"عارٍ وسط الذئاب" الفجر يولد في معسكر اعتقال

-

على رغم ان كل التواريخ الرسمية للحرب العالمية الثانية، وتواريخ الفظائع التي ارتكبتها الجيوش الألمانية تحت سلطة النازيين خلال تلك الحرب، تحدثت خلال العقد الذي تلا تلك الحرب عن أن ضحايا النازية، من المدنيين بخاصة، في البلدان التي احتلتها جيوش هتلر، كانوا من فئات عدة، من ديموقراطيين وأناس عاديين وغجر ويهود وكاثوليكيين وغيرهم، ناهيك بالشيوعيين الذين كانوا في كل بلد من البلدان المحتلة، أول الضحايا قتلاً ونفياً واعتقالاً. فإن كل ذلك أمحى، بقدرة قادر، خلال المرحلة التالية ليتركز الحديث، فقط على اليهود الذين اضطهدهم هتلر، وكانوا في الواقع يعدون بالملايين ويكادون أن يشكلوا كل اليهود القاطنين أوروبا، ولا سيما المانيا نفسها وبولندا، والمجر وغيرها، بحيث سرعان ما نسي كل الضحايا الآخرين لحساب التركيز على الهولوكوست وبالتالي تصوير الحرب العالمية الثانية، كلها، بصفتها مجزرة نازية ضد اليهود.

طبعاً ليس ثمة أي شك في أن اليهود عانوا كثيراً على أيدي النازيين... غير ان الواقع يقول لنا انه كان ثمة، دائماً، ضحايا آخرون وأجناسأبيدت بكاملها. لكن للتاريخ نزواته... وكانت تلك من نزوات هذا التاريخ. ومع هذا كتب أدب جم، ونشرت دراسات عدة وبحوث واحصائيات... غير انها كلها لم تصل، لمجرد انها كانت تركز على تنوعية ضحايا هتلر. والأكثر ايلاماً من هذا، هو انه حين كانت مثل تلك الدراسات أو البحوث تنشر، كان القراء أنفسهم يستنكفون عن قراءتها على نطاق واسع، لأنها كانت... بالنسبة اليهم، أشبه بالالتفاف على حق «الضحايا الحقيقيين». غير ان هذا كله لم يمنع، ولا سيما داخل بلدان ما كان يسمى بـ»الستار الحديد» في ذلك الحين من انتشار أعمال أدبية تقول شيئاً آخر غير السائد. أو تقول، بكل هدوء وتواضع، ان الكل كان من ضحايا هتلر ونازييه.

من هذه الأعمال رواية تبدو الآن منسية بعض الشيء، كما ان كاتبها نفسه يبدو بدوره منسياً ولا سيما انه رحل عن عالمنا، وبدأ اسمه ينطفئ في زمن كانت الأحداث الكبرى تغزو العالم، وكذلك في وقت كانت الدعاية الصهيونية والاسرائيلية، من طريق الصحافة والكتب والسينما وشتى فنون توصيل الأفكار، سيطرت تماماً على كتابة تاريخ تلك المرحلة، بحيث ان أي كلام – مخالف ومهرطق – كان يدمغ بالتحريفية. والرواية التي نذكرها قد لا تكون كلية المخالفة والهرطقة، لكنها لم تكن ولن تكون أبداً من النوع الذي يستسيغه محتكرو المحرقة.

الرواية عنوانها «عارٍ وسط الذئاب» وكاتبها اسمه برونو آبيتز، وهو كاتب الماني لم تشتهر له على أية حال أعمال أخرى كثيرة، بحيث كادت «عارٍ وسط الذئاب» ان تعتبر عملاً وحيداً له. فعمَّ تتحدث هذه الرواية، ولماذا أحيطت بالتكتم في الغرب على رغم انها ترجمت الى لغات عدة؟

تتحدث ببساطة عن آخر أيام النازية، ولكن منظوراً اليها من داخل معسكر الاعتقال في بوخنفالد في المانيا، الذي كان يعتبر من أكثر معسكرات الاعتقال تنوعاً «سكانياً» وأهمية، لأنه المكان الذي حشد فيه النازيون، ومنذ ما قبل اندلاع الحرب، السجناء السياسيين، من مثقفين ومناضلين حزبيين مناهضين للسياسة الهتلرية. فهذا المعسكر الواقع غير بعيد من فايمار وتورنغي، افتتح منذ العام 1937، وشكل جحيماً بالنسبة الى كل مثقف أو فنان أو مناضل يجرؤ على ان يتلفظ بكلمة تعترض سياسات هتلر. وهكذا خلال السنوات الفاصلة بين افتتاح المعسكر، وانتهاء الحرب في العام 1945، راح فيه عدد «السكان» في بوخنفالد يزداد تدريجاً، حتى وصل الى نحو خمسين ألف معتقل قبل ان تحط الحرب أوزارها. ومن هنا حين اعتقل الكاتب برونو آبيتز الذي كان عضواً في الحزب الشيوعي الألماني، منذ العام 1933، وضع في بوخنفالد، حيث بقي ثمانية أعوام، حتى حرره وصول السوفيات والأميركيين الى المكان وإلحاقهم الهزيمة بهتلر. لذا كان من الطبيعي للكاتب حين أراد ان يعبر عن تجربته في الحرب، أن يتحدث عن وجوده في المعتقل... لكنه آثر أن يقصر حديثه على ما حدث خلال الأسابيع الأخيرة، حين راحت تتناهى الى المعتقلين أنباء هزائم النازيين، فيضعون كل آمالهم في وصول الحلفاء اليهم لتحريريهم. وكان من الطبيعي وسط ذلك الجو المشحون، ان تزداد شراسة النازيين... اذ، بداهة، حين يحشر الفاشي ويجد نفسه يعيش أيام بطشه الأخيرة يزداد بطشاً وشراسة.

كان نتيجة ذلك، بالطبع، ان تضاعف عدد السجناء الذين تتم تصفيتهم، يوماً بعد يوم. ولكن، في المقابل، ازدادت رقعة الأمل لدى السجناء، وجلهم من الألمان الشيوعيين والديموقراطيين والكاثوليك، حتى وان كان جزءاً لا بأس به منهم، من اليهود... ولكن من اليهود المعتبرين من أهل اليسار. بل ان الكاتب جعل رمز روايته ومحورها، ونقطة الأمل فيها، طفلاً يهودياً في الثالثة من عمره وصل داخل حقيبة مغلقة بعد ان تم انقاذه من مذابح غيتو فارصوفيا. وهذه الحادثة حقيقية... أما آبيتز فإنه استخدمها واستخدم الطفل صاحب العلاقة فيها، كنقطة ربط بين أحداث جعل خلفيتها تدور حول التنظيم الذي فرضه الأسرى الشيوعيون على الحياة داخل المعتقل، على رغم أنف النازيين، من أجل تسهيل العيش على الأسرى البائسين، ولكي يتمكن كل واحد منهم من أن يحافظ لنفسه على حد أدنى من الكرامة الانسانية. في البداية يكون كل شيء هادئاً وروتينياً. ولكن، اذ يتواكب وصول الطفل مع استشراء أنباء اقتراب الحلفاء، يتواكب عمل المناضلين، في السر للحفاظ على حياة الطفل، ونقله من مخبأ الى مخبأ بعيداً من أنظار الحراس النازيين الذين دروا بأمره وبدأوا يبحثون عنه للتخلص منه، يتواكب هذا العمل مع العمل – السري أيضاً – للاعداد لانتفاضة داخل المعسكر، غايتها اعداد المكان لوصول الحلفاء والالتفاف على القوات النازية المرابطة هناك. والحقيقة ان الجزء الأكبر من صفحات الرواية يضم مشاهد رائعة حيوية ومملوءة بالتفاصيل يصف فيها المؤلف، ميدانياً كيف كان يتم ذلك كله في الوقت نفسه: تهريب الأسلحة، اخفاء الطفل، تنظيم الحياة اليومية، الاتصال بالخارج، الحصول على الأخبار، تأمين المؤن... وكل هذا في عمل دؤوب ومنظم قاده شيوعيو المعتقل كما يؤكد الكاتب، الذي كان هو نفسه، في حياة الاعتقال يقوم بقسم كبير من الأعباء التي يصفها في الرواية. وفي مواجهة هذا يصف لنا الكاتب كل ضروب التعذيب والاغتيال التي راح يتعرض لها المناضلون فتزداد حدتها كلما اقترب الحلفاء كما أشرنا.

أما الصفحات الأجمل والأقوى في الرواية فهي الأخيرة، على رغم امتلائها بالتوتر والقتل... ذلك ان الأمل خلالها كان بدأ يكبر بصورة جدية، بل كاد خلالها نشاط المناضلين يصبح شبه علني، على رغم كل العقبات. وكل هذا وسط خضم القلق والتساؤلات، ولا سيما في ما يتعلق بالقضية المحورية: متى علينا ان نعلن تمردنا ونبدأ النضال العلني المسلح؟ ان طرح مثل هذا السؤال هو الذي مكن الكاتب من أن يقدم هنا صورة بالغة القوة لمسؤولية مناضلين مثاليين، يعرفون على رغم حماستهم، كيف يعون المخاطر ويدرسونها، انما دون أن يُحبطوا الوصول الى هدفهم... كما ان الكاتب عرف كيف يعود دائماً وبين فصل وفصل الى الطفل/ الرمز وقد راح ينتقل من يد الى يد في وتيرة يتزايد ايقاعها أكثر وأكثر.

ولعل أجمل شيء في هذه الرواية الفريدة، هو أن البطولة المطلقة فيها ليست لأحد: فالكل هنا هو البطل. والطفل هو الرمز، اشارة الى العالم الجديد الذي سيولد من رحم تلك الفظاعات، ووسط مجتمع صغير/ كبير، تحكمه تنوعية عرقية وفكرية ولغوية تبشر بقيام عالم الانسان غداً.


"الحياة"

التعليقات