كتاب مرجعي يمثل ردا عربيا، موضوعيا وعلميا على أساطير طواها الزمن، ومازالت توظف صهيونيا في مشروع استعماري استيطاني وإحلالي، ابتلع الأرض الفلسطينية، وقام بتغيير معالمها وأسماء جغرافيتها، ولا تزال له أطماع، ترتكز في الأساس، إلى أساطير، وليس إلى وقائع تاريخية حقيقية، هذا ما يكشفه كتاب "الآباء من جزيرة العرب".

التعليقات