لماذا كُتبت رواية ( حارس التبغ)؟!../ رشاد أبوشاور

-

لماذا كُتبت رواية ( حارس التبغ)؟!../ رشاد أبوشاور
لماذا كُتبت هذه الرواية؟ سألت نفسي هذا السؤال بعد أن فرغت من قراءة رواية الكاتب والمترجم العراقي علي بدر( حارس التبغ)، ومن ثمّ وجدت أن أفضل جواب هو طرح السؤال على من قرأوا الرواية، لعلّهم يجيبون على سؤالي الذي لم أهتد إلى جواب له.

لم أكتف بقراءة رواية علي بدر، فقد قرأت بعدها رواية ( بريد بغداد) للكاتب التشيلي خوسيه ميجيل باراس.

وجدت أن رواية علي بدر مأخوذة تقنيا عن رواية الكاتب التشيلي، وهذا ليس اتهاما، فمن قبل قرأت رواية ( باب الشمس) ووجدت أنها استفادت إلى حّد بعيد من تقنية رواية ( باولا) للتشيليّة إيزابيل أللندي، وصبّت في ( القالب) الفنّي جانبا من المعاناة الفلسطينيّة المُختلفة عن معاناة ( باولا) الفرديّة، والتشيلي المعاصرة.

روايات عربيّة هّامة استفادت من تقنيات مسبوقة عالميّا، وهذا لا يُعيبها، ولا ينتقص منها، إذا ما نجحت في إقناع المتلقّي، ولم تكن هجينة، ومفتعلة، وتقليدا لا مبرر له، وهذا ما تحقق للمعلّم غسّان كنفاني في روايته ( ما تبقّى لكم) التي استفاد في كتابتها من تقنية الروائي الأمريكي وليم فولكنر في روايته ( الصخب والعنف)، وهو ما شجّع روائيين عربا أن يقتدوا بكنفاني الذي حقّق ريادةً غير مسبوقة عربيّا لأنه لم يُقلّد، ولكنه أضاف للشكل الفنّي الذي استقاه من فولكنر.

تحكي رواية علي بدر قصّة موسيقي يهودي عراقي ( كمال مدحت)، قّتل في بغداد في ظروف غامضة عام 2006، وللتأكد من خلفيات اغتياله، أو مصرعه، تنتدب صحيفة ( تودي نيوز) الأمريكيّة - التي نشرت نبأ اغتيال الموسيقار- الراوي ، وتكلّفه بالتوجه إلى بغداد، وكتابة ريبورتاج من ألف كلمة، على أن لا يُنشر الريبورتاج باسمه وإنما باسم جون بارو أحد الصحفيين المهمين في الصحيفة .(ص10)

تبدأ رواية ( حارس التبغ) بأسلوب بوليسي مثير لاجتذاب القارىء: في الخامس من فبراير من العام 2006 وجدت جثّة الموسيقار العراقي كمال مدحت مرميّة على مقربة من جسر الجمهورية على نهر دجلة، من جهة الرصافة. كان قد عثر على الجثة بعد أقل من شهر تقريبا على اختطافه على يد جماعة مسلحة من محل قريب من منزله في مدينة المنصور.( ص9)

تدور أحداث الرواية في حقبة احتلال العراق، وزمن المقاومة، وحالة الفوضى، والاختطافات، والاغتيالات، والتصفيات، وتحوّل العراق إلى بلد أرامل، ومهاجرين في زمن ( الديمقراطيّة)!.

ربما لهذا بدأ علي بدر روايته بهذا الأسلوب الصحفي البسيط والمثير، و.. من ثمّ انتقل إلى شيء من الإدهاش: نشرت الصحف خبر وفاته مثل أي خبر، وبلا تفاصيل، لكن الانعطافة الحقيقية التي حدثت هي حينما نشرت صحيفة التودي نيوز الأمريكيّة خبرا ذكرت فيها أن الموسيقار العراقي كمال مدحت هو يوسف صالح من عائلة قوجان، هاجر إلى (إسرائيل) في العام 1950، في عملية أطلق عليها عزرة ونحمية، أي بعد قرار إسقاط الجنسيّة العراقية عن اليهود ومصادرة أملاكهم.( ص9)

في الصفحة ( 9) هذه تتزاحم معلومات يوردها الكاتب، تستوقف أي متابع لنشوء (إسرائيل) وظروف تهجير يهود العراق إلى فلسطين.. للإسهام في انتزاعها من أهلها وطردهم منها، وإحلال مزيد من اليهود بدلاً منهم.
لم يهاجر اليهود من العراق لأن الدولة العراقيّة أسقطت الجنسيّة عنهم، ولكن بعد عمليات تفجير دبرتها الحركة الصهيونيّة لبّث الذعر في نفوس اليهود، ودفعهم للهجرة كوسيلة وحيدة لإنقاذ أنفسهم!

يوسف سامي صالح هذا كان متزوجا من فريدة روبين عندما هاجر إلى فلسطين، ولكنه ترك زوجته وراءه لأنه لم يطق العيش في ( إسرائيل) فهاجر إلى إيران عن طريق موسكو ..لماذا لم يطق العيش في ( إسرائيل)؟ هناك إشارة إلى أن إميل حبيبي ساعده في الهجرة إلى موسكو! الكاتب يريد أن يوحي بأن الموسيقار كان يساريا، أو من حزب راكاح!

من موسكو انتقل إلى طهران باسم حيدر سليمان، حيث تزوّج من ابنة تاجر ثري فولدت له زوجته ابنه حسين!
انتقل إلى بغداد عام 1958، وبقي فيها حتى العام 1980 حيث تمّ تهجيره كونه إيراني الأصل، وأثناء التهجير ماتت زوجته الفارسيّة!

في طهران عاش لمدة عامين ومن ثمّ توجه إلى دمشق بجواز عراقي مزوّر باسم كمال مدحت، حيث ولدت له زوجته نادية العمري ابنه عمر في بغداد، وكان قد انتحل شخصيّة زوجها الذي مات، وصارحها بالأمر، فقبلت بأن يحّل مكان زوجها الراحل، وأحبته، وتزوجته...

يخبرنا الراوي بأن كمال مدحت كان من أشهر الموسيقيين في الشرق الأوسط، في نهاية الثمانينات!
ما دام الكاتب يريد إبهار القرّاء، بتضخيم حضور (بطله) فطبيعي أن يتلقّى هذا التعليق الذي سينّفس الأسطورة: لكننا لم نسمع بهذا الموسيقار الشهير في الشرق الأوسط الذي يضّم بلاد العرب، وتركيا، وإيران، والأكراد أيضا، وبقيّة الأقوام التي تعيش في هذا ( الوعاء) الجغرافي!

يُنتدب الراوي، وهو صحفي عراقي، من صحيفة التودي نيوز الأمريكيّة للسفر إلى بغداد، لكتابة ريبورتاج بألف كلمة عن الموسيقار المغتال، على أن لا ينشر هذا الريبورتاج باسم الصحفي المنتدب، ولكن باسم أحد المراسلين المهمين في الصحيفة، وهو ما يطلق عليه في العمل الصحفي (البلاك رايتر) ( ص10)

من هنا تبدأ مغامرة الراوي البحثيّة عن (الأسطورة)، وما خلفّه وراءه، وهنا التشابه الكبير مع رواية (بريد بغداد).

على غلاف رواية ( حارس التبغ) يكتب علي بدر: عنوان الرواية مأخوذ من ديوان ( دكّان البتغ) لـ( بيسوا) ، حيث تلتبس حياة واحدة بثلاث شخصيّات مختلفة...

رواية (عام وفاة ريكاردو ريس) للروائي العالمي البرتغالي(خوسيه ساراماغو)، والتي ترجمت إلى العربية، عالجت إحدى الشخصيات الثلاث في ديوان ( بيسوا) الذي يشير له علي بدر، وهي شخصيّة ( ريكاردو ريس)، ومن أراد الاطلاع فالرواية متوفرة، ويمكن له أن يستمتع بأجوائها الغرائبيّة المدهشة، والتي وصفها ساراماغو بأنها لن تكون مفهومة إلاّ من البرتغاليين، أو ممن اطلعوا على ثقافة البرتغال، وتاريخها الممتد حتى حكم الديكتاتور( سالازار) الذي أسقطته ثورة شعب البرتغال التي عرفت بثورة ( القرنفل).

من كلمة الغلاف لفت انتباهي ما أراد علي بدر أن يوحي به، وهو موضوع ( الهويات).. وبعد أن فرغت من قراءة (حارس التبغ)، سألت نفسي: ما دام المؤلف يقدم (بطله)، وقد أنجب يهوديّا من صلبه (مئير)، وسنيّا باسم (عمر)! ، وشيعيّا (حسين)، فهل يكون برأيه هو الهوية الأولى، وأصل الهويات في منطقة الشرق الأوسط؟!

من الأسئلة التي ألحّت على عقلي: لماذا لم نقرأ لهذا الموسيقار المتعدد الأسماء، والمتشبث بهويته اليهوديّة، وانتقاله إلى موسكو، أي نقد للمشروع الصهيوني (إسرائيل) التي انتقل إليها من بغداد باختياره، في حين نقرأ كل أنواع النقد على لسانه للحياة في العراق، وسوريّة ، وإيران؟! لماذا سخريته المركزّة على الموسيقى زمن الحرب، بينما لا سخرية لموسيقى الحرب الصهيونيّة (الإسرائيليّة)؟! لماذا احتقاره للجماهير العراقيّة.. وأسوق بعض النماذج: كان كمال مدحت ينطوي على خوف شديد من النزعة الجماهيريّة. كان يكرهها ويحتقرها، ويخاف منها ( ص314و315).

لقد فكّر مندهشا بالنزعة الإبتذالية التي كانت تنطوي عليها السلطة والشعب معا . كان سلوكها المتعاكس شكلاً من أشكال تقديس الغائط ، شكلاً من أشكال عبادة الدّم، عبادة الفوضى والإضطراب. إنه الإحساس الفّظ والكريه في العيش في عالم معاد، عالم من الأظافر الجارحة. ( ص316)

حكمه هذا ليس على جموع المستوطنين الصهاينة، ولا على وحشية التجمّع الصهيوني، ولكنه على الجماهير العراقيّة.. وهو طبعا ليس المخلّص لها، فهو لم يتسلل إلى العراق لينقذ شعبه، أو يسهم في مقاومته!

من الأمور اللافتة، والتي لم أجد لها مبررا واضحا، أن الموسيقار يكاتب زوجته، وبالحبر السرّي.. لماذا؟ وأين تعلّم الكتابة بالحبر السري، هو الموسيقار الذي لا تحتاج مهنته، وموسيقاه، لكتابة النوطة بالحبر السرّي؟!.. ربّما لأن الشخصيّة هذه في حقيقتها هي هكذا، وهي كشفت عن بعض مكوناتها، رغم ما بذله المؤلّف لتقديمها كشخصية غاضبة مأزومة.. من أجل ماذا، وأي مجتمع، وأي بلد؟!


تتبع الراوي تحركات، وانتقالات موسيقاره، ولكنه لم يُقنعنا بشخصيته الفنيّة- أين إبداعه ؟!- ولا بإنسانتيه الناقدة للمشروع الصهيوني، وما حُرقته من الأوضاع في البلاد التي تنقّل فيها سوى صوت الراوي الذي اتخذه الكاتب- الراوي قناعا، وهو قناع، يؤسفني أن أصفه، بأنه زائف، لا يُقنع، لأنه قناع بالغ الهشاشة، قناع محكوم عليه مسبقا بالانحياز، والعداء، والكراهية، وهو لم يبرهن على غير ذلك.

لا اعتراض على أن تكون الشخصيّة يهوديّة في الرواية، أو أي رواية، ولكن بما يقنع، والشخصية في رواية علي بدر غير مقنعة، لأنها ليست صاحبة موقف، وسلبية التواصل معها ليس مرجعها كونها يهوديّة، ولكن لأنها شخصيّة بلا أبعاد إنسانيّة، ولا معاناة صادقة...

في رواية ( ريكاردو ريس) نقرأ عن الصفات الفيزيائيّة للبطل: شخص نحيل، مثقّف، له نظّارة ذات إطار ذهبي، وهو لطيف وعصبي بعض الشيء في تصرفاته، وأنيق الملبس، وله طريقة في المشي مميّزة.( ص 5 و6)
في رواية علي بدر: شخص طويل القامة، نحيل جدا يرتدي نظّارة ذات إطار بلاستيكي، أنيق الملبس.. علي بدر غير إطار النظّارة فقط!

الله يخلق من الشبه أربعين، وأكثر، ولكن الروائيين لا يخلقون متشابهين، بل مختلفين، وإلاّ فالتشابه له اسم آخر!

كقارئ: لم أتعاطف مع الشخصيّة، بل رأيتها مفتعلة، بعيدة عن أن تكون من لحم ودّم، وهي بلا فكر، ولا رؤية، ولا موقف، اللهم سوى أنها كارهة للأوضاع في بلاد الشرق الأوسط، وهذا لا يجعلها متميّزة، فنحن مشمئزون من الحياة في الشرق الوسط، وأوّل الأسباب وجود (إسرائيل)، وما تقترفه من جرائم، والاحتلال الأمريكي للعراق.. وأحسب أن أحدا لا يرضيه العيش مظلوما في كل هذه البلاد التي تفتقد إلى كل المقومات الإنسانيّة، وتستبّد بأهلها ديكتاتوريّات كريهة غاشمة!

ربّما حادثة واحدة أقنعتني، في الرواية، وهي اختطافه، وقُتله، بعد أن زاره ابنه اليهودي الذي يحمل الجنسيّة الأمريكيّة، في حي المنصور، وبلباسه العسكري الأمريكي. فهل في قتل هكذا شخص غرابة، ما دام العراق يحترق، ويدمّر، وتبطش به قوّات الغزو الأمريكي؟!

أعود للسؤال: لماذا كتب علي بدر هذه الرواية، ومن هو الجمهور الذي تتوجّه إليه برسالتها؟ ولماذا لم يختر شخصيّة عراقيّة عربيّة، أو كرديّة، أو آشوريّة، أوكلدانيّة مسيحيّة، ليقدم معاناتها، ومن خلالها معاناة العراق في زمن الاحتلال؟ ربّما لأن أي شخصيّة طبيعيّة لا تناسب أن تكون ( قناعا) كيوسف صالح، أي حيد سليمان، أي كمال مدحت.. مع هشاشة هذا القناع، الذي لا أدري بأي درجة من الرضا والترحيب سيستقبل ( غربيّا) لو تُرجم.

تُرى: هل كتب علي بدر روايته بهدف الترجمة؟ ..لا أقطع في الأمر، ولذا يبقى سؤالي مُعلقا...

________________

• صدرت الرواية عن منشورات المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر، بيروت، نهاية 2008 .
• صدرت رواية ( بريد بغداد) للتشيلي خوسيه ميجيل باراس، من ترجمة صالح علماني، عن منشورات الهيئة المصرية العامة للكتاب مطلع 2008.
• صدرت رواية عام وفاة ريكاردو ريس ، للبرتغالي خوسيه ساراماغو، الفائز بنوبل للآداب، عن منشورات الهلال 1999، وهي من ترجمة عبد الحميد فهمي الجمّال.

التعليقات