رشاد أبو شاور في "سفر العاشق"../ حميد سعيد*

رشاد أبو شاور في
منذ بدأ وعي القارئ، يتشكَّل عندي، أدركت إنه يتحرك بين قطبي انبثاق الأسئلة والبحث عن إجابات، ولطالما أنتج أفكارا ومقولات تسبق الكتابة، ومن ثَمَّ ترافقها، ولهذا التشكل تاريخ عند أي قارئ وجد نفسه وقد تورَّطَ في ممارسة الإنتاج الثقافي، وهذا الوعي، يظهر بعد القراءات الأولى وقبل الكتابة.

وفي ما يخص القصة القصيرة، كان وعيي بها ملتبسا، إذ كنت أبدي إعجابي ببعض نماذجها، أجنبية كانت أم عربية، غير أنها ظلَّت تشكل الحدَّ الأدنى، في ما أقرأ من أجناس الأدب، والأكثر إثارة لأسئلة تتعلَّق بكتابتها، والأبعد عن تناولها والكتابة عنها وإبداء الرأي فيها.

في المرحلة الأخيرة، ومنذ أن أثير موضوع اقتراب القصة القصيرة، كجنس أدبي، من أفولها، وجدتني أعود إليها، وكأن الذي قيل دفع بي إلى فضاء "ربَّ ضارة نافعة" فعدت إلى ما تيسر لي من دراسات تاريخية ونقدية، نظرية وتطبيقية، وعكفت على ما أتوفَّر عليه، من مجموعات قصصيَّة، موضوعة أو مترجمة، فكتبت انطباعاتي عن بعضها، وسجلت ملاحظات عن البعض الآخر. وكان مما قرأت، مجموعتين قصصيتين للكاتب الصديق رشاد أبو شاور هما "الموت غناء" إذ أعدت قراءتها و"سفر العاشق" وهي آخر مجموعاته القصصية حتى الآن.

إن علاقتي بكتابات رشاد أبو شاور، تمتد إلى زمن غير قصير، ولطالما وجدت فيها، سرديَّة كانت أم مقالية، ما يحببني بها، ويقرًّبني إليها، فهي كتابات لا تشغل قارءها بالتنطع إذ لا يستعير لها أقنعة ولا يدخلها في المتاهات.

إن الكاتب - أي كاتب - حين يتحرَّك في فضاء تتعدد فيه أنواع الكتابة، تغدو أدوات عمله، أقرب إلى الوحدة، غير أن الموهبة والخبرة، تحققان سمات كل نوع من أنواع الكتابة في محيط التجنيس.

إن رشاد أبو شاور، في مجموعته القصصية التاسعة "سفر العاشق" وبعد تجربة في الكتابة امتدت إلى ما يقرب من أربعة عقود، أغنتها تجربة ثقافية عميقة وأخرى حياتية استثنائية، يشتغل بوعي إن "القصة القصيرة قادرة على قول الكثير في مساحة محدودة" وإنها "ليست فنَّاً سهلاً، بل هي الفن الذي يسبر أعماق الإنسان وتحولاته وأشواقه".

إن القصص القصيرة في "سفر العاشق" تذهب في المروي حيناً وفي المحكي حيناً آخر. وقد عرف الكاتب، كيف يلتقط، ما يبدو، طارئا وعرضيا ومباغتا، ليؤسس عليه، وهو كما يقول الروائي أحمد المديني، وهو كاتب قصة متميز: "إن بطل القصة القصيرة، ربما كان إنسانا فرداً، أو لحظة إجتماعية معينَّة، أو مفارقة عابرة، وهي تعتمد التكثيف والإيحاء والتلميح وترميز الواقع".

في "سفر العاشق" كان رشاد أبو شاور، مُهيَّأً، للذهاب إلى حيث يصل هدفه من القص، كما أشار إلى ذلك، غير واحد ممن كتبوا عنه، إنسانا أو كاتباً، بل حتى الذين اقتربوا منه صديقا، مؤكدين، ما يؤهله إلى هذا الذهاب، سواء في ما سمع أو رأى أو قرأ، فهو يذهب بقارئه إلى أن "يضحك حتى البكاء، وما يبكي حتى الإختناق" كما قالت بطلة قصة "البكاء في الميترو".

تضم المجموعة ثماني وعشرين قصة، تتباين في مواضيعها وقضاياها وأبطالها ودوافع انبثاقها، كما تختلف، أمكنةً ومرجعيات زمنيّةً، وتتوحد في الموقف الإنساني والوعي الإيجابي، وتتناول حالات ومواقف وإشكاليات فردية، فمعظم أبطال قصص المجموعة، أفراد تميَّزوا بحضورهم وشفافيتهم. وهي تتوحد كذلك، في لغتها التي تتسم باليسر والوضوح والقدرة على التبليغ والوصول إلى المتلقي.

إنها لغة تداولية، ثرية ومتوازنة، حيث لم يتَّكًئ أبو شاور، على اللغة الشعرية، إلاّ حين تتطلَّب طبيعة الموضوع، كما كان ذلك في قصة "رجل مبعثر" مثلاً، كذلك في ما يتعلَّق، بما هو أسطوري، فليس سوى قصة "صخرة العاشقين" التي كانت على تماس مع الأسطورة الكنعانية، دون أن تنغلق عليها، فاشتغلت المخيلة، بمثابة الفعل الذي يقترب بها من الحاضر الفلسطيني، لا أن يذهب به إلى الأسطورة. ولم يغب الموضوع السياسي، كما لم يغب الموقف النقدي، حين الاقتراب من السياسي، دون أن يتحوَّل الإبداع إلى خطاب سياسي، أو يفرط، بما ينسب النص، إلى القصة القصيرة، كجنس أدبي، ويظهر عدم التفريط هذا في "رأس فارغة" و"القهر" حيث يأتي الموقف النقدي، متضمَّنا في الموقف الفنًّي، وتكون يوميات الحياة، فعلاً مقاوماَ.

إن حياة الفلسطيني، في المخيمات، وجغرافيات الانتظار، طالما كانت مصدرا خصباً، أغنى تجربة رشاد أبو شاور في الكتابة والحقي معاً، وإن قصصاً مثل "دستور.. ياسيدي الشيخ علي"و"أبو عبد الله الحجل" و"عازف الأرغول" لا يمكن أن لا تُعَّد حركات ساحرة، في سمفونية "العوديسا" الفلسطينية. وتنفرد قصة "رجل وحيد مع نفسه" باقترابها من تقاليد نص السرد السايكولوجي، واعتماد تقنية البوح.

وإذ يختلف المكان، تتعدد وتتفرع التجارب، ولأن القصة القصيرة فن الاستجابة للطارئ، في الواقع والذاكرة، في الاكتشاف الآني، أو في العودة للبحث عمّا كان، فإن في قصص المجموعة، التقاطات في العودة إلى مكان، كما في "حبوبية أبي ياسين" و"قبل انهيار البيت" أو في عودة إلى إنسان، كما في "الذي حضر متأخراً" و"نظرة على ضريح زاباتا".

ويشكل السفر معيناً ثرَّاً من التجارب، التقط الكاتب منها حالات إنسانية رائعة، أنتج منها قصصاً شديدة التميز، إبداعا وموقفاً، مثل "في حديقة هاينا" و"سائق كريتي غيور جداً" و"العجوز والحمام ".

إن أروع ما قرأت، من نصوص سرديَّة، هي التي تتقمصني أحداثا وأبطالاً وأمكنة، وتستقر في ذاكرتي، وكأنني عرفتها وعشتها، وإن شخصيات مثل أبو عبد الله الحجل وفتاة المترو وأبو ياسين أعرف أنها سترافقني طويلاً، أتذكَّرها حيناً وأحاورها حيناً آخر.

* كاتب وشاعر عراقي

التعليقات