صناعات خفيفة

-

صناعات خفيفة
ذات صباح أطلت امرأة من النافذة، ونادت جارتها. وما إن ظهرت هذه الأخيرة في نافذتها، حتي بادرتها الأولي قائلة :
- يا جويرتي، أريد أن أتشاجر معك.
فردت عليها الجارة الثانية وكلها دهشة :
- ويلي، وماذا فعلت لك ؟
- ويلك ؟ فلتغرقي في الويل ما غرق البصل في الطين.
ولكم أن تتصوروا بقية ما حدث. وإذا كنتم لا تريدون تبديد رصيدكم من الخيال في هكذا ترهات، فلكم فقط أن تسألوا كل من شهد الوقيعة من المارة وسكان الأحياء المجاورة عما آلت إليه الأمور في ذلك الصباح.

ما حدث بين تينك الجارتين في أحد الأحياء الشعبية وجد له صدي في بعض الأحياء الراقية، ومنها أحياء الثقافة حيث البيوت جرائد ومجلات، والنوافذ أعمدة وحوارات... أما المارة فهم القراء طبعا. فصار الكاتب يفتح النافذة صباحا ليقول لمن في النافذة المقابلة : صباح الشر. فيرد له الآخر التحية بأشر منها. ثم يسترسلان في التراشق بالأفكار والمبادئ والأخلاق والمثل العليا وكل ما راكماه عبر السنين من رصيد معرفي. فيطلع القارئ الكريم من خلال أحدهما علي أصل وفصل الآخر، وكيف كان في الماضي البعيد قبل أن يصير ذا منكبين ثقافيين عريضين يوسعان له الطريق إلي المجد. ثم يعرف من الثاني أن الأول مدين للجفاف والجوع بوجوده الثقافي، إذ لولاهما لما هاجر جده لأمه إلي المدينة، ولكان الآن قيدوماً لأحد المراعي... وهكذا... أقصد: هكذا أصبحت تورد الإبل يا سعد. إن النوافذ والشرفات هي عيون العمران. ولا بد أن العبقرية التي ابتكرتها كانت تفكر في الشمس والهواء والعصافير، ولم تفكر قط أن بعضها سيصير إلي فوهات جميلة لإطلاق نار الكلام علي عواهنها. كذلك الأعمدة والأبواب الثابتة والحوارات... فهي ابتكارات صحافية ذكية الغرض منها تصريف اليومي وتخليد العابر وتسليط الوضوح علي الغامض من المواقف والأفكار... وهي الأغراض التي يضيق بها ذرعاً بعض الصحافيين فيحولون شرفاتهم إلي منصات لإطلاق الأحقاد، الشيء الذي يعزز رصيدهم بمزيد من الأعداء.

بعض الناس ما إن يقطنوا حيا جديدا حتي يفتعلوا شجارا مع أحد ساكنيه، ليصبحوا بعده مرهوبي الجانب من طرف بقية السكان. وهي الوصفة الناجعة التي بدأت تعمل بها بعض التجزئات الثقافية، إذ أن المقص الذي يقطع الشريط في حفل التدشين غير المرئي هو نفسه الذي يخلف ندوبا بارزة في أكثر من وجه. إن صناعة الأعداء ليست بالشيء الهين. فهي تتطلب رأسمالا من البهتان ليس في ملك الجميع، لذلك فإن الذين يتعاطونها يتمتعون بمواهب نادرة. فهم يتحدثون عن أعدائهم الإعلاميين (وليس بينهم روبرت مردوخ طبعاً) ويقصدون بهم تلك الحدائق التي بدأت تندلع خضراء خضراء بعيداً عن مياههم الملوثة وشموسهم الاصطناعية، مع أنهم يملكون هكتارات كثيرة في جرائدهم التي كانت إلي عهد قريب، مسيجة بالصبار ومحروسة بالفزّاعات والنباح. كما أنهم يتهمون من لا يشاطرهم الملل والنحل بانعدام الموهبة. وكأن هذه الأخيرة لا بد لها أن تنشأ وتترعرع، شأن مواهبهم، في نفس المراعي حيث الماء والكلأ يقاسان بنفس الحبل القصير المربوط إلي وتد رمزي. ومن هؤلاء، أيضا، من يستعدي عليه الآخرين، حتي إذا انجرّوا إلي رغبته أشهد عليهم الناس وانخرط في دور الضحية. وقد يُبدي تسامحاً مشهودا إزاء ظالميه المفترضين حتي يكبر في عيون الصغار.

يعتقد البعض أن مزيداً من الأعداء يعني مزيداً من النجاح. لذلك تجدهم في أبوابهم ونوافذهم وحواراتهم، ومن باب المناورات والتحرش الثقافي، يطلقون عيارات طائشة قد تصيب قارئا (ربما يشاطرني نفس الاسم) فتقدح الكتلة المهملة من الكبريت الذي في جسده، فإذا هي نار دونها ثروته من الماء. هي حرب إذن، وقودها القراء والمارة. ولن تطفئها حتي خراطيم الماء كتلك التي أشهرها رجال المطافئ تحت نافذتي الجارتين بعد أن تناهت إلي أنوفهم رائحة الحريق في مطبخيهما.

لقد عرفت بداية العهد الجديد بالمغرب ازدهارا للكلام لم يسبق له مثيل. فاغتني المعجم السياسي بكلمات جديدة، وانضافت جرائم كثيرة إلي لغة القضاء، أما الصحافة التي يشكل الكلام عمودها الفقري، فقد انتصبت بعد الانحناء العضال الذي كان قد ألم بها قبل سنوات طويلة. وهكذا، فما من مجال حيوي إلا وله نصيب في ثروة الكلام التي تم اكتشافها كما لو بشكل مفاجئ. ولئن كان وقت المرء يضيق عن إحصاء هذه الثروة، فإن احتمال أن يكون الكثير منها مزيفا يجعله يعدل عن مجرد التفكير في الأمر. ومع ذلك، فإن العهد الثقافي الجديد وما أفرزه يغري بالوقوف قليلا عند بعض الكلمات التي بدأت تتكرر في انتظار أن تتقرر. وأهمها ما يندرج في خانة الألقاب التي جعل البعض يغدقها علي نفسه وعلي آل بيته أحيانا من دون وجه حق.

فقبل سنوات ضبطت أحدهم متلبساً في إحدي المجلات المشرقية بلقب دكتور، مع أن الجامعة لم تكن أصلا من بين محطاته الدراسية. فبدأت أعير بعض الانتباه إلي مسألة الألقاب هته، فإذا الكثير من الكتاب يفعلون نفس الشيء لمجرد أنهم ينوون فعلا أو قولا تحضير الدكتوراه. فكما لو أن الألقاب بالنيات. أفليس من قبيل العُنَّة الإفراط في التظاهر بالفحولة ؟ ثم ألا يضاعف صنيع هؤلاء احترامنا لبعض المثقفين الذين شاخت شواهد الدكتوراه في أدراجهم دون أن يستعملوا منها دالا واحدة علي أغلفة مؤلفاتهم العديدة؟ إن "انتحال شخصية" الذي يطوله التسامح الثقافي هو ما جعل الكثيرين يقدمون أنفسهم كدكاترة وأساتذة باحثين وشعراء ونقاد ... علي صفحات العديد من المطبوعات مع أن الكثير منهم بالكاد يعرف القراءة والكتابة. ومن لم يجد في نفسه الجرأة علي ذلك، فإن من بين عشيرته من يتكلف بالأمر. هكذا إذن ستطفو فقاعات كبيرة علي سطح المستنقع الثقافي. من بينها الشاعر الرائد (لكأن كل من استطاع الصعود إلي سطح منزله فهو رائد فضاء)، والفنان المبدع وهو كل ضلالة حقيقية، والكاتب الكبير وهو ذلك الذي أوسع الأدب ركاكة والحياة قلة أدب علي مدي أربعين عاما، حتي إذا خرج من عرينه المفترض إلي الهواء الطلق بدا أغبرَ كما لو أنه من أهل الجُحْر.

إن بعض هؤلاء الكبار يستحق دكتوراه فخرية في العقم، ومع ذلك فمن بني جلدته السياسية من يصر علي تقديمه علي أنه "البُضْع الذي لا يقرع أنفه"، بل منهم من يذهب إلي حد المطالبة بطبع أعماله الغاملة تعميماً للغثيان.

إنني أخشي أن يعتقد القراء الأجانب أنه إذا كان هؤلاء هم دكاترتنا وكتابنا الكبار، فإن باقي الكتاب لم يسبق لهم أن دخلوا المدارس. فإذا كان أقزامنا عمالقة، فلا بد أن ذوي القامات العادية لا يُرون بالعين المجردة.

إن بعض الكتاب والصحافيين يقدمون صورة فظيعة عن واقعنا الثقافي، فيما يتصورون أنهم يقدمون له خدمات جليلة. فبدل أن يعالجوا الجسد من أمراضه، فإنهم يطلقون علي الأمراض تلك أسماء في منتهي الصحة والعافية.

إن الكبار كبار بأعمالهم رغم أنوف الصغار، والصغار صغار بضآلتهم وضحالتهم ولن تشفع لهم أنوفهم الكبيرة التي يحشرونها في كل صغيرة وكبيرة، ولا ألبوماتهم الكاملة من الصور جنب أعلام الفكر والثقافة. لذلك، فإن الخارطة الثقافية تحتاج إلي مسح طبوغرافي لتحديد مياهها الجوفية طالما أن الكثير من المياه السطحية مصدرها قِرَبٌ مثقوبة ما إن تجف حتي تنبعث منها تلك الرائحة. إذا كان لمجتمع ما أن يوقع علي وثيقة وجوده التاريخية، فلن يجد أصدق من الثقافة بصمةً، ومع ذلك هنالك من يعمل علي تزوير البصمة تلك، غير عابئ بما قد يسفر عنه صنيعه الفظ هذا.

إنني استهجن أن تتحول الثقافة إلي مجرد حكاية يدافع فيها الشاطر حسن ببسالة (وللبسالة هنا أكثر من معني) عن دوره ودور أصدقائه في حبكتها، ضاربا عرض النسيان أدوار الآخرين. إنني أغبط أولئك الذين يسمون القط نمراً، ليس علي جرأتهم - هل هي جرأة؟- فحسب، وإنما لكونهم لا يحمرون خجلا حين يُكذِّب المواء ادعائهم. فبعض الأذيال تهتز مزهوة بانتمائها لنفس الجسد الذي يحمل في الطرف الآخر منه رأسا لا يحتاج لأكثر من مرآة حقيقية ليعرف رصيده الكامل من الذل.

تكاد ظاهرة الألقاب هذه أن تكون قاسما مشتركا بين معظم الدول العربية والذين يروجونها يعتقدون أن بإمكان المرء أن يكبر بالقول بسرعة أكبر مما لو بالفعل كما يعتقدون أن الوقوف أمام الكبار ورفع الكلفة معهم، قد يجعل منهم قامات محترمة: فكما لو أن الحصاة ليست أخت الجبل.

قبل أكثر من عشر سنوات قرأت خبراً يتعلق بالصين، وقبل شهرين تقريبا قرأت خبرا مماثلا عن اليابان. وفي كلا البلدين شعب عملاق بإنجازاته، والتي لا يكاد يخلو منها منزل في العالم. ففي الصين كما في اليابان ارتفع متوسط طول الفرد بأكثر من عشرة سنتمترات وهو أم لا دخل للكِتاب الأحمر فيه كما جاء في الخبر، وإنما يعود الفضل إلي تغييرات جذرية في نظام التغذية، الشيء الذي استفاد منه كل من كان لا يزال في طور النمو، نستطيع نحن أيضا أن نفعل نفس الشيء في مجالنا الثقافي فنضيف فعلا بعض السنتيمترات إلي قامة الكاتب ووضعه الاعتباري، وذلك بترجمة نتاجنا إلي لغات أجنبية بنفس الهمة التي نترجم بها إلي العربية أعمالا لكتاب صغار في بلدانهم. وبالانفتاح علي أشكال جديدة للنشر مما أصبحت تتيحه وسائل الاتصال الحديثة، وجعل النشر بصيغته القديمة متناسبا مع التوزيع، حتي لا يظل وضعنا الثقافي أشبه ما يكون برأس برناردشو الذي علق مرة علي صلعته ولحيته الكثة بقوله : وفرة في الإنتاج وسوء في التوزيع. فبسبب معضلة التوزيع يظل الكثير من الكتاب غير معروفين لدي كتاب آخرين، ليس في البلدان المجاورة فحسب، وإنما في نفس البلد أحيانا. فكما أن القطار لا يحتاج إلي قاطرة فقط، بل أيضا إلي شبكة من السكك الحديد، فإن الكتاب، وهو كائن ذو أجنحة طبعا، يحتاج إلي فضاء صالح للتحليق.

هي دعوة إذن إلي من يهمهم الأمر ومن بينهم طبعا من ارتأوا، ولو بحسن نية، أن يضاعفوا من شأننا، فأضافوا أصفارا كبيرة علي يسار الثقافة.

يعود آخر عهد لي بالتاريخ إلي بسمارك ومترنيخ، وهما علي التوالي الاسمان الشخصي والعائلي لمدرس الاجتماعيات التي أطال - أطال الله في عمره- في الحديث عن هذين العلمين التاريخيين إلي حد أن صار هما معا، فانفض الجمع من أمامه في غياب جماعي مشهود سارت بذكره الفتيات والفتيان، زملائي في ذلك الفصل الدراسي القديم. ومع ذلك، فإنني أحبه، أحب التاريخ وأقدره بسبب الشعر الكثير الذي يجري في عروقه، ولأن لي ذاكرة غير مأمونة الجانب، تحتفظ لي بالحروب في مكان المعاهدات، وبالمؤتمرات في خانة المجازر... فقد ارتأيت أن أركز جهدي فقط علي التواريخ أطرح بعضها من بعض وعلي الأسماء أقرأها صحيحة ومعكوسة، عسي أن يكون لي في ذلك عبرة، فما التاريخ كله سوي سلسلة من العبر. فكيف بدأ الأمر؟

ذات يوم بعيد انتبهتُ، إثر عملية طرح بسيطة، إلي أن رامبو رحل عن سن السابعة والثلاثين. ولما كان قد كتب كل أعماله، عدا الرسائل، بين السابعة عشر والعشرين من عمره، فإن حياته بدت لي متماثلة تماما بالنسبة لمركز تماثل ذي نواة مضيئة اسمها الشعر الشيء الذي جعلني مدمنا لعملية الطرح هاته، طرح الميلاد من الوفاة، خصوصا بعد بروز العدد سبعة وثلاثين كعدد شعري لا يضاهيه في ذاكرتي الآن سوي العدد الذهبي الذي يكمن وراء الكثير من نسب الجمال، فعن سن السابعة والثلاثين تقريبا رحل الكثير من فلذات الأرض: رامبو، لوركا، السياب، ماياكوفسكي، غسان كنفاني، جميل حتمل، أبو لينير، فان غوخ... والقائمة طويلة. وإذا كانت مداعبة التواريخ تفضي إلي هكذا نتيجة، فإن اللعب بالأسماء لا يعدم متعة. فطارق بن زياد مثلا لم يسبق له أن طرق باب الأندلس، وإنما فتحها بنفسه علي مصراعيها ثم ألقي بالمفاتيح رمادا في البحر. وموسي بن نصير أرسل طارقا إلي الأندلس حاملا رسالة الإسلام وليس اليهودية (مع أنه موسي)، أما الهزيمة النكراء التي لحقت بأهل الأندلس فهي النقيض الصارخ للنصر الصغير المتضمن في اسمه : نُصَيْر. ولا بد أن لعبة الأسماء هذه قد انتقلت مع أجدادنا إلي هناك، فإن هي إلا قرون فقط حتي ظهرت مع فاتح آخر منهم هو كريستوف كولومبوس الذي فتح "العالم الجديد" في نفس السنة التي أغلقت الأندلس ما فتحه طارق بعد أن قتلت ما قتلت وطردت ما طردت من أحفاد جنوده. وكريستوف كولومبوس لم يحمل رسالة التسامح والسلام إلي جزر الهند الغربية مع أن في اسمه مسيحا/Christ ويمامة/Colombe يبشران بذلك، وإنما حمل كل أسباب الإبادة، إبادة البشر وأسباب حياته، حتي أن قتل البافالو، وهو من الثدييات التي كان يعيش عليها سكان الأرض الأصليون، كان صنيعاً يجزل له العطاء. ولقد صور ذلك شاهد من أهلها هو آرثر ميللر في مسرحيته "الهنود".

لا أعرف ما إذا كان المسلمون قد حملوا معهم التاريخ الهجري إلي الأندلس أم لا، والأرجح أنهم فعلوا. أما الأوروبيون، فلكي يحافظوا علي تاريخهم، عمدوا إلي محو تاريخ القارة الجديدة وكتابة تاريخ ميلادها الذي يبدأ بهجرة كولومبوس، نبيها الأول والأخير.

قبل سنوات أصدرت باحثة ألمانية كتابا عن حضارة المايا، جاء فيه أن هذه الأخيرة عرفت نظاما للعد systٹme de num‚ration متطورا جدا، لم يكن للحضارات القديمة من مثيل له سوي عند الفينيقيين. ولما كان هؤلاء أصحاب تجارة فالأرجح أنهم قطعوا البحار لأجلها وسبقوا كولومبس إلي أمريكا بعدة قرون. الكتاب تضمن قرائن أخري أكثر إفحاما، ما أثار ضده موجة من السخط والتنديد من طرف أمريكا التي تحرص علي أن لا ينغرس أحد في أرضها أعمق من ناطحة سحاب. فهي تعتمد، في بناء تاريخها، علي هدم التاريخ فمن قتل البافالو وطمس حضارة السكان الأصليين إلي قصف بلدان عريقة بمعالمها ورموزها، تكون قد أعطت الدرس للقيطتها "إسرائيل" التي أظهرت نجابة لا تضاهي ليس باقتلاع الأشجار وتسميم الماء فقط وإنما حين ارتأت هدم الجغرافيا أيضا. فقد احتاجت نزولا عند رغبة التاريخ (تاريخ مخيلتها) أن تنغرس في أرض الآخرين أعمق من معابدهم. ولما كانت تعيش خارج فصيلتها فإنها مستعدة لحفر البلاد بلا هوادة بحثا عن عظام الهدهد.

إن أهم ما في التاريخ هو الأسماء والأرقام، أما الوقائع فيمكن الاعتبار بغيرها. فالمصالح المشتركة والحدود والنزاعات والمجازر ولجان المساعي الحميدة... ليست حكرا علي التاريخ : إنها تجري أيضا في نفس الحي الذي أقطن فيه بشكل مصغر. ومن جيراني من يبدي حصافة أكثر من غاندي، كما أن منهم من يجعلك تكتشف كم كان ستالين وديعا.

ليست الوقائع، بل الأرقام والأسماء، الأسماء التي تبدوا مستعارة، كما لو أن الشعراء هم من اقترحها علي المؤرخين، في سعي مشكور منهم لتطعيم التاريخ ببعض الإنزياحات.
في أوائل التسعينات من القرن الماضي استرعي انتباهي الرقم 501 الذي بدأت ألاحظه مكتوبا خلف سراويل الجينز، وأحيانا علي بعض القبعات الصيفية.

لم تدم حيرتي طويلا، فقد اشتريت سروالا ونزعت مستطيل الورق المقوي الذي خلفه فإذا مكتوب عليه: صنع في الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1993. وبطرح 501 من 1993 نحصل علي 1492، وهو تاريخ اكتشاف أمريكا طبعا، وهو أيضا تاريخ سقوط غرناطة. وعليه، فنحن الآن نعيش تاريخا جديداً حسب التقويم الأمريكي. أما مستطيل الورق المقوي المكتوب بغير الهيروغليفية طبعاً فهو بمثابة رقيم علي الطريقة الأمريكية.
لا الوقائع ولا الأسماء إذن، بل الأرقام ما يصنع التاريخ.
وهاهي الأرقام تستنفر كل سحرها لأجلنا من الصورة الرقمية والصوت الرقمي...

حتي...الإنسان الرقمي : قريباً علي شاشتكم.


(سعد سرحان - القدس العربي)

التعليقات