دائرة الطباشير القرضاوية/ أحمد إغبارية

-

دائرة الطباشير القرضاوية/ أحمد إغبارية
لا يزال القرضاوي، بما يمثله من فكر، ينهل من المحفوظات السلفية، ولا يزال الحاضر بالنسبة له تمظهرًا للماضي وظلاً من ظلاله. وهو بهذه الروح، لا يريد لمسلم أن يبرَح الكهف الأفلاطوني العتيق الراتع بالسواد، فلا يسمح له إلا بمسامرة جسده الملقى والمنهك ومناجاة ما تمثل أمامه من أشباح، ويحظر على أحلامه وهواجسه أن تتسلل إلى الخارج ولو لفسحة قصيرة.

بعد يوم دامٍ في العراق يُقتل فيه –بشكل عام- مئة من العراقيين، تأتي إطلالة القرضاوي المهيبة والمغلفة عبر شاشة "الجزيرة"، فيمسك بأسماع المشاهدين، ويأخذ بأبصارهم محلقاً بهم فوق بساط من الريح في رحلة يكسر خلالها جدار الزمان، ليعرّج على شخصيات متحفية- كابن حنبل وابن تيمية وابن عبد الوهاب وليستأنس بعظامها وضجعة موتها.

إن كان لا بدّ من الإنصاف أولاً، أقول إن الرجل نجم إعلامي حقيقي له حضوره اللافت أينما حلت قدماه، فهو يظهر في الفضائيات أكثر من أي رئيس دولة- ويقيم في قطر رغبة في المكوث إلى جوار فضائيته الأثيرة، "الجزيرة"، وليدبّر انطلاقًا من مكان إقامته هذا شؤون إمبراطوريته المترامية الأطراف.

إن كان لا بدّ من الإنصاف تاليًا، أقول إن "الجزيرة" قد دشنت حقبة مشرقة في تاريخ الإعلام العربي صار العربي، خلالها، يرى العالم بطريقة جديدة. بيد أن أي تقريظ يسجّل لها لا يعفيها من هفوات لا تنفك تسقط فيها، فالفضائية التي رفعت شعار "الرأي والرأي الآخر" فصلت قبل شهور- وعلى نحو تعسّفي ينمّ عن رسوخ بعض من قيم الإعلام العربي الرجعي الذي زعمت طيّه- مراسلها في موسكو، أكرم خزام، لا لشيء إلا لأنه أبدى رأيًا آخر في أحد المؤتمرات الفكرية، خالف فيه ما ذهب إليه آخرون من سلفيين وخلافهم. في المقابل، نجد أن الفضائية إياها قد أفشت شعارها المذكور بفضفاضية مضحكة وبسخاء عربي أتاح للموقف الرسمي الإسرائيلي أن ينعم به فيهرول مراسلوها إلى المتحدثين الإسرائيليين كلما نزلت مصيبة بالفلسطينيين، جاعلين بذلك الاحتلال "رأيًا آخر" والتصفية الجسدية "رأيًا آخر" وهدم البيوت "رأيًا آخر"...

في الحلقات القرضاوية (حيث يظهر القرضاوي بشخصه أو عبر ممثل عنه) الأمر مختلف، تحدث هناك الغرائب، يُنحّى الآخر جانبًا: الآخر- الفقيه العقلاني، الآخر- الليبرالي، الآخر- العربي المسيحي والآخر- المرأة. والحق أن الرجل متمرّس بتقنيات الخطابة المعسولة، يعرف المفردات التي تطرب لها الأذن ويرقص لها القلب ويتثاءب منها العقل، وهو إلى ذلك يبسط يده ويلوّح بها بشكل أخّاذ خاصة حين لا يسعفه لسانه. والأغرب من كل ذلك أن محاوري القرضاوي، وهم من المذيعين المشهود لهم وممن يشار إليهم بالبنان في مقارعة السياسيين والمفكرين العتاة، ينقلبون في حضرة القرضاوي إلى لاعبين مسالمين يحاورونه في ملعبه ويسألونه عن كل ما يحبّ أن يُسأل عنه.

يُحكى أن سليمان الحكيم قد نظر في نزاع على طفل وقع بين إمرأتين، كل ادعته ابنًا لها، فأمر بشطره على أن تأخذ كلّ منهما نصفًا، فتنازلت إحداهما عنه بغية إبقائه حيًا، عندها فقط أدرك سليمان أنها هي الأم الحقيقية فحكم لها بالطفل.
لكن "عدل" صاحبنا القرضاوي يقضي بشطر الطفل حقًا وبحل المسائل المطروحة من خلال قتلها وتغييب الإشكال الحقيقي الكامن فيها. وهو إذ يتحدث ملء شدقيه، لا يوجد رأي آخر بل رأي أخير يفرض به جوًا من الكهنوت يغتال أي إحساس بالنقد، فتصبح كلمته قولاً فصلاً، وينظر في المشكلات بما ملك من حنبلية مستدعيًا منطقه الماضوي والتشويهي، ويصبح مثله كمثل ربة البيت التي أرادت تنظيف بيتها من الأوساخ، فجمّعتها تحت السجادة وغطت عليها عوضًا عن كنسها في الخارج.

وبعد، ماذا يمكن أن يحدث لو أُبلِغ القرضاوي أن عليه الظهور في برنامج "الاتجاه المعاكس" حيث الرأي في مواجهة الرأي الآخر حقيقة؟
-إمّا أن يدخل الأستوديو ممتعضًا ليواجه مذيعًا مشاكسًا وكابوسيًا هو فيصل القاسم فيتبيّن له بعد حين أنها الكاميرا الخفية، وإما أن يحزم أمتعته ويغادر قطر ليتعاقد مع فضائية جديدة ويقيم إلى جوارها.

التعليقات