مسرحية خبر عاجل :من منكم لم يكن على خشبة المسرح؟ / رجاء غانم دنف

مسرحية خبر عاجل :من منكم لم يكن على خشبة المسرح؟
/ رجاء غانم دنف
أتاحت لي الظروف حضور مسرحية "خبر عاجل" في حيفا .المسرحية كتبها علاء حليحل وجسّد فيها تناقضات ومفارقات حياتنا الإجتماعية والسياسية والإنسانية. وأخرجها الممثل والمخرج عامر حليحل .
أعرف علاء من خلال كتاباته المختلفة غير المسرحية والتي أراها زاخرة بالتفاصيل وتشكل السخرية المريرة محركها الاساسي. وهذا ما وجدته أيضاً في كتابته المسرحية وفي ذكاء التفاصيل التي التقطها قلمه .شخصياً أرى علاء "صلاح جاهين" بشكل جديد ومختلف ونابع من الظروف والمكان الذي أنتجه.وإن كان صلاح جاهين قد اتجه للشعر وللرباعيات تحديداً ليهيدنا سخريته المرّة التي لا تنسَ فإن علاء اتجه نحو القصص القصيرة وحديثاً نحو المسرح في نصوص محبوكة بشكل ذكي ومبدع .
كلنا صعدنا إلى خشبة المسرح بشكل أو بآخر من خلال الشخصيات المختلفة وتناقضاتها الظاهرة والخفية.في كل مرة ضحكت من قلبي لجملةٍ أو لموقفٍ في المسرحية ،كنت أشعر وكأن قدماي تسيران بخفةٍ نحو خشبة المسرح لأجد نفسي مكان الممثل أو الممثلة في هذا الموقف أو ذاك.
هذا البلبلة ،أو هذا التحدي أعلنه علاء حليحل في كتيب المسرحية " كل مشاهد سيتساءل: هل أنا واحد ممن تسخر منهم هذه المسرحية؟" وكأنه يضعنا في تحدٍ مع أنفسنا ووجوهنا المختلفة.
لم تكتف المسرحية بتوريطنا برؤية تناقضاتنا ،وتناقضات واقعنا المأزوم ،سواء أكان هنا في الداخل الفلسطيني ،أو في الامتداد العربي الذي يعاني من أزمة حضارية وثقافية مخيفة ،ولكنها أيضاً ضربت وبقوة كل مسلماتنا (النمطية غالباً) حول الهوية والانتماء والعلاقات الإنسانية والنوع الإجتماعي.
وجاءت أغنية "إني اخترتك يا وطني" لتجسد هذه الصفعة .فكل من يعرف ويعشق هذه الاغنية ستكون قد مثّلت له عهداَ رومانسياً للولاء ،واختيار الوطن والانحياز له دائماً ،والثورة. ولهذا شكّلت الرقصة المرافقة للأغنية وطريقة أدائها الجديدة صفعة حارة لأننا جميعاً أمام مسؤولية كبيرة عما وصلنا إليه، وما يمكن أن نصل إليه إذا ما أكملنا سباتنا.
صديقتي آلمها أن ترى أغنيتها الخالدة الوطنية مهانة بهذه الطريقة.ولكنني أحببت كثيراً طريقة عرضها لأنها جاءت مؤثرة للغاية.ولأنني عادة ما احترم النبش في المسلمات والبديهيات خاصة عندما تتحول إلى مفاهيم محنطة وضمن قاعدة أننا كلنا بحاجة لإعادة النظر في كل ما نؤمن به "على قاعدة أن لا أشياء بديهية ومفهومة ضمناً "وهذا تحديداً بهدف إحياء المعاني الجميلة والحفاظ عليها من التشوهات التي تحاصرها وتحاصرنا اليوم. إذن هو نبش جميل وواعٍ وأصيل .
السخرية بتجلياتها الرائعة وصلت بنا حتى نهاية المسرحية .حيث لا أحد منا بمعزل عن تخبطات هذا البلد وربما لا أحد منا مهيأ لما يمكن أن يحدث من تغييرات أو انقلابات على كافة الصعد.
إذن نحن بحاجة ماسّة للنظر عميقاً داخل أنفسنا ،ولوقفة جادة وصريحة لربما خرجت الحلول بعد ذلك لمشاكلنا.
لا مستقبل مضمون في هذا البلد ولكن هناك خيارات ولكل خيار ثمن فهل نحن مستعدون لدفع الثمن (وسيم المذيع في المسرحية يستقيل من وظيفته ويشعر أخيراً بالارتياح على الرغم من أنه كان يعتقد أن عمله سيوصله للنجاح والشهرة).
الجيل الجديد كان حاضراً على المسرح بقوة في شخصية رنا والتي لعبت دورها بجدارة وعفوية الممثلة عنات حديد حيث تنتقل هذه الفتاة من فتاة ضائعة الملامح بامتياز ،إلى فتاة وطنية شكلاً بامتياز. وهو شكل آخر للضياع. وهو ما نلمسه كثيراً لدى الجيل الصغير في بلادنا.
القادة أيضاً لم يفلتوا من حبكة هذه المسرحية. فنرى تناقضاتهم ومزاجهم الطاغي على كل شيء حتى على مصالح الناس ونرى ازدواجيتهم في طرح كل الامور فغالبيتهم تغرق في خطاب قومي باهت ،امتدَّ من النكبة الاولى ،حتى نكباتنا اليومية العادية. وكأن هذه الخلطة من التناقضات لا تليق بمكان ،أو بأقلية ،إلا الأقلية الفلسطينية في اسرائيل.
اللغة العربية كانت الذبيحة الأكثر ألماً في هذا العمل وهذا منطقي نظراً لأنها كذلك في الحياة اليومية ،وفي مناهج التعليم المدرسي. فكل كلمة نلفظها بالعربية ،نطعِّمها بكلميتين من اللغة العبرية. وهكذا هو حالنا وشعورنا واهتماماتنا تتشكل من تناقضات لغوية وفكرية لا تنتهي.
المخرج عامر حليحل كان موفقاً في خلق انسيابية جميلة لحركة الممثلين والديكور على خشبة المسرح وفي توظيف الإضاءة والموسيقا في خلق صور صاخبة ومفعمة بالمعاني (خاصة في فقرة الإعلانات).
المطرقة التي دقت بها هذه المسرحية على رؤوس المشاهدين لم تكن من حديد ولكنها كانت من زجاج سميك لأنها امتلكت شفافية وقوة كفيلة بلخبطة أفكارنا المسبقة حول أنفسنا ،واقعنا،لغتنا، همومنا اليومية، وحتى قادتنا.
خرجت من المسرحية وأنا أفكر بمسرح مختلف وجديد ،وربما أكثر فلسفة وعمقاً مما رأيت ،كذلك الذي كنت أتمتع به ،وأراه وانا في دمشق. ولكنني عدت وقلت لنفسي أن دمشق هي عاصمة متنوعة ،زاخرة بالتفاصيل ،والحياة ،والتجارب المتراكمة ،وهنا وضع مختلف وظروف مختلفة أيضاً .
على الاقل مسرحية "الأخوين حليحل" احترمت عقلي ومشاعري وقدمت لي مادة للتفكير والتأمل ،ولم تستخفّ بي كإنسانة وهذا بحد ذاته إنجاز قد يكون بداية لمشاريع مسرحية جميلة وراقية تدفع بالحركة المسرحية في الداخل إلى الأمام وتغني مسيرتها.

.

التعليقات