في نقد النوسطالجيا../ د.عبد الله البياري*

-

في نقد النوسطالجيا../ د.عبد الله البياري*
(لقد عامل المزاج الثوري والنفسية الثورية، الإصلاح عبر التطور التدريجي Evolution، كنقيض للثورة، Revolution، أو كإجهاض لها وتآمر عليها)

كانت تلك العبارة للمفكر والمبدع د.عزمي بشارة قد استوقفتني مرارا ومطولا لدى قراءتها، لأنها شرحت وبإسهاب سهل ممتنع العقلية والمنطقية الثورية المؤدلجة أيا كانت، وعلاقتها بتيارات الإصلاح السياسي، ولا يمكنني استثناء حركات الإسلام السياسي –الثورية حاليا والتي تختصر الاسلام في السلطة – من تلك التيارات، وذلك لأن علاقة الإسلام السياسي كمزاج ونفسية وحتى أجندة ثورية، وكأي توجه ديني سياسي، لم تعامل ذلك الأخير كمجرد نقيض، إنما أضفت على طرفي تلك العلاقة الضدية أبعادا قيمية، انعكاسا لاستحواذ الحق الالهي المطلق وما يستتبع ذلك من عقلية مؤامراتية تبرر دوما إزدواجية دائرية مفرغة تقوم على وجود.

1. مخلص :


على صورة ملك آخر الزمان الذي سيأتي ليخلص العالم من شرور آخر الزمان، يوم يكون القابض على دينه كالقابض على الجمر، ذلك المخلص هو عقلية أفضل رقابيا، لها القدرة الإلهية على الإخبار بمكمن الخير و الشر، في مصادرة وقحة على العقل الفردي والحرية، واختصارا للمنطق و الملكة النقدية الفردية.

صورة تمثل إسقاطا لأحد اثنين: صنم أو معجزة، وما يستتبع ذلك من جمود النقد أمام خطاب ديني أيديولوجي عاطفي يبرر للعامة المخدرين أي توجه كان سياسيا اقتصاديا فكريا أو اجتماعيا، مما تشهده ساحاتنا من مظاهر مفتي السلطة أو شيخ المعرفة غير المحدودة و الذي يدلي بدلوه الفارغ و المسطح غالبا في القضايا السياسية والاستراتيجية المختلفة متحدثا في الغالب باسم السماء.

إن وجود ذلك (المخلص) هو المبرر الضامن والدائم لانتشار وتسرطن علماء الكلام / النص / النقل، وليس علماء العقل / الفقه، في اختصار واقتصار لعالمية الرسالة الاسلامية في عنصرها السلطوي، وليس عنصرها الأصل وهو الإنساني ليصبح الدين بالمجمل نقلا وليس عقلا، وجمعيا وليس فرديا.

2.عدو:

هو دوما (آخر) شرير، كافر، مادي، غير روحاني، متفسخ الخلق، طامع في إرثنا أيا كان، وجوده هام لوجود المخلص.
ولأن كل هذه الأوصاف تستدعي وتجند منطقا واعيا وباطنا يغرس في العقل والخريطة الإدراكية رفضا لذلك الآخر بالإجمال، فقد تطور ذلك الرفض ليبلغ حد الاقصاء والإلغاء لتأثيره وإرثه ومنتجاته ودوره المعرفي إنسانيا. لذا يصعب على المراقب للعقلية الإسلامية السياسية -حاليا- ملاحظة أي حضور لإزدواجية (الأنا والآخر) بمنحى أفقي وليس رأسيا، وذلك –وكما سأشرح في المقال المقبل الذي يتناول النوسطالجيا في الخطاب والاستقراء التاريخي بالتفصيل– هو السبب في جعل القراءة التاريخية للحضارة الإسلامية مختصرة في:

1- قراءة سلطوية تتغنى في حكم الفرد الواحد ومركزية السلطة وتهاب المدنية وأسئلتها واستحقاقاتها.
2- قراءة جزر معزولة :جزيرة الأمويين، العباسيين الأندلس.. وما إلى ذلك، وهي قراءة تغفل حضور الآخر وتأثيره في الانتقال من جزيرة لأخرى. مما جعل الفكر الانساني هو فكر استقطابي أيديولوجي في حين أنه قائم أفقيا على التفاعل بين الـ(نحن) و الـ(هم) أي الـ(أنا) و الـ(آخر).

وأخيرا بعد (المخلص) و(العدو) تأتي النسبة الأكبر المغيبة و المخدرة وهم العامة أو الجمهور:

هم المغلوبون على أمرهم في انتظار معجزة تزيدهم خدرا ينتشون به ويحتسبونه عند خالقهم، مقيدون بعقل رقابي تقوده أصنام وفكر رقابي يجعل العامة رقباء على أنفسهم ومصدرين للأحكام من باب القص و اللصق عن الصنم/ الشيخ أو العالم الفلاني، من دون أي عقلية إطلاعية نقدية تسمح بوجود الإختلاف وتعترف بالفردية. عامة جل ما يملكونه هو متثاقفين مزدوجو المرجعية، وأصحاب قراءات موجهة يعيشون تحت سقف الفكر الرقابي، ينتجون فقط خطابات استقطابية وعاطفية مثقوبة، وسآتي بالتفصيل على تلك النقط : الخطاب.

كلمة نوسطالجيا تعني في أبسط صورها (الحنين)، إلا أنها ههنا عنت (الحنين) المرضي، وعموما من مشاهد النوسطالجيا :

* الإزدواجية:


قديما في المجتمعات الانسانية البدائية الأولى والتي تطورت من منطق طبيعي مادي يضمن سيطرة الذكر الأقوى، خرجت قاعدة الأغلبية، والتي أضفت صورة جديدة على مبدأ القوة وهي الأغلبية. فكان حكم الأغلبية هو وسيلة إتخاذ القرارات، ولكن ومع تطور الزمن والوعي والفكر الإنساني وبزوغ علوم السياسة، تبدى للعقل البشري ومنطقه كمية الظلم الواقعة على الأقلية (الضعيفة تبعا لمبدأ القوة )، وما استتبع ذلك من مزايدة على انتمائهم ووطنيتهم في وطن تقوده الـ(أغلبية) وليس الـ(كل)، فحكم الأغلبية هو عزل لإرادة الأقلية وحق تمثيلهم ككجزء من جمعية الوطن للـ(نحن) و الـ(هم).

لذا فقد كان سقوط قاعدة حكم الأغلبية ديموقراطيا هو سقوط منطقي ومعرفي يتوازى مع تطور الفكر والمنطق الانساني. وقد كان أول من أشار إلى ذلك جان جاك روسو في العقد الاجتماعي، ومونتيسكو، ومن ثم جاءت مقاربة أيان راند الفلسفية السياسية الأدبية في رائعتها (أطلس متشنج): ATLAS SHRUGGED


وعموما تكمن تلك الازدواجية لدى التعامل مع (حكم الأغلبية) المتوفي اكلينيكيا في نقطتين:

1- المناداة بتغليب المرجعية الإسلامية / مرجعية الأغلبية، لتصبح مرجعية وطن (الداخل)، ليصبح بالتبعية الوطن هو مرجعية ايديولوجية للأغلبية وليس للـ(كل)، وذلك يفسر بشكل أو بآخر ضبابية التعامل مع مبدأ المواطنة لدى أصحاب هذا التوجه، والتي تصل أحيانا حدّ إنكارها رجسا من عمل الشيطان أو استيعابها بميوعة لا يثبتها الواقع ويتغنى بها الخطاب.
2- المناداة بحقوق الأقليات المسلمة في (الخارج)، والمناداة بخروجها على قاعدة الأغلبية مع أنها نفس القاعدة التي ينادى بتطبيقها في (الداخل)، كما حدث حينما اعتبر القرار الفرنسي بمنع الحجاب مصادرة على حقوق الأقليات، في حين أنه قرار اتخذ بالأغلبية البرلمانية، كذلك قرار حظر المآذن في سويسرا والذي تعدت نسبة الموافقة عليه حاجز النصف أي أنها كانت أغلبية، ناهيك طبعا عن الصمت على مظاهر القهر بإسم الأغلبية الدينية – ولو كانت ظاهرية – في بلاد مثل السعودية التي تفرض لباسا معينا على كل النساء.

ان تلك الازدواجية في المعايير لدى التعامل مع (حكم الأغلبية) في ( الداخل) و(الخارج)، تصب في النهاية لتغذي جنبا الى جنب مع استحواذ الحق الالهي المطلق بالأفضلية، العقلية المؤامراتية واستحواذ دور الضحية البريئة، مما يشرح الكثير من مشاهد العزلة التي يعاني منها الفكر الإسلامي السياسي – حديثا في التاريخ المعاصر-، وكما هي تلك التي تعاني منها الاقليات المسلمة في أغلب دول العالم، والتي غالبا ما تساق ضمن الإحساس بالغبن والاستهداف مجتمعيا وعالميا، لذا لم ولن تنمو تلك المجتمعات لتصل لوصف (الغيتو)، إذ أنها دوما ثائرة على تركيبة الموزايك الخاصة بمجتمعاتها، والموزايك الدولي العالمي بالنسبة لذلك التوجه على أساس أنه علاقة ثابتة الطرفية بين جان وآثم بالإطلاق وضحية بريئة وشهيدة.، لذا فعندما يخرج مثال من تلك الأقلية ليتفاعل ويتأقلم مع مجتمعه بأغلبيته وأقليته تنهال عليه الأضواء ويصبح أعجوبة وعلامة فارقة، ويتم تصويره على أنه عنتر زمانه متغلبا على الصعاب القهرية التي وضعت في طريقه، في حين أن من وضع تلك الصعوبات هي العقلية المؤامراتية الانطوائية، وجل ما قام به هو الاندماج مثل غيره في منظومة لا تتوقف أمام الأفراد بل أمام الاستحقاق الفردي والجدارة الفردية.

* الأيديولوجيا الاستقطابية:


عندما تصبح المواطنة انعكاسا واستحواذا لأيديولوجيا الأغلبية دون الأقلية، تصبح حينها أيديولوجيا استقطابية، أي أن المواطنة حينها تصبح مواطنة استقطابية، تخدم وتعرف الأغلبية كامل التعريف والربط بالوطن، ولا يكتمل تعريفها وتقديمها للأقلية، وما ينتج عن ذلك من ديباجات جاهزة التطريز مثال ذلك: (ولاء الأقلية غير مضمون) و (هم متهمون حتى تثبت ادانتهم)، متناسيين أن ذلك رد لفعل.

* صكوك الشهادة والغفران، وصكوك التكفير و اللعنات:


لا يمكننا قراءة تلك المشاهد وملاحظتها بعيدا عن توازي ظهورها مع بداية عصر الانحطاط والتدهور الذي دخلته الحضارة الاسلامية بعد قيام الدولة العثمانية بقليل، فتلك المشاهد لم تكن لتظهر قبل دولة الاسلام في الأندلس، والتي شهدت زخما فكريا ومعرفيا وحضاريا جما لم يتدن يوما لتصدير أي صورة من صور العنف والتكفير، وإن كانت قد ظهر فيها أدعياء للنبوة ومصدرون للخرافات الفكرية والتجني على شخص الرسول وديننا الكريم، إلا ولأن الحضارة كانت مبنية على افكار لا سلطة ولا أفراد، فلم يعرهم التاريخ ولا الواقع اهتماما لخلو فكرتهم مما يقيمها، فسقطوا وسقطت، من دون أن يسقط عليهم أحد ضوءا.

ومن أعلام ذلك التوجه التكفيري من اتخذ التكفير منهاجا، جاعلا رؤوس المختلفين معه (معالم على الطريق) طريقه إلى جنان الخلد، هو من يسقط عليه الكثيرون أكاليل الشهادة الدينية وما يستتبعها من معية للأنبياء والأبرار و الصالحين وأيضا شفاعة في أهله جزاء لما فعل، إلا أن من يغدقون عليه وعلى ما يمثل من بنك الشهادة، يغفلون نقطتين هامتين:

1- أغلب القراءات لمنتج ذلك الشهيد القطب هي قراءات ممسوسة بمس الشهادة الدينية واستحواذ براءة تصديرها ردا لفعل مورس ضده باسم الحرية وهو القتل خوفا من فكره، أي أنه شهيد حرية الفكر، وليس شهيدا دينيا، لأن ذلك المس بالبراءة واستحواذها دينيا يعطل القراءة الحدثية لتفاصيل الظرف الذي أعطى تلك المنتجات من أحوال سياسية و اجتماعية ودينية وغيرها، مما يعطي لمنتجاته بعدا مرجعيا مطلقا يسمو فوق الظرف.

2- إن إضفاء عنصر الشهادة الدينية على صاحب أفكار مثل تلك التي وردت في كتاب (معالم في الطريق) مثلا، إنما هي شهادة براءة وإثبات لأحقية وشرعية قتل وتعنيف الآخر المختلف بعد تكفيره، كما أنها اعتراف بأن قتله وممارسة العنف ضده إنما هو: دفاع عن الدين أو المال أو العرض أو الأرض، تبعا للمنطق الاسلامي للشهادة – دينيا، مما يجعل الأختلاف إنما هو صراع بقاء وصراع دفاع عن الحياة ودفاع عن النفس وهو مبرر، بل وتباركه السماء أيضا وتجازي فاعله جنان الخلد ومعية الأنبياء والصالحين والشفاعة لأهله.

إلا أنني وللأمانة الأدبية لا أنفي عن السيد سيد قطب أنه شهيد الحرية، لأنه قد مات دفاعا عن أفكاره ومبادئه، وإن كنت لا أوافقه عليها، بل و أعارضها أشد اعتراض، إلا أنني لا أستطيع أن ألبسه ثوب الشهداء / دينيا، لأنني لا أوافق على قتل المختلف أيا كان.. أو هكذا قال الدين الذي يصادرون عليه ويحتكرونه.

إن الخدر الذي تنتجه صكوك الشهادة و الغفران، بجانب صكوك التكفير، إنما هو مخدر موضعي يصيب ضمن ما يصيب العقل الانساني الفردي النقدي لسببين:

1- إسقاط الخيرية حقا الهيا في الـ(نحن)، لذا فلا داعي لنقد الخير.
2- إسقاط الشر في ال(هم)، وأيضا الحلال بين والحرام بين.

وقد كان غياب العقل النقدي الفردي واضحا وشديد الوضوح في رد قاتل الكاتب فرج فودة، وأيضا ذلك الذي حاول قتل نجيب محفوظ، ولأنهما كانا مساقين ومغيبين كان العقل الفردي النقدي لديهم غير موجود فعندما سئلا: "أقرأ أحدكما شيئا من كتابات من تكفرونهم؟"، كانت الإجابة طبعا: لا.

إن ذلك الخدر يقسم الناس لقسمين اثنين:

الأول سادة يملكون التفويض السمائي والإلهي بالتفتيش في القلوب وتصنيف الناس وإصدار الصكوك بنوعيها والوكالة عن الله، وتعليب الأحكام النمطية. سادة يعيدون تصدير صورة الآلهة باستخدام الأنظمة الرقابية السلطوية وتجنيد الكثير من العبارات الزئبقية المائعة التي لا يمكن الإمساك بها ضمن مبدأ الـ"مع" أو الـ"ضد"، وهي في النهاية مبرر وانعكاس لمبدأ "الغاية تبرر الوسيلة".
الثاني عبيد غرست لديهم المحدودية والدونية الفكرية التي شلت في النهاية العقلية النقدية الفردية وملكة التأويل والتخيل والإبداع، وجندتهم سدنة فكر رقابي سلطوي في سجن كبير يراقبون بعضهم بعضا، من دون السمو لمستوى الفكرة، والتوقف لدى سياسيات التكفير الأعمى وتنفيذها.

إن علاقة السادة والعبيد من هذا المنطلق أدت إلى امتداد قيود (الثبات) الخاصة بـ(إلهية) الـ(التنزيل) للنص الديني إلى أن طالت (ديناميكية) (انسانية) الـ(تأويل) لذا النص الديني، مما جعل أي مقاربة ينادي بها أصحاب ذلك التوجه السلطوي ساقطة (واقعيا) وذلك لـ(ديناميكية) الظرف والواقع، و(ثبات) إسقاط النص (الثابت) منذ ما يزيد عن الـ 1400 عام وغياب العقلية النقدية وكونها استحواذا لعلماء كلام.
ليست (الشورى) هي المثال الوحيد الذي وصل الانتشاء بقدسية النص فيها حد تعطيل أي تأويل ونقد للتطبيق.

في النهاية –نهاية هذا الجزء- وددت أن أورد مثالا يوضح مدى تقيد العقل الفردي كنتاج للفكر السياسي الديني السلطوي:

قيل لي تعليقا على إختياري لكلمة (نوسطالجيا) عنوانا لهذه السلسلة من المقالات أن ذلك الاختيار لا يناسب الفكرة المطروحة في المقال وهو كما قصدت (الحنين) المرضي، لأن التعريف الوارد في الموسوعة البريطانية (الانسيكلوبيديا) لم يورد تعريف خارج التعريف التاريخي لها. وكأن (النوسطالجيا) هي معلومة صلبة مادية لا تمس.
إن تعليقا هشا وسطحيا وأجوف كهذا ما هو إلا إنعكاس لظاهرة حصار التأويل الإنساني بسلاح "القص واللصق" أو كما تقال بالعامية (حافظ مش فاهم).

وطبعا إذا سئل هؤلاء:
أيجب علينا أن نصادق بالمطلق وأن نغيب الملكة النقدية الفردية والجمعية بهذا الشكل القاصر؟ وبالذات عندما نقرأ مثلا تعريف (الصهيونية) في نفس الموسوعة البريطانية (الإنسيكلوبيديا) ؟
وطبعا...لا اجابة.

للحديث بقية

التعليقات